اشكرك جزيل الشكر على استضافتي مرة اخرى واشكر اريحيه وكرم الاصدقاء في صفحتك واشكر بشكل خاص الذين قاموا باعادة نشر الرسائل في صفحاتهم. قلت في مقالي الاول ان ما عُرف بالحلقة الشريرة: ديمقراطية، انقلاب، ديمقراطية، انقلاب لا يمكن فهمها الا كمؤسسة واحدة، هي مؤسسة السياسة السودانية منذ الاستقلال، وإن الانتفاضة هي عبارة عن تعبير عن ازمة المؤسسة. فنحن، حسب تقديري، لسنا إزاء مؤسستين متنافستين على حكم السودان بل امام مؤسسة واحدة ذات شقيين: شقي رسمي ينبغي ان يكون جوهره الحريات الاساسية، ولكن ذلك لا يتحقق ابدا في ممارسة الاحزاب، حتي الان. وشق غير رسمي (هو الانقلاب والدكتاتورية) وجوهره مصادرة الحريات ومحق الخصوم يُنتج كأمتداد وتغليظ لممارسة التعددية في محق الحريات. وقلت ان ضيق المسافة بين المؤسستين بل التطابق فيما يتعلق بالسياسات التي تم اعتمادها اعتبره مؤشراً لاعتبارهما مؤسسة واحدة ذات شقين. بُعد المسافة في السياسات بين المؤسستين يدعم وجهة نظر اصدقائي المختلفين مع وجهة نظري، والذين يعتبرون اننا إزاء مؤسستين مختلفتين. تناولت سريعا تجربة الديمقراطية الثانية (1969-1964) وفي هذا الجزء سأصب اهتمامي على تجربة الديمقراطية الثالثة (1985-1989). ووعدت هذه المرة بأني سأنظر الى الخلف والى الأمام في آن. أعني سننظر الى صلة مؤسسة التعددية في الاعوام 1985-1989 بسياسات نظام مايو وسننظر ايضاالى صلاتها بنظام الانقاذ. لنبدأ بالسياسات الاقتصادية للحكومة الائتلافية الاولى التي تكونت في يونيو 1986 بقيادة رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي وقربها او بعدها من شعارات الانتفاضة وصلتها بسياسات سلطة مايو الاقتصادية. في اعتقادي أن هذه المراجعة تكشف ما قال به (Douglass C. North) ان وظيفة المؤسسة هي الاستمرارية وان القواعد المؤسسية تتشكل من طبقات مراتبية يصير من الصعوبة بمكان تغيير الطبقة الاسفل كلما ذهبنا الي العمق المؤسسي. في الواقع بدأت السياسة الاقتصادية لحكومة السيد الصادق المهدي الاولي بداية موفقة في اتساقها مع شعارات الانتفاضة فقد صرح بان سياسته الاقتصادية ستكون مؤسسة على مقرارات وتوصيات المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في مارس 1986، والذي مثل جماع خبرة القوي التي شاركت في الانتفاضة. وقد حظيت وزارته الاولى باثنين من الوزراء هما د. بشير عمر فضل الله (حزب أمة)، وزيرا للمالية، ود. محمد يوسف ابو حريرة (اتحادي ديمقاطي)، وزيرا للتجارة، من قلب قوى الانتفاضة، وقد شرعا على الفور في تنفيذ خطابه في السياسة الاقتصادية حذوك النعل بالنعل. ولكن ماذا حدث؟ مضت سنوات عديدة الآن على هذه السياسات، تقارب الاربعين عاما، وراحت حرارة اللحظة والتفاصيل المتشابكة ولم يعد لتصريح صحفي المقدرة على طمس الحقائق. لم يبق الا عظم الحقيقة عاريا ليتأمله المؤرخين الاقتصاديين. ميزة د. بشير عمر لا تكمن فقط في سمعته العالمية كاقتصادي ولا في انه انصاري صميم منسجم مع رئيس حكومته، بل تكمن في انه مؤلف الورقة الاساسية التي تبلورت على اساسها فكرة المؤتمر الاقتصادي، والذي كان هو مقرره. يمكن القول، بإختصار، ان المؤتمر الاقتصادي كان جماع خبرة اقتصاديى السودان، الاكاديميين والعاملين في وزارات القطاع الاقتصادي ومراكز البحوث، زائدا خبرة القطاع الخاص في معالجة الخراب الذي احدثته سياسات مايو الاقتصادية. اما ابو حريرة، وزير التجارة، رحمه الله، فقد حولته المخيلة الشعبية بعد وفاته لرمز قومي للنزاهة وخدمة الصالح العام في محاربة التهرب الضريبي والجمركي كما لمحاولته المخلصة لتنظيم التجارة الخارجية. لعله الوزير الوحيد، من بين عشرات الوزراء على مدي ستين عاما، الذي تلقفت افواه الاجيال الجديدة اسمه بينما طوى النسيان جلهم. تركز هجوم المستفيدين من النظام القديم على قانون الضرائب لسنة 1986 الذي حل محل قانون الضرائب لنظام مايو. فقد كان قانون الضرائب الجديد، الذي تركز على ارباح الاعمال الصناعية والزراعية والتأمين والبنوك، في تقدير العديد من الاقتصاديين، قانونا موفقا في معالجة الارباح من حيث دعم خزينة الدولة ومحاربة النشاط الطفيلي ودعم النشاطات المنتجة وتخفيف المعاناة عن كاهل الجماهير من ذوي الدخل الثابت . لقد صيغ هذا القانون بوجهة نظر اقتصاديين وقانونيين خبروا النشاط الطفيلي في سنوات حكم جعفر نميري وارادوا، بحمية واخلاص، سده مجاريه مرة والي الابد. في ذلك السياق، استمات بشير عمر في الدفاع عن القانون وسياساته. غير أن ضغوط الغرف التجارية واتحادات اصحاب الاعمال والبنوك وممثليهم السياسيين في الحزب الاتحادي وحزب الامة والجبهة الاسلامية تزايدت عليه، كما مورست ضغوط مماثلة على رئيس الوزراء من خلال وقائع عديدة. وقد نجح السيد رئيس الوزراء، لكن لفترة قصيرة للغاية للاسف، في رد الهجوم ولجم رعاة النشاط الطفيلي. عندما برزت الازمة الكبيرة في حادثة اللجنة الوزارية لتفريغ البضائع غير المشروعة (المهربة) المكدسة في الميناء، برزت تناقضات الحكومة الائتلافية الاولى بل انفجرت مؤدية الى حل الحكومة وتشكيل حكومة جديدة. برز الصراع بين تيارين في الحكومة. فقد كان ابو حريرة وبشير عمر يصران على تطبيق قانون التهريب بينما خضعت اللجنة الوزارية لاصحاب المصالح فجاءت الغرامات والتسويات مثيرة للسخرية والتندر في مجالس بورتسودان والخرطوم، فقد تراوحت الغرامات بين (3% و 5%). ثارت ثورة ابو حريرة واعتبر ذلك تخريب للاقتصاد الوطني، بل قال ان هنالك 65 حالة عالجتها اللجنة لافراد لم يملكوا حتي رخصة استيراد، مما يُعتبر جريمة حسب قانون التهريب عقوبتها الاعدام. وبحسرة واضحة اشار ابو حريرة في تصرياحته بأن الحكومة تبنت سياسات محددة (توصيات المؤتمر الاقتصادي) لكن فيئات الطفيلية تحاول أن تغيير سياسات الحكومة المنتخبة لمصالحها. طفح الخلاف بين ابو حريرة والمناؤين، ومن بينهم تجار ورجال اعمل من حزبه وبعض وزراء القطاع الاقتصادي الى السطح، كما بان الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء في تصريحات صحافية مشهودة. إجمالاً، شاركت في تلك الحملة الجائرة على المرحوم أبو حريرة اقسام من حزبه واقسام من حزب الامة. ولقد جسدت الازمة في النهاية الصراع بين الداعين لتغيير اقتصادي مؤسسي للاقتصاد السوداني والحادبين على ديمومة مؤسسة نظام مايو الاقتصادية. في الحقيقة، كان محط الصراع قضايا اقتصادية اخرى لا يسع المجال لها هنا، على أن أبرزها التحقيق في الفساد المصرفي - وبالفعل تم تقديم احد عشر مصرفا للمحاكمة، والصراع حول حصر تصدير الصمغ العربي والحبوب الزيتية في شركات الامتياز بدلا عن اطلاق يد الطفيلة و تحطيم تلك الشركات العامة او ذات الملكية المختلطة، بالاضافة لضبط سياسات التصدير والاستيراد. كما سابين في القسم الثاني من المقال. انهزم رئيس الوزاء وحل حكومة الائتلاف الاولى في مايو 1987. فمن كان المسؤول؟ قد تكون الاجابة على هذا السؤال في غاية الاهمية لبعض الاصدقاء لكن صراحة ليس ذلك مهما بالنسبة لي، ذلك انني لا اسعي لتجريح احد بقدر ما اسعى لفهم غول المؤسسة السودانية، كما عبر صديقنا المشترك هاشم الحسن في صفحتك. الامر الذي احفل به هنا ان السياسات الاقتصادية لنظام مايو قد استمرت. انتصرت سياسات الانقلاب/الدكتاتورية على سياسات الانتفاضة/التعددية. اذن لم نشهد بعد، آنذاك، تغيير مؤسسي في تلك الفترة انما استمرت المؤسسة القديمة بقناع جديد. تبدو الصورة أكثر وضوحا – من حيث استمرارية المؤسسة - عندما نقارن بين السياسات الاقتصادية لحكومة الائتلاف الثالثة (حكومةالوفاق) وحكومة الانقلاب/الانقاذ. تكونت حكومة الوفاق في مايو 1988 من حزب الامة والاتحادي الديمقراطي وحزب الجبهة الاسلامية تحت قيادة السيد الصادق المهدي. الدهشة تعقد اللسان من تطابق سياسات حكومة الوفاق مع سياسات حكومة الانقاذ. وقد اوردها المؤرخ الجليل والقائد السياسي المرموق المرحوم محمد علي جادين في استعراضه لميزانية حكومة الوفاق وسأعددها واعرضها ادناه عارية لل(عضم) متجنبا لغته العلمية المحكمة وادبه الجم الذي عُرف به بين رفاقه والمخالفين في الرأي: - بيع شركة باتا للقطاع الخاص. - بيع المؤسسة الاقتصادية العسكرية للقطاع الخاص. - بيع الاراضي الحكومية في منطقة النقل النهري والنقل الميكانيكي بالخرطوم بحري. - الاتجاه الى الغاء شركات الامتياز الحكومية بمافي ذلك شركة الحبوب الزيتية وشركة الصمغ العربي. - الغاء العديد من القيود الاجرائية على الصادرات والغاء الرخص وتمكين القطاع الخاص، قل الطفيلي، من السيطرة على التجارة الخارجية. - فرض رسوم على خدمات الصحة والتعليم والتعليم الثانوي والعالي وخدمات الاعاشة على طلاب الجامعة وإلغائها تدريجيا. - بيع مشاريع النيل الابيض ومشاريع النيل الازرق الى القطاع الخاص و(القطاع التعاوني). - زيادة الاعفاءات الجمركية من 25 مليون جنيه الى 125 مليون جنيه (لاحظ مليون جنيه بقديم، قديم قديم، قديم، قديم القديم ذاتو). بل أكثر من ذلك قطع المرحوم د. حسن الترابي، الذي تولى منصب النائب العام، الطريق على تقديم احد عشر بنكا الى المحاكمة بسحب القضايا من امام المحاكم بدعوى مراجعة تقارير لجان التحقيق. قد يقول قائل، ولكن جاءت حكومة الجبهة الوطنية المتحدة في 25 مارس 1989 وتوسطت بين حكومة الوفاق وانقلاب الانقاذ فأين استمرارية المؤسسة هنا؟ في الواقع علينا الا نفهم المؤسسات كطوبة اسمنتية راكزة على سطح، وانما علينا ان نفهمها كعش طائر صقله المناخ وبنته غريزته مما مكنه من التعامل مع الطبيعة، فبنى عشه طبقات فوق طبقات وكل طبقة اكثر كلفة في ازالتها من الطبقة التي فوقها، او كما سبق أن عبر (Douglass C. North) بأن القواعد المؤسسية تعشعش في تراتبية: (… rules nested in a hierarchy). كانت البلاد مقبلة على تغيير مؤسسي كبير مع انفاذ اتفاقية السلام السودانية (الميرغني-قرنق). تغيير يتعلق ببنية طبقية مؤسسية أكثر عنادا في ثباتها. تغيير لا يقف على قضية الحرب والسلام كسياسة بل كان سيمتد لتصورات الناس حول تعريف انفسهم والاخرين وهويتهم المشتركة وتصوراتهم حول العرق والدين والتنوع. الوصول الى سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وانهاء الحرب الاهلية بصورة عادلة في اطار سودان موحد كان سيكون عاملا حاسما في تعميق الديمقراطية من حيث ثقافة الحقوق والحريات. كما كان سيعطي مؤسسة التعددية الفرصة لتطوير مؤسستها غير الرسمية التي تنسجم معها وتدعمها وتدقق الممارسة الديمقراطية وقبول الاخر في الحياة اليومية، وهذا جوهر الديمقراطية . لذلك ليس غريبا ان تستل المؤسسة القديمة سلاحها القديم (الإنقلاب)، في بحثها عن الديمومة وفي مسعى تشبثها بمصالحها القديمة المتعددة، كما ليس غريبا ان تتحول بعد ذلك الحرب من حرب اهلية سياسية الى حرب دينية جهادية. لا أمل في القضاء على المؤسسة الراسخة الا ببروز حركة اجتماعية جديدة، كما وصفتها في مقالي الثاني، حركة شبابية على قدر الاحلام التي بذر بذرتها السيد محمد عثمان الميرغني، السيد جون قرنق ديمابيور، والسيد الصادق المهدي، في افئدة الشباب عام 1989، الذين صاروا كهولا الآن، او اشخاصا في منتصف العمر على أحسن الفروض، فمن احشاء المؤسسة القديمة يبرز الجديد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.