دون الدخول في تفاصيل ملف سد النهضة وما خلّفه من استقطاب واستقطاب مضاد بين مصر وإثيوبيا, لابد من تثبيت حقيقة واحدة راسخة ألا وهي أن العلاقات بين الدول تحددها المصالح الاقتصادية و المنافع المادية والضرورات الأمنية, ولا مكان للحب والرومانسية والخيال الخصب في تشكيل مثل هذه العلاقات, مثلما حدث من تراشق ناري بالتغريدات السايبرية بين السودانيين والمصريين عقب الموقف الأخير المتخذ من قبل الحكومة السودانية الانتقالية تجاه مخرجات مفاوضات سد النهضة. فكلما طرأ الجدل حول السد الاثيوبي تبادر إلى ذهني السؤال الذي ظل يراودني كثيراً, لماذا لا نقوم نحن السودانيون ببناء سد نهضوي تنموي عظيم كعظمة سد النهضة الاثيوبي أو ضخم مثل ضخامة السد العالي المصري؟, لماذا دائماً نؤدي دور لاعب الاحتياط ونقبل لأنفسنا على أن نكون الحيطة القصيرة؟, الحديث الدائر هذه الأيام عن حتمية استفادتنا من السد الأثيوبي والمبررات المقدمة من بعض المتابعين المستميتين في إثبات أن هذا المشروع الاثيوبي سوف يعود على أهل السودان بالفائدة الكبيرة, يعبر عن سذاجة واضحة و(عوارة) فاضحة توحي بأننا لم نرتقي لأن نكون على قدر طموح ذلك الانسان الوطني الغيور المعتمد على ذاته والمعتد بوطنه. إثيوبيا لها تكتيكاتها السياسية ومصر لها خبراتها الطويلة الممتازة, في المراوغة واللعب بكل الحبال في سبيل الحفاظ على حق اجيالها القادمة في الاستفادة من مياه النيل, أما نحن فمثلنا مثل الشعر الذي يتبع الرقبة مسدلاً عليها يموج حيث ماجت ويميل إذا مالت, مرة نتضامن مع مصر ونساندها في تحقيق ما تصبو إليه وتارة نقف في صف الجارة أثيوبيا, خاضعين لتطميناتها بأن الكهرباء المتوقع انتاجها من السد العظيم سيكون لنا منها نصيب معتبر وبسعر زهيد, وأن كميات المياه المختزنة في ذلك السد ستعمل على حماية أراضينا من الطمي (الضار!!) و تتيح لنا مساحات أكبر تمكننا من التوسع في الرقعة الزراعية. المثل يقول ما حك جلدك مثل ظفرك, دعونا نترك العبط السياسي الذي أصبح قلادة تزين صدور ساستنا و سمة بارزة من سمات جماهير شعبنا المسكين, فالحقيقة الشاخصة في صراع وتضارب المصالح بين الدول هي أنه لا يمكن لدولة ما أن تقدم لدولة أخرى خدمة مجانية أو شبه مجانية, وعليه, فالينهض السودانيون وليعملوا حكومة وشعباً على إرساء الدعائم الأولية لتأسيس المشاريع الوطنية العملاقة, وأن لا يركنوا إلى الكسل الذهني والخمول البدني وأن لايتعشموا ما تصنعه أيدي الآخرين, وعليهم الاتعاظ بتجربة رئيسهم الأسبق (عبود) الذي ارتكب جريمة نكراء في حق بلاده, باتباعه سياسة أن يكون مقطورة مجرورة وتابعة للجارة مصر, فأغرق مساحات واسعة من أراضي أقاصي شمال البلاد وهجّر سكانها وطمر آثارها الحضارية من أجل إرضاء خاطر أبناء وبنات شمال الوادي. على حكومتنا أن تعمل على جرد حساب مؤسسة الري المصري, وعليها أن تقيّم حجم الخسارة أو الربحية التي أفادت أو خصمت من خزينة مال دولتنا عبر الحقب السابقة, ومن ثم تتخذ القرار الشجاع سواء بالأستمرار أوالتوقف عن إيواء هذه المؤسسة المشكوك في أهدافها, إنّ ما سمحنا بحدوثه في بلادنا بسبب كرمنا الفياض بفتحنا لبوابة الوطن على مصراعيها, لدخول كل من يريد الدخول دون مراقبة ولامحاسبة, أدى إلى هذه المواقف الرمادية المخزولة التي تورط فيها رموز كل منظومات الحكم المتعاقبة. هل ما وعدتنا به حكومة أثيوبيا حقيقة؟ وهل تم تضمين هذه الوعود في إتفاقية تجارية واقتصادية بين الحكومتين؟ أم أنها مجرد وعود شفاهية عابرة؟, إنّ عفوية النفس السودانية وبساطتها ودروشتها سوف تجرنا لارتكاب المزيد من الكبائر والموبقات بحق البلاد, فالراصد للتطورات السياسية التي أدت إلى إنفصال شقنا الجنوبي يلحظ اسقاطات هذه النفس الدرويشة المتساهلة في تأمين اقتصادها والمفرطة في أمنها القومي, حين سمحت لمنبر السلام (الظالم) ليسرح ويمرح ويقصم ظهر الدولة وتنهار العملة الوطنية و يفقد الاقتصاد أهم موردين رئيسيين هما المورد البشري والمورد المالي . نحن شعب يتخذ قراراته المصيرية بناء على ما تمليه عليه عاطفته الجياشة غير المنضبطة, فجميعكم تذكرون الحرج الذي أوقعنا فيه وفود الدول العربية التي شاركتنا احتفال عرس السودان ومناسبة توقيع الوثيقة الدستورية, وما تعرض له الرئيس التشادي إدريس دبي من احراج بذات المناسبة, فتلك كانت علامة واضحة دلت على تمكن هذه العاطفة الطائشة على تصرفات الانسان السوداني رئيساً كان أم مرؤوساً, وأكدت على تأثيرها القوي في تعاملاته الشعبية والرسمية مع الملفات المتعلقة بمصالحه الاقتصادية, فحتى بعد تفاقم الأزمة بين مصر وأثيوبيا هذه الأيام لم يفلح ساستنا في ابتزاز الجانبين بملفي حلايب والفشقة. إسماعيل عبد الله عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.