( 1 ) طرق الأستاذ يسن حسن بشير في مقاله عن العلاقات الخارجية في بابه "قضايا ساخنة"يوم الثلاثاء 16 الجاري في صحيفة "الأحداث"، ، باباً كنت أنتوي طرقه على مهل ، ذلك لأنه باب سميك ولا يتوفر ذرّ كهربائي في واجهته، أستعين به ليسمع القوم القابعين وراءه رنيناً يحضّهم على فتحه والترحيب بي . هو باب من حديد صلب، لا ينفتح بيسر لمن يقصد الدخول ، وقد يُدمي الطرق أصابعك، أو ينقضّ عليك منقضٌ بلباس ٍعقائدي فجٍّ، أو يحاصرك من يضع قناعاً منفراً، فيؤذيك أذىَ نافخِ الكير في نهار غائظ . لكنّي وأنا من كنت أحسب نفسي قاطناً من قاطني هذه الدار ، توجّست خيفة على نفسي وعلى صديقنا الذي يجاورني صفحة الرأي في " الأحداث"، ولا يعرفني إلا من قليل كلامي ، نتفاً أبثها في مقالاتي عن أحوال الدبلوماسية وأحوال علاقاتنا الخارجية ، إذ على حساسية هذا الملف فإنه لن يكون بأيّ حال شأناً محتكراً لممتهني مهنة الدبلوماسية وحدهم ، ذلك أن الدبلوماسية والشأن الخارجي للبلاد، وجهان لأمرٍ واحد لا يكاد يفرق بينهما مفرّق من عامة القراء ، ولكن الفرق موجود وبيّن . في أيسر قول هو الفرق بين الهدف المنشود، وهو إنشاء علاقات حسنة مع الآخر، والوسيلة التي تتخذ لبلوغه، وهي جهاز الدبلوماسية بمؤسساته من سفارات وإدارات وقنصليات وشخصيات من دبلوماسييين وسفراء ووزراء . فتح الأخ المحبوب شهيتنا بكتابه المثير للجدل الجاد: "الحركة الإسلامية السودانية : دائرة الضوء ..خيوط الظلام" ( دار مدارك،2010 ) ، تناول فيه عقد الإنقاذ الأول في عديد بواباته ، ومنها بوابة العلاقات الخارجية. ( 2 ) لقد ظللت ومنذ عودتي بعد انتهاء مهمتي سفيراً للسودان في بيروت، أحرص على المشاركة بالحضور والتداخل، في الجلسات التي ترتب لها رابطة السفراء السودانيين المتقاعدين، عن تجارب الحياة للسفراء المعتقين الذين جاء بذلهم مشهوداً في وزارة الخارجية السودانية لسنوات خلتْ ، وأتاحت لهم هذه الرابطة ، سانحة لرعاية الدبلوماسية السودانية الماثلة، تواصلاً معها وسقاية لجداولها بخبرات ثرّة، ورفدها بتجارب مُعيْنة . لقد شهدت ُعدداً من هذه الجلسات وراعني أن ثمة عزوفاً عن تناول ما لحق ببعض السفراء والدبلوماسيين من أذيً، بسبب سياسات الإقصاء التي اتبعت في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي. ولقد أشرتُ لهذا النقص في طرح تجارب الحياة في مقالٍ سابقٍ ، مستحثاً أن يفصح من تضرروا الإفصاح الكامل عنه ، لا غرو وقد مضى على هذا الأذى، زمان يقاس بعشرات السنين . كيف نقصّ على العالمين تجربة حياة ، نعكف على بداياتها، ونمرّ على محطاتها، محطةً محطة ، ثم ما أن نقف عند محطة الخروج، تجدنا نتراجع إشفاقاً ونتردد تواضعاً . لا أرى المبررات مقنعة ولا مقبولة. فيما خرج رجال مؤهلون من وزارة الخارجية ، في قوائم تتالت منذ نهاية عام 1989 ثم عام 1990 و1991، في مجزرة من مجازر التمكين ، بغرض "تثوير" وزارة الخارجية، ل "توافي أهداف الثورة"،وفق ما جاء من الأستاذ المحبوب في الفصل الذي خصصه للعلاقات الخارجية من كتابه المشار إليه، ذلك أن الكوادر المهنية القائمة في وزارة الخارجية وقتذاك، لا ولن تساعد في حمل رسالة التغيير الإسلامي المطلوب. لن تقوَ على حمل الرسالة ، عناصر لم تنضوِ يوماً لطائفة حزبية معلومة ، ولا يعرفون على طويل مكثهم في ظل أنظمة شمولية طاغية مثل النظام المايوي، إلا التحايل على إلزاميات "القيادة الرشيدة"، وهي من ابتداعات الرئيس الراحل نميري، والعباقرة الذين كانوا وراء تلك الهبة الراشدة، أواخر السنوات المايوية . ترى مَنْ كتب بقلمه كتاب الرئيس : "النهج الإسلامي لماذا؟" ..؟ لا أظن أن الراحل ، كاتب السلطان محمد محجوب عليه الرحمة ،هو من كتبه ، وتلك قصة لا مجال لها هنا ، وقد نعود إليها . الريبة التي تولت القوم في صباحات 1989، حول من يديرون الدبلوماسية السودانية وشأنها الخارجي وعلاقات البلاد الخارجية، هي التي قادت لبتر تلك العناصر، برغم ما عرف عنها من خبرة عميقة وتأهيل عالٍ، وأداء مميز. فيهم العبقريّ الذي يدير التحليل السياسي فيبهرك ، وهو أيضا ممن يهتم بهندامه ويهتم بلون ربطة عنقه ،حريصاً على أناقته حليقاً، وقد لا يحتفظ حتى بشوارب . عند الملمات هم خيرة المفاوضين وأذكى السياسيين . في أوقات الفراغ هم أشخاص آخرون، تأخذهم هواياتهم مراقي شتى . ثمة سفراء سودانيون يصوغون الذهب وينحتون، وآخرون يرسمون ويشاركون في معارض دولية. ثمة سفراء مفكرون يؤلفون ويترجمون . كثيرون فوق ذلك، يلعبون النرد والورق ويمشون في الأسواق مرحا. كثيرون من عباقرة الدبلوماسية يهيمون بالهلال وبالمريخ، كما فيهم من يغشى مراتع التصوف وحلقات الأذكار . ذلكم هو مزاج السودان المعتدل ، فما الذي حلّ بنا في وبعد 1989 . .؟ بإسم التمكين أحيل سفراء بقامة عثمان السمحوني ، الذي عرك قضايا القارة الإفريقية ، فأحسن فهم خباياها، وأفتى في دبلوماسيتها ، ولم تنبُ سهامه ولا طاشت سدىً ، لكنه لا يقبل قولاً باطلا في الهلال ، وأسألوا السفيرعلي قاقارين، نائب وكيل الخارجية الحالي . . بإسم التمكين يتم تأديب قيادة الوزارة في عهد الديمقراطية الثالثة وما بعد سقوط النميري ، سفراء كبار شاركوا في تلك الانتفاضة عام 1985 وانحازوا لخيار الشعب ، جرى قطع دابرهم من وزارة الخارجية بعد 1989، وشُرّدوا في الآفاق . لا .. لم تذهب خبرتهم سدىً بل تلقفتها مؤسسات وهيئات دولية فأحسنت توظيفهم لمصالحها، وخسرنا نحن . بإسم التمكين خرج سفير مثل عزّت الديب ، بخبرة أكثر من ثلاثة عقود في زواريب وزارة الخارجية، وبمهنية سرت في جيناته من أبيه القنصل الكبير بابكر الديب، رحمه الله . أعرف عن السفير المعلم عزت الديب، أنه بعد فراقه لوزارة الخارجية، لم تقترب خطوته من بوابتها إلى التاريخ الحاضر الذي أكتب لك فيه هذه الأسطر، حسرته حية باقية . وبإسم التمكين خرج سفير إسمه سيد أحمد الحردلو شامي. ترى : هل لأنه غنّى لبلده الحبوب ، هوية وانتماءاً،وهو الشاعر الواسع التجربة، أم لأنه لم ينظم قصيدة إسلامية في مدح الحال الراهن وقتذاك، فيما كان يعدّ أوراق اعتماده سفيراً مرشحاً للسودان في بلاد التشيك ؟ بإسم التمكين، قامت لجنة سمّاها الأستاذ المحبوب عبد السلام في كتابه "الحركة الإسلامية السودانية" (2010)، "لجنة مراجعة جهاز الدبلوماسية" السودانية، وذلك في الأشهر الأخيرة من عام 1989، بطرد ثلة من السفراء والدبلوماسيين ، تبيّنت منهم صديقي السفير محمد عثمان بابكر، طيب الله ثراه . تندر أصدقاؤه حين كان طالباً في الجامعة بشاربه الكثّ ، فلقبوه "ستالين"، فكان ذلك اللقب كافياً لإنهاء عمله في وزارة أعطاها ذهباً من عمره، فأعطته حصرماً مرّاً، ذلك أن من يحمل شارباً يشابه شارب زعيم شيوعي قديم في روسيا ، لا مكان له في المشروع الإسلامي في السودان ! بعد أشهر قليلة ، ودّع الحياة ورحل بحزنه الكبير وألمه الممض، إذ لم يتحمل قلبه مكراً حاصره في خريف عمره، وأذىً لحق به هو الذي، من رقّته الدبلوماسية وطيبته، تكاد أن تشفق عليه . يا لحسرات التمكين ومقاتله . .! صديقي الراحل ماريو اوتو أنطون ، القبطيّ الأخير في وزارة خارجية السودان، تنفض الخارجية يديها عنه واللوكيميا تحرق دمه فيموت . حين وضعت إهداءاً له في فاتحة كتابي : "الدبلوماسية الكولونيالية"(دار نلسن، بيروت 2009) ، لم يكن كثير من الدبلوماسيين ، بل والسفراء الحاليين، يعرفون لمن أشير ولمن أهديت كتابي..! ثمة أسباب أخرى غير التمكين قضت بإخراج نفرٍ من السفراء والدبلوماسيين ، رجالاً ونساءا، ربما لا يكون مناسباً إيرادها هنا . لكن لنقل إجمالاً أنّ من صدح برأيٍّ صادق فلم يوافق هوىً عند السلطان، أحيل مباشرة إلى مقصلة الإحالة للصالح العام ، بدمٍ بارد . إسداء النصح "الأشتر "، لن يجد قبولاً ولا تسامحاً . خيار البتر هو الأقرب . تلك أيام هي من أيام ما حكى المحبوب عبد السلام ، وحان أوان الحديث عنها ، دون مواربة . وإني لأدعو القوم المظلومين لأن نسمع عن تلك الجراحات القديمة ، فتكتمل حلقات تجربة الحياة . ( 3 ) يقول الصديق المحبوب في سِفر تقييمه لعقد الحركة الإسلامية الأول في إدارة البلاد ، أن التمكين أتى بنفرٍ من الإسلاميين ممن عملوا في أماكن فيها احتكاك مع الخارج ومع الأجنبي. يقول في فصل العلاقات الخارجية من كتابه " الحركة الإسلامية السودانية" (2010) : استدعت تجربة وزارة الخارجية ثلة أغلبهم لهم سابق عهد بالعالم الخارجي ، جلّهم من طاقم الوكالة الإفريقية للإغاثة ، أول مؤسسة للحركة ( الإسلامية –الكاتب) ، انتشرت فروعها من داكار إلى بيشاور ، وأتاح لهم ذلك أن يمكثوا سنوات في مكاتبها الخارجية وأن يكسبوا من عملها في الإغاثة والاستثمار، علاقات ممتدة من الإغاثة والدعوة إلى السياسة، وأن يوطِّدوا صلًة خاصًة مع الحركات الإسلامية في تمثُّلاتهاا المختلفة، أحزابًا ومنظما ت وجماعات وجمعيات .. لا ألومن الأستاذ المحبوب في هذا الوصف ، إذ أنه طرح ساذج تبنته هيئة لها بصر وبصيرة ومن ورائها قوم يعقلون، ولم يكن صادرا منه شخصياً . تراءى لهذه الهيئة ، وقد تكون كياناً أربعينياً من كيانات تلك العشرية الأولى من تجربة الحكم الإسلامية، أن محض تجربة سفرٍ ، أو هجرة للعمل بالخارج، تجعل الواحد دبلوماسيا ، يخرج إلى العالم يمثل بلاده ويحدث عنها . من مثل هؤلاء "الدبلوماسيين الرساليين"، قدم إلى بلادنا رجال مثل راميرز سانشيز ثم بن لادن ودكتور الظواهري ومن لفّ لفهم وتعرفون سيماهم قطعاً . ذلك اختزال فطير للدبلوماسية وهي مهنة معروف عنها فنونها وعلومها ودقائق أساليبها ، وفوق ذلك أسرارها وغموضها . لا يلج إلى هذه المهنة إلا من يُركن إلى قدراته المميزة ، وأن يكون له من أدواتها شيئاً، كالمعرفة بالقانون الدولي والعام، أو له تخصص في العلوم السياسية أوالإجتماعية أوالإقتصادية. كانت وزارة الخارجية تلتزم التزاماً صارماً باختبارات تحريرية تعدّ في جامعة الخرطوم، وبدرجة عالية من السرية، وتجري تصفيات تحريرية تليها اختبارات المعاينة الشخصية المباشرة . أتذكر وأنا في صف الانتظار لمثل هذه المعاينة في سبعينات القرن الماضي، أن الوزير المعلم جمال محمد أحمد، رحمه الله كان يشارك بشخصه ويلقي بأسئلته في جلسات المعاينة الشخصية التي يديرها مجلس يضمّ وكلاء وزارات وشخصيات اعتبارية، أخرى بينهم اخصائي نفساني وبعض سفراء كبار. لا مجال للوساطات ولا للتغولات الخارجية لتؤثر في سير الاجراءات المتبعة ، إلا فيما ندر ولا نسمع عنه . أما عن السفراء الذين جاءوا من صفوف الحركة الإسلامية في إطار التمكين - يقول المحبوب - . . كان للقادمين الجدد نصيب كبير من الأزمات الأصلية والمفتعلة مع الدبلوماسيين المهنيين القدامى، فلم يحمل أغلبهم قصص النجاح التي كانت تزين جيد الوكالة الأفريقية للإغاثة بفضل جهود أبناء الحركة، إذ لم يجتازوا أطر السفارات المحدودة الضيقة إلى سعة الأقطار التي استقروا في عواصمها السياسية دبلوماسيين ، يمنعهم تراتب الهيكل الذي يجعل الأمر كله بيد السفير من المبادرة الجريئة، أو تعوقهم خبرة محدودة لم تبن أطر الخدمة المدنية على رعاية تبادلها وتكاملها بين الأدنى والأعلى أو بين الصغير والكبير، بل تأسست على الأسرار والاستئثار دون شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية سوى مظاهرها الاجتماعية المحدودة في الاستقبال والوداع وحفلات الطعام. كما عاَقت آخرين حواجز اللغة والمعرفة العامة، لا سيما عندما اتسع استيعاب الإسلاميين بوطأة مكاتب الاختيار الحركية، فخفَّت المعايير الموضوعية التي طبَقت بصرامة مع الدفعة الأولى، وتدنى متوسط المستوى إلى دون الوسط، لا سيما في اللغة الإنجليزية. لم تكن تجربة تحيط بها محاسن ، بل لعل ما جاء من المحبوب لقليل القليل ، عن فشل القادمين وفي حقيبتي شواهد كثر على عثرات هؤلاء ، ولكن ليقل صاحب الشأن ما عنده ، وليلقي عصاه ونرى ! وإني لا أقول هنا، إنّ للمهنيين حصانة من الخطأ وعصمة ، بل فيهم من خذل مهنته خذلانا بيّناً ، في ذات أيام المحبوب وما بعدها . . ( 4 ) إن كان يرى الصديق الكاتب ياسين حسن بشير، أن أكثر ملفات الإنقاذ سواداً هو ملف العلاقات الخارجية، لما فيه من انحدارات وانعطافات خرجت بالبلاد من مزاجها المعتدل، إلى بحرٍ من الانحيازات المهلكة ، والإرتباطات المشبوهة ، بما قاد في النهاية إلى انكماشنا في ركن قصيّ، حوصرنا فيه وتوالت علينا العقوبات جراء جنوحنا لمناطحة المجتمع الدولي فما ارعوينا . إني قد لا أخالف الأستاذ ياسين طرحه كثيراً ، غير أني رأيت أن ألقي ضوءاً على هذا الجانب المتصل بمشاكل البشر الذين تولوا أمر السياسة الخارجية وامتهنوا الدبلوماسية، بقليل تجربة وضعف مقدرات، في مرحلة اتسمت باضطراب في علاقاتنا الخارجية . من يجد لنا العذر في هذا العالم، ونحن على إصرارٍ مدهشٍ لأن لا نعمل جادين لاصلاح هذا الحال؟ برغم ذلك ، أمدّ يد التهنئة والإشادة للأخ العزيز الأستاذ المحبوب عبد السلام، لشجاعة الطرح الذي جاء في كتابه ، ولأنه – على ما سرد عن وزارة الخارجية، أراه كتب بأمانة وموضوعية إلا ما غاب عن نظره . وأقول للصديق مصطفى البطل هذه المرة : ليس هنا من غسيل أحوال ! الخرطوم 20/3/2010 نقلاً عن صحيفة "الأحداث" jamal ibrahim [[email protected]]
