تأملات مؤلمة في (غياب) وعي الحركة الإسلامية السودانية لذاتها قلت في سابق تعليقي على رواية صديقنا المحبوب عبدالسلام لحقبة قريبة من تاريخ لحركة الإسلامية وصراعاتها، أن أقرب قراءة محتملة لها أنه كان وما يزال يعيش على كوكب آخر غير الذي نقيم عليه معشر عباد الله. وخلال الأيام التي تلت، تأكد لي أن المحبوب لا يقيم وحده على كوكبه المختار، وإنما هو في خير صحبة في مقامه الأسطوري ذاك، كما بدا من ردود كثيرة مكتوبة وشفاهية وردتني. ويجب أن أقول ابتداءً أنني لا أريد أن أقيم نفسي حكماً على صدق روايات التاريخ، حتى لو كنت أنا جزءاً من ذلك التاريخ وأحد شهوده المباشرين. فنحن نعلم أن من طبيعة البشر إقامة كهوف وتحصينات لأنفسهم من روايات التاريخ يقيمون داخلها وتشكل جزءاً من هويتهم. كذلك أحاذر في أيام الحمى الانتخابية هذه من شبهة معونة طرف ضد آخر. ولكن مع ذلك فإن من المناسب إبداء ملاحظات حين تتناقض الروايات ذاتياً، أو حين تصطدم بروايات تجد قبول جل العالمين، أو حين تتناقض مع تصرفات مروجيها. فعلى سبيل المثال حين وقع انقلاب يونيو عام 1989، نفت القيادات الإسلامية أي صلة لها به. وقد بلغ الأمر أن النظام كان يعتبر أكبر تشهير في حقه وصفه بأنه "نظام الجبهة الإسلامية". وقد علمت أن عدداً من كبار قادة مجلس قيادة الثورة غضبوا أشد الغصب حين صدر كتابي "ثورة الترابي" عام 1991، لأنهم اعتقدوا أنه يتحدث عن ثورة الإنقاذ، حتى صحح أهل العلم لديهم ذاك الخطأ. وقد طورت القيادات رواية فسرت بموجبها تعاطف الإنقاذ مع الأجندة الإسلامية بأنه يعكس التوجه العام وسط ضباط الجيش، كما كان التوجه اليساري في بداية نظام نميري يعكس المزاج العام للجيش وقتها. ولكن المشكلة لم تقف عند هذه الرواية التي انتقدت أسسها حينها بالقول بأنه لا مستقبل لنظام يخجل من هويته، إذ ناقضت قيادات الجبهة الإسلامية وكوادرها ناقضت عملياً هذا الزعم، كما ظهر من التسابق على استضافة الدبلوماسيين الأجانب وزيارتهم، والاجتهاد في إعطاء كل شخص الانطباع بأنهم أهل الأمر. فنحن إذن أمام رواية صعبة التصديق، ولكن أصحابها لا يريدون أن يسمحوا للآخرين بمجرد التظاهر بتصديقها. وقد أثار الأخ الكريم صديق محمد عثمان في تعليقه على ما كتبت انتقاداتي الحادة لكتيب الشيخ الترابي "عبرة المسير لاثني عشر سنة" الذي صدر عام 2001 كأول محاولة لتقييم فترة الإنقاذ من منظرها الأول وقائدها غير المنازع في عقدها الأول. ولم أكن أريد هنا أن أعود إلى تلك التعليقات التي لم أتلق بسببها الشتم والتجريح فقط، بل التهديد بالقتل (وما خفي كان أعظم). ولم أستغرب أياً من ذلك، لأن الأحزاب كائنات شرسة، تدافع عن روايتها المؤسسة والمبررة كما يدافع الفرد عن حياته. ولكني فقط أضيف هنا أن كتاب المحبوب هو في حقيقته هامش على ذاك المتن. فلا عجب أن كانت انتقاداتي للشرح هي عين انتقاداتي للمتن، وهي أنه يروج لرواية يصعب تسويقها كما يظهر من أقل تدبر لفحواها. ولكن هناك إشكالات أخرى قد تصيب الروايات، وهي أن تحفل بالتناقضات الداخلية. وهنا