إن موضوع فض إعتصام، محيط القيادة العامة بالخرطوم، في الثالث من شهر يونيو المنصرم، من المواضيع المعقدة الشائكة، التي إستعصي علي العقل الجمعي السوداني المعاصر، في السلطة و الشارع معاً، من فهمها الفهم الصحيح، و من ثم التعامل الموضوعي معها. لذلك وجب علينا أولاً، التفريق بين ما هو سياسي، و ما هو قانوني، حتي نتمكن من التعاطي الصحيح مع المسألة، بغرض التوجه بها الي الأمام، في مسيرة إنصاف الضحايا، و تحقيق العدالة، و ثم تمتين حكم دولة القانون، و البناء الوطني. من وجهة نظر قانونية بحتة، ينبغي علينا أن نفهم، أن فض الإعتصام وفق الإجراءات القانونية السليمة، لا يعتبر جريمة جنائية إطلاقاً، و لا يعاقب عليها القانون نهائياً، و لا يُجرم قانونياً من أصدر الأمر بذلك، طالما كان قراره هو؛ أن يُفض الإعتصام وفق الإجراءات القانونية المتبعة، كما لمح بذلك الكباشي، في الفيديو المشهور، و لا يجرم المُنفذون العمليون علي أرض الواقع، طالما لم يقوموا بالقتل، و إستخدموا حداً مسموحاً من القوة القانونية المنخفضة. الإجراءات القانونية السليمة لفض الإعتصام، تشمل إنزار المعتصمين بذلك، و إخطارهم بفض الإعتصام، بمكبرات الصوت و غيرها من الأدوات الإعلامية، و إعطاءهم المهلة الزمنية الكافية بأيام، قبل تنفيذ عملية الفض، و حضور ممثل للنيابة العامة، و عدم إستخدام القوة المفرطة في الفض، و عدم قتل المعتصمين، و الإكتفاء فقط بالغاز المسيل للدموع، و خراطيم المياه، و غيرها من وسائل القوة القانونية، التي تمتلكها الشرطة وحدها. من الناحية السياسية، فإن الشارع الجماهيري يجرم سياسياً، من أصدر قرار الفض، و من نفذ معاً، بغض النظر عن الإجراءات القانونية السليمة، و الخطوات العملية المتبعة في ذلك. ليس هناك خلاف و إختلاف، حول التجاوزات القانونية المؤسفة، التي صاحبت عملية فض إعتصام القيادة، الموثقة بالفيديو، و التي ترقي الي درجة الجرائم الجنائية، و الجرائم ضد الإنسانية، و جرائم الكراهية، و التي كانت مصحوبة بحقد شديد تجاه المعتصمين، و عنف مفرط نحوهم، و إستخدام غير مرشد و غير محدود للقوة الخشنة. لنفترض أن أحد أعضاء المجلس العسكري وقتها، بالتشاور مع الآخرين أو بمفرده، و بالرجوع الي فيديو الكباشي، قد أصدر قراراً بفض الإعتصام وفق الإجراءات القانونية المتبعة، و أن من نفذ قرار الفض عملياً، تجاوز تلك الإجراءات القانونية السليمة، قبل و أثناء و بعد الفض، فإن ذلك يبرئ المتهم الأول مُصدر القرار قانونياً، و يُجرم المتهم الثاني المُنفذ الفعلي للفض جنائياً. إذا كان مُصدر القرار بالفض، وفقاً للقانون، قد إتخذ ذلك القرار بمفرده، بدون الرجوع لبقية أعضاء المجلس العسكري سابقاً، فإن ذلك يعرضه، للمحاسبة الإدارية داخلياً، و الإبعاد سياسياً، من أي شكل قيادي مستقبلاً. أما إذا إتخذ المجلس العسكري السابق، قرار فض الإعتصام وفق الإجراءات القانونية المتبعة، و بالإجماع الإداري، فإن ذلك يجعلهم جميعاً، أمام عداء سياسي مباشر من قبل الجماهير، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي الحالي، و لكن ليس هناك تبعات قانونية مباشرة، غير تلك التي تتعلق بالتقصير، و عدم متابعة التنفيذ من الإنحرافات، و عدم التدخل أثناء وقوع التجاوزات. الإحتمال الأخير، هو أن يكون هناك طرف ثالث، أصدر أمر فض الإعتصام، بدون الرجوع الي المجلس العسكري السابق مجتمعاً، و بدون إتخاز الإجراءات القانونية السليمة، قبل و أثناء و بعد التنفيذ. من ناحية القوات المستخدمة في عملية الفض، فهي في الغالب كانت قوات مشتركة، حسب الفيديوهات المنتشرة، و إن طغي مكون من حيث العدد، علي بقية القوات الأخري، و تتحمل تلك القوات المشاركة مجتمعة، الجوانب القانونية المتعلقة بتجاوزات التنفيذ. حتي إذا كان قرار المجلس العسكري مجتمعاً، هو فض منطقة كولمبيا وحدها، وفق الإجراءات القانونية السليمة، فإن ذلك لم يحدث أيضاً، و لم تتبع الإجراءات القانونية في فض منطقة كولمبيا، و تمت تجاوزات و إستخدام مفرط للقوة في منطقة كولمبيا، و بقية أنحاء الإعتصام، و إمتدت الأحداث لتشمل حتي الأحياء السكنية و المدن الأخري، و لم يتدخل المجلس العسكري السابق، لوقف تلك التجاوزات. هناك فرق بين مسألة فض الإعتصام، في محيط القيادة العامة في الخرطوم، و بين أحداث العنف و الفوضي اللاحقة The aftermath، التي إمتدت لتشمل الأحياء السكنية و الشوارع و المدن الأخري، و لا يشترط أن يكون المسؤول عن القضيتين جهة واحدة. بذلك تتحول القضية قانونياً، من قضية "فض إعتصام القيادة"، الي قضية "تجاوزات فض إعتصام القيادة" ، و تصبح القضية مبنية علي الإتهام، علي أساس أن هناك تجاوزات قد حدثت متعلقة بعملية الفض، و يوجه بذلك الإتهام نحو القوات المشاركة مجتمعة، و علي أفرادها المعنيين تبرئة أنفسهم أمام القانون، و يسائل المجلس العسكري السابق، لعدم التدخل و وقف التجاوزات. أما أحداث العنف و الفوضي اللاحقة لعملية فض الإعتصام The aftermath، فتحتاج الي لجنة تحقيق منفصلة، لتحديد المسؤوليات و محاكمة المتهمين. الخطوة الأولي للتحقيق الجاد، في قضية تجاوزات فض إعتصام محيط القيادة العامة بالخرطوم، تبدأ بمعاينة مسرح الجريمة و مسحه، و عملية جمع الأدلة العينية منه، من أعيرة نارية فارغة و غيره، و هذا ما لم يحدث حتي الآن، مما يدل علي ضعف و عدم جدية لجنة التحقيق، و عدم جدية الجهات المختصة المختلفة، من شرطة و نيابة عامة، من قبل تشكيل لجنة التحقيق. ثم تأتي بعد الخطوي الأولي، مرحلة الإستماع للضحايا و الشهود، و أخذ أقوال الجرحي من المعتصمين، و مشاهدة محتويات الفيديو المختلفة و من ثم تحليلها، و توجيه الإتهام الي المشتبه بهم مباشرة. إن التعاطي السياسي مع جريمة قانونية، كما هو الحال الآن في الأوساط السودانية، يضر بالسياسة و القانون معاً، و لا يساهم في فك لغز و طلاسم القضية، و لا يؤدي الي تحقيق العدالة، و يؤدي في النهاية، الي تعقيد المشهد السياسي و تأزيمه. لجنة نبيل أديب الحالية، تمتاز بالضعف الشديد البائن، و عدم المنهجية الإجرائية، و عدم التأسيس القانوني الجيد للقضية، و تعمل في ظروف سياسية بالغة التعقيد، و تحتاج الي الدعم الفني و اللوجستي، الداخلي و الإقليمي و الدولي. أقترح أن تحول القضية، بإعتبارها قضية رأي عام، الي النائب العام مباشرة، أو تحت إشرافه، لقيوم من موقع إختصاصه، بتوجيه الإتهام، و مباشرة القضية، حتي تصل الي نهاياتها، و بإمكانه الإستعانة بالإتحاد الإفريقي و غيره من الجهات، من أجل الدعم الفني، و العمليات اللوجستية المختلفة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.