ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو دستور للوحدة القومية (1/7) .. بقلم: د. أمين حامد زين العابدين
نشر في سودانيل يوم 22 - 02 - 2020

نجح الشعب السوداني بفضل عزيمته وقوة ارادته في تفجير ثورة 19 ديسمبر 2018- ابريل 2019 المجيدة والاطاحة بحكم الحزب الاسلاموي السوداني (الذي كان يعرف باسم جبهة الميثاق الاسلامي ثم الجبهة الاسلامية القومية واخيرا المؤتمر الوطني )بعد ادراكه النتائج المأساوية لمشروعهم الحضاري الزائف الذي استند علي استغلال الدين واقحامه في شؤون السياسة لحكم البلاد الي الابد وتسخير الدولة وثروة الوطن لمصالحهم الحزبية والشخصية الضيقة بدعوي نجاحهم في تطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع. ونبدأ هذا المقال بمقدمة عن كيفية توظيف حزب الاسلام السياسي السوداني لمفهوم التقاليد المخترعة والخطاب الهتافي الدعائي الذي يستغل العاطفة الدينية بهدف الوصول الي السلطة وترسيخ حكمهم بحجة نجاحهم في تثبيت دعائم الدين . ويعقب ذلك اجزاء من الفصل التاسع لكتابنا اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري حول تصور للدستور الذي يحكم بمقتضاه سودان المستقبل نعتقد انه مازال مناسباً لوضعه في الاعتبار حين عكوف حكومة الفترة الانتقالية لثورة ديسمبر 2018 علي وضع دستور دائم للبلاد.
طرح المؤرخ ايريك هوبسبوم مفهوم التقاليد المخترعة التي يتم استحداثها واعادة صياغتها لتوائم متغيرات جديدة وربطها بماضي تاريخي بدعوي أنها استمرارية بدون انقطاع لتلك الفترة المعروفة. وأكد ان الزعم باستمرار التقليد المخترع مع الماضي التاريخي "يكون في العادة مصطنعاً ومتكلفاً واستجابة لواقع جديد في شكل الاشارة الي اوضاع في الماضي البعيد او تؤسس للماضي الخاص بها بتكرار واعادة شبه الزامية ". (Hobsbawm, 1983,p.2) . وبدأت ظاهرة اختراع التقاليد في البروز في المجتمع العربي الاسلامي بعد الغاء حكام تركيا للخلافة الاسلامية في عام 1922 لاعتقادهم بانها سبب التدهور الذي عانت منه الامبراطورية العثمانية منذ القرن السابع عشر. وكان رد فعل التيار السلفي صياغة مفهوم الدولة الاسلامية كتقليد مخترع عندما اصدر رشيد رضا في عام 1923 كتاب الخلافة او الامامة العظمي ذكر فيه ان الخلافة فريضة دينية تستوجب زعامة العرب وتوليهم لمنصب الخليفة وان دينهم لاوجود له في الحقيقة ما لم يتم تأسيس دولة اسلامية مستقلة وقوية تستطيع تطبيق قوانين الاسلام. (Esposito, 1984,p.50). وتوسعت ظاهرة التقاليد المخترعة بعد تأسيس حسن البنا لتنظيم الاخوان المسلمين في مصر في عام 1928 بهدف تحويل الاسلام الي ايدلوجية سياسية وتديين السياسة. وطرح تنظيم الاخوان المسلمين في عام 1937 مبادئ الاصلاح تتضمن الغاء الاحزاب واصلاح القانون لينسجم مع الشريعة وتبني نظام حكم ودستور مستمد من الاسلام كبديل للدستور المصري .( بيومي،1979، ص 220).
واجتهد تنظيم الاخوان المسلمين لتحقيق هدفهم للوصول الي الحكم واقصاء الاحزاب الأخري بحجة احياء حكم الخلافة كما كان في عهد الخلفاء الراشدين ، لاعتقادهم انه السبيل الوحيد لتحقيق نهضة الاسلام ،بوضعهم الاساس النظري لثلاثة تقاليد مخترعة وهي :
1- الدولة الاسلامية والنظام السياسي الاسلامي الذي يستحيل فيه فصل الدين عن الدولة.
2- القرآن هو الدستور الذي تبني علي اساسه الدولة الاسلامية.
3- تطبيق الشريعة والدعاية له عبر منابرهم الاعلامية والخطب الحماسية التي تستغل العواطف الدينية لعامة الشعب المسلم.
ولم تصمد هذه الاجتهادات في الرأي التي صاغها تنظيم الاخوان المسلمين ، الذي تحول في عصرنا الي تنظيم دولي يضم كافة قوي الاسلام السياسي في البلدان الاسلامية، امام النقد المنهجي الذي اثبت انها تقاليد مخترعة وليس لها اي اساس يدعمها في القرآن والسنة والمذاهب الفقهية المعروفة. فدحض الشيخ الازهري علي عبد الرازق الاستاذ بجامعة الأزهر وقاضي المحكمة العليا المتخصص في علوم الدين والفقه دعوي ان الخلافة فريضة دينية شرعية بقوله "لو كان في القرآن مايشبه ان يكون دليلا علي وجوب الامامة لوجد انصار الخلافة المتكلفين من يحاول ان يتخذ من شبه الدليل دليلا ..والسنة والقرآن تركت الخلافة ولم تتعرض لها". (علي عبد الرازق،1966،ص 39-40) وقال أيضاً "لو أنّ أي فرد يلي حكم الناس بعد النبي يخلف حكومته، ويرث حقوقه لكان القرآن قد نصّ على ذلك صراحة وبوضوح، للزوم الأمر وضرورته، ولكان النبي قد حدد خليفته أو رسم نظام الخلافة وبين حدوده ووضع ضوابط الحكم ولم يترك الناس في أهمّ أمورهم، وهو الحكم، حيارى تائهين بغير نص يهديهم أو سوابق ترشدهم" (نفسه). .وذكر ان الفقهاء قد اخطأوا بالحاق الخلافة بشؤون الدين وعقائد التوحيد وان مهام الخليفة في شؤون الحكم والقضاء "خطط سياسية صرفة لاشأن بالدين بها ، فهو لم يعرفها وانما ترك لنا لنرجع فيها الي احكام العقل وتجارب الامم وقواعد السياسة".( نفسه) .
وتجدر الاشارة الي ان رواد العقلانية في الفكر الاسلامي مثل الفارابي وابن رشد قد اعتقدوا ان نشؤ الدول وتعاقب انظمة الحكم المختلفة شأن طبيعي مصدره التفكير العقلاني . وقال الفارابي عن اعتقاد افلاطون بأن الملك الفيلسوف هو الأنسب لحكم المدينة الفاضلة "رئاسة هذا الانسان الرئاسة الاولي والناس الذين يدبرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار وان كانوا في امة فتلك هي الأمة الفاضلة وان كانوا اناساً مجتمعين في مسكن واحد كان ذلك المسكن هو المدينة الفاضلة". (الفارابي ،1964، ص 79-80). وقال ايضاً في كتابه تحصيل السعادة عن قدرة العقل في سن التشريعات بمعزل عن الدين "واضع النواميس هو الذي له قدرة علي ان يستخرج بجودة فكرته شرائطها التي بها هي موجودة بالفعل وجوداً تنال به السعادة القصوي". (الفارابي،1981، ص 91-94). وأشار ابن رشد الي امكانية ظهور المدينة الفاضلة الي الوجود اذا ماتولي الدولة شخص يتميز بنفس صفات الملك الفيلسوف والامام مثل سمو الاخلاق والالمام الواسع بالعلوم النظرية والعملية.(Lerner, 1974, p.72). وذكر في سياق تعليقه علي كتاب الجمهورية لافلاطون ان دولة المرابطين التي حكمت شمال افريقيا في القرن الثاني عشر الميلادي قد مرت بنفس تجربة تعاقب انظمة الحكم في المجتمع اليوناني القديم حيث قال "وتعتبر مملكة المرابطين نموذجاً لذلك في هذا العصر ، اذ قلدت نظام الحكم الذي يعتمد علي القانون في عهد حاكمها الاول ثم تحولت الي نظام الحكم التيموقراطي في عهد ابنه الذي كان يحب جمع المال والثروة ، وتحولت بعد ذلك في حكم حفيده الي حكومة الملذات وزالت تلك المملكة في عهده لان الحكومة التي قامت بالهجوم عليها كانت اشبه بالحكومة التي تعتمد علي القانون. وهذا بيان لتحول الانسان التيموقراطي الي الشخص الاوليجاركي حيث يتضح الفرق بينهما ، فالشخص الاوليجاركي أخس من الشخص التيموقراطي، كذلك الحال مع مدنهم وحكوماتهم". (نفسه) .
وبما ان القرآن الكريم لم يشر الي اي نوع من نظم الحكم كما أثبت الشيخ علي عبدالرازق فان ذلك يستلزم ضرورة عدم اشارته الي مفهوم الدستور والذي يعتبر اجتهاد عقلاني ابتدعه البشر منذ عصر الحضارة اليونانية القديمة لتنظيم العلاقة بين الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية في نظم الحكم واستهدت به الحضارة الاوربية منذ عصر النهضة الي يومنا هذا.(لمزيد من التفاصيل انظر الفصل الأول من كتابنا الحضارة العربية الاسلامية وعوامل تأخرها). ويعتبر الدستور القانون الأساسي للدولة الديموقراطية الحديثة والمعيار الذي تلتزم بمواده ومبادئه كل القوانين التي يتم اصدارها ويحسم الجهاز القضائي علي ضوءه اي نزاع قانوني ين الجهازين التنفيذي والتشريعي واصدار حكم يستند علي التفسير الدستوري الصحيح للمسألة القانونية المتنازع حولها. ويحدد الدستور شروط معينة لتعديله او تغيير احدي مواده اذا لزم الأمر لمواكبة التطورات المستجدة التي يتعرض لها المجتمع وذلك عكس احكام الوحي الالهية الغير قابلة للتغيير. كما يحدد الدستور في الدولة القومية الحديثة طريقة وحيدة لاختيار رئيس الدولة لكي يحكم البلاد لفترة زمنية محددة وذلك عن طريق التصويت الشعبي في فترة الانتخابات الدورية. ولم يكن الأمر كذلك في عهد الخلفاء الراشدين و حكم الأمويين والعباسيين لأن وثيقة او صحيفة المدينة لم تكن دستوراً بالمعني السياسي وانما اتفاقية لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود تستند علي التعايش السلمي بينهما وليس بها اي نص يحدد كيفية اختيار حاكم للمسلمين بعد وفاة الرسول (ص) . وحصر الفقهاء فيما بعد استنباطهم للقوانين الاسلامية من القرآن والسنة علي المعاملات المدنية والأحكام الجنائية والعبادات دون اي ذكر لشؤون الحكم والسياسة سوي تناول شخص الحاكم والصفات الحميدة التي يجب ان يتميز بها واصدار الفتاوي لتبرير افعاله وان كانت منافية للمصلحة العامة لاسباغ الشرعية الدينية علي حكمه.
ولكي يكمل الاسلام السياسي وتنظيم الاخوان المسلمين الدولي رؤيته لتديين السياسة وتسييس الدين، تم اختراع تقليد تطبيق الشريعة ودعمه بشعار الاسلام هو الحل . واستغلوا الغموض الذي يحيط بمفهوم تطبيق الشريعة لاعتقاد معظم الناس انه يعني في نفس الوقت تطبيق الأحكام التي وردت في المذاهب الفقهية الأربعة وعدم التمييز بين الشريعة والفقه الاسلامي. وذكر المستشار محمد سعيد العشماوي بأن لفظ الشريعة قد ورد في القرآن مرة واحدة "ثم جعلناك علي شريعة من الأمر فأتبعها".( سورة 44 :18) وان لفظ الشريعة يعني المنهج او السبيل. وقال "فالشريعة في اللغة تعني مورد الماء او مدخله او المنهج اليه والسبيل اليه ولاتعني القواعد والأحكام التي تبين العبادات او تنظيم المعاملات وذلك خلافاً للمتواتر في الأذهان.فالقرآن الكريم لم يستعمل لفظ الشريعة في معني وضع احكام للعبادات او قواعد المعاملات ". (العشماوي، 1992 ،ص 13 ). عليه فان معني الشريعة كما ورد في القرآن هو مفهوم اخلاقي، فهي "شريعة الرحمة التي تزاوج بين الحق والحب وتمازج الجزاء والعفو وتواشج التعامل بالمعروف وشريعة الرحمة هي التي تنظر الي الانسان في طبيعته الحقة ، بكل مافي هذه الطبيعة من ضعف وقصور وكل ما فيها من نزاعات ورغبات ، فهي تأمر الانسان ان يمارس حياته ممارسة عادية .... علي ان يسعي الي اعلاء رغباته والسمو بمنازعه والارتقاء بمشاعره ، فيعفو عن حقه ويتفضل في معاملاته ما استطاع الي ذلك سبيلا". (العشماوي، 1992 ،ص 17-18 ). وأكد أن الأخلاق هي المعني الحقيقي للشريعة بقوله " والشريعة تعد كل فرد في المجتمع لكي يكون عادلاً ولو على نفسه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويدعو إلى التقوى.. غير أنّ تكوين الفرد على أساس ديني لا يعني أنّ كل تصرف يصدر عنه هو الدين.. فالفرد في الإسلام عادل تقي.. ولكن أقواله وأفعاله وتصرفاته تبقى دائماً مدنيّة." (نفسه) .كما أكد برفيسور فضل الرحمن المعني الأخلاقي للشريعة بقوله"ليست الشريعة قانوناً رسمياً لتشريعات خاصة ومحددة وانما مفهوم عام له حدود مشتركة مع الخير الأخلاقي ". (Fazlur Rahman, 1991 , p.115).
واوضح ابن تيمية الفهم المختلف لمعني الشريعة بين الفرق الدينية وذلك في معرض ملاحظاته عن آراء الصوفية في قتل الحلاج حين قال " ومنهم من يعادي جنس الفقهاء واهل العلم ويقولون : هم قتلوا الحلاج ، وهؤلاء من جنس الذين يقولون :لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة ..وهم لايميزون بالمراد بلفظ الشريعة ولا المراد بلفظ الحقيقة ...بل فيهم من يظن الشرع عبارة عن ما يحكم به القاضي ومن هؤلاء من لايميز بين القاضي العالم العادل وا لقاضي الجاهل الظالم بل ما حكم به حاكم اسماه شريعة. ولاريب انه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر خلاف ماحكم به الحاكم... والشريعة هو الأمر الباطن وماقضي به القاضي ينفذ ظاهراً....."(ابن تيمية ، 1966، ص 108). والجدير بالذكر ان ابن تيميه هو اول فقيه وعالم دين استخدم لفظ الشريعة بمعني الأحكام والقوانين ودمجها مع السياسة وشؤون الحكم كما ينعكس في كتابه السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية .
اما القوانين الاسلامية فهي الفقه الاسلامي في المعاملات كما ذكر د.محمد عمارة في شرح الفرق بين مفهومي الشريعة والقوانين الاسلامية حيث قال" الشريعة الاسلامية شئ والقوانين الاسلامية شئ آخر ، وانهما امران متميزان في الطبيعة والمصدر والمجال، فالاسلام عقيدة وشريعة والشريعة هي الطريق والمنهج الاسلامي الذي حدده الله لنصل الي الاعتقاد باصول الاسلام : الألوهية ، اليوم الآخر، العمل الصالح ...ولكن من الخطأ ان نعني بالقوانين الاسلامية الشريعة ، فالقوانين تراث ابدعته مذاهب امة الاسلام وصاغه فقهاؤها في امور الحياة الدنيا ومعاملات لناس ...فالفقه الاسلامي في المعاملات هو مانعنيه حينما نتحدث عن القوانين الاسلامية.".(محمد عمارة، 1984،ص 190 ).
ذكر هيجل ان اهم سمة يتميز بها العصر الحديث هي الحرية الذاتية وان عظمة عصرنا تستند علي الاعتراف بقيمة الحرية كمكون اساسي للعقل الذي تجد فيه انسب مكان لوجودها.(Habermas,1995 ,p.16 .). واشار هابيرماس الي ان الأحداث التاريخية الرئيسية التي أسست لمبدأ الذاتية هي الاصلاح الديني وعصر التنوير والثورة الفرنسية .( Habermas, 1995, p.17 ).وألهمت الثورة الفرنسية الدول في العصر الحديث بتبني مبادئها حول الحرية و الفصل بين السلطات في الدستور والسيادة الشعبية وحكم القانون وحقوق الانسان والتعددية التي تتيح للأحزاب المنافسة الحرة للوصول الي الحكم عبر الانتخابات . ويعتبر نظام الحكم العلماني الحديث سبب وجود مفهوم التعددية السياسي الذي تم تطبيقه ايضاً في مجال الدين حيث يكفل الدستور للأديان المساواة وحرية النشاط الديني عكس ماكان مألوفا في العصور الوسطي حيث كان كل دين يعتقد انه الأفضل ولايضع باقي الأديان والطوائف الدينية داخل الدين نفسه علي قدم المساواة مع الدين الرسمي للأغلبية الدينية وتقييد حرية نشاطها الديني. ودخل السودان في طور التحديث بعد نهاية الدولة المهدية وذلك بتأسيس البني التحتية لتطوير الاقتصاد وربطه باقتصاد السوق العالمي والتوسع في التعليم المدني لتدريس الطب والهندسة والعلوم والقانون وتأسيس بيروقراطية الخدمة المدنية في عهد حكم الاستعمار الانجليزي (1898-1956) رغم ان هدفه الاساسي قد كان استنزاف موارد البلاد الاقتصادية لمصلحة التاج البريطاني. وتبني رواد الحركة الوطنية السودانية في لجنة التعديل الدستوري ، والتي كان كل اعضائها من السودانيين (17 عضواً) ماعدا رئيسها القاضي ستانلي بيكر وسكرتير اللجنة ومستشارها ، العلمانية المعتدلة كما تجسدت في نظام الحكم الديمقراطي باعتباره من تجارب الامم المفيدة التي لم تذكر في القرآن والسنة وكانت من اهم العوامل التي ساهمت في نهضة وتفوق الحضارة الغربية في العصر الحديث. ونص دستور الفترة الانتقالية التي تسبق الاستفتاء علي حق تقرير المصير علي ضمان الحقوق الاساسية للمواطنين وتأكيده علي مبدأ المواطنة ومساواة الجميع امام القانون وحرية الأديان وحرية التعبير والتجمهر واستقلال القضاء. وبعد استقلال السودان تم اجراء بعض التعديلات علي قانون الحكم الذاتي لتنسجم مع وضع السودان كدولة مستقلة ذات سيادة وسمي دستور السودان الانتقالي. وشرحنا في الفصل الثالث من كتابنا اتفاقية السلام الشامل الصادر في عام 2007 مفهوم الدولة العلمانية وأنواعها وعدم ضرورة الفصل التام بين الدين والدولة في الدولة العلمانية المعتدلة كما في بريطانيا حيث تعتبر الملكة رئيسة الكنيسة الانجليكانية ، وفي الولايات المتحدة الامريكية التي يسمح نظامها السياسي بتعيين قسيس لمجلس النواب(الكونغرس) لافتتاح جلساته بصلاة وموعظة دينية ولاحظ من تابع جلسات محاكمة الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ في يناير-فبراير 2020 ان القسيس يفتتح كل جلسة بالصلاة. ويدحض ذلك اسطورة كراهية وعداء العلمانية للدين التي سعي تنظيم الاخوان المسلمين الدولي بكل جهده لترسيخها في اذهان الجمهور عبر منابره الاعلامية. ولايتعارض نظام الحكم العلماني مع الاسلام كما جادل د.محمد عمارة الذي لاحظ وجود سمات مشتركة بين الاسلام والدولة العلمانية مثل استهداء العلمانية بمبدأ النفعية والمصلحة "والاسلام يقدم في شؤون المجتمع وسياسة الدولة المصلحة علي النص ويتحدث عن الشريعة مقاصد وغايات والمجتمع العلماني يساند مقاصد التغيير والتجديد والاسلام يؤمن بقانون التطور في كل الميادين ليس له حدود ...والعلمانية لاتهتم بالمعجزات والاسلام ينحاز للعقل والعقلانية فالعقل هو الحاكم حتي في اطار النصوص. ".(محمد عماره، 1984،ص 14) .
المراجع :
1 - الفارابي ، كتاب تحصيل السعادة . تحقيق د. جعفرآل يس ( بيروت 1981)
2 - – الفارابي ، كتاب السياسة المدنية . تحقيق د . فوزي النجار ( بيروت 1964 ).
3 - علي عبد الرازق ، الإسلام وأصول الحكم ( بيروت 1966).
4- د. زكريا بيومي، الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية ( القاهرة 1979 ).
5- محمد عمارة، العلمانية ونهضتنا الحديثة (القاهرة 1984م)
6- محمد سعيد العشماوي ، جوهر الاسلام ( القاهرة 1992 ).
7- ابن تيمية, رسالة الاحتجاج بالقدر في مجموعة الرسائل الكبرى, الجزء الثاني (القاهرة، 1966م) صفحة 108.
J. E sposito , Islam and Politics (Syracuse University Press , 1984 ) - 8
9- Fazlur Rahman, Islam (University of Chicago Press 1991)
10- Habermas,J, The Philosophical Discourse of Modernity (MIT press, 1995).
11- Hobsbawm,E &Ranger,T; The Invention of Tradition (Cambridge University Press,1983).
12- Averroes on Plato's Republic. Translated and edited by R. Lerner (Cornell University Press, 1974).
توجد نسخ من كتاب اتفاقية السلام الشامل و كتاب الحضارة العربية الاسلامية وعوامل التأخر في مكتبة دار الحكمة بمدينة آرلينجتون ولاية فيرجينيا.
د.امين حامد زين العابدين
محاضر سابق بجامعة الخرطوم كلية الاداب .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.