أيضاً تضيف رواية المحبوب إلى المتن تناقضاً آخر فحواه أننا كنا ندبر الأمر فعلاً، وباتجاه يرضاه كل الناس، ولكننا كنا غافلين عن كل ما يقع من انتهاكات وجرائم ومؤامرات. وهي مزاعم لو صحت فإنها تؤكد أن القوم لم يكونوا مؤهلين لتولي الأمر حينها، وأنهم لن يكونوا كذلك في المستقبل. فمن كان قابلاً للخداع من قبل مرؤوسيه بهذه الدرجة، بحيث يدبرون الأمر كله وهو كالغائب(خاصة وأن أفعال هؤلاء سارت بها الركبان وصحف الدنيا) ، لا يمكن أن يصلح لتولي مسؤولية، وعليه أن يعتزل الأمر وينتحي مكاناً قصياً يستغفر الله فيه ويبكي على ذنبه. ولنعد مرة أخرى إلى قضية النازحين التي استغربت أنها استغرقت جزءاً كبيراً من مداخلات المعلقين كما استغربت كيف ضيعت نصف وقت اجتماع الشيخ في الخارجية البريطانية عام 1992. وقد كنت متأكداً أن الشيخ (وأعترف أنني لم أسأله عن ذلك وقتها) لم يزر معسكرات النازحين ولم يكن على علم مباشر بحالها، سوى ما كان يزوده به شرف الدين بانقا وبقية المسؤولين. وأنا أعتقد أن الأمر كذلك بالنسبة للفئة التي دافعت بحماس جهادي عن عملية إبعاد النازحين في الأيام الماضية. وأزيد أن معظم هؤلاء لم يقرأ أو يعقل رسالة بانقا التي سعت لتوضيح ما قيل إنه خفي عني من الحقائق. فبانقا لم يقل أن وزارته وفرت للنازحين كل ما يحتاجون إليه، بل قال إنها وفرت المياه، واعتذر عن عجز الحكومة عن الوفاء باحتياجاتهم من سكن وأغطية بضيق ذات يد الدولة وقتها ورفض منظمات الإغاثة للتعاون. ولكن معظم من تطوعوا بالمداخلات قالوا إنني غفلت عن تأكيدات بانقا بأنه قد قدم للنازحين كل ما يحتاجونه، وهو ما لم يقله وما لم يحدث في الواقع، إذ ليس بالماء وحده يحيا الإنسان. وهذه للأسف مصيبة العقلية الحزبية، أي الحماس الزائد للدفاع عن المواقف بدون الاهتمام بأبسط الحقائق. ويجب أن أضيف هنا أنني باعتبار موقعي في السفارة في تلك الفترة، كنت أول من يتلقى التقارير التي تنتقد الممارسات الحكومية، وكنت أتقصى عنها من المسؤولين مباشرة. وباعتباري كنت "محامي الحكومة" وقتها في المجال الإعلامي، كانت مهمتي أن أبحث لموكلي عن المعاذير. وصدقوني لو كانت هناك أسباب مخففة لما قام به الأخ بانقا ووزارته لكنت على علم بها، ولكني لم أجد له عذراً وقتها، ولا أجد له اليوم. ولا أحتاج هنا إلى إعادة تأكيد أن تسعين بالمائة من المشاكل التي كنت أتعامل معها كانت تأتي من وزارة بانقا ومن الأجهزة الأمنية، وأن إعفاء بانقا وقيادات تلك الأجهزة عن مناصبهم كان سيحل لي وللنظام مشاكل كثيرة، وهو أمر صرحت به في ذلك الحين. ولدي معلومات إضافية عما وقع وقتها تؤكد أن الدوافع لم تكن قط مصلحة النازحين وراحتهم، ولكني أمسك عن إيرادها هنا. ولكن قضية النازحين لم تكن سوى جزء من توجه كان سائداً وقتها، ونتاجاً لعقلية حكمت السياسات، وهي عقلية كانت ترى أن حل المشاكل الاجتماعية والسياسية يكون إما بالقوة، أو بالمكر، أو بالرشوة، بديلاً عن الحوار والتعامل مع الآخرين كبشر ينبغي إقناعهم أو الوصول معهم إلى حلول وسط. ولهذه العقلية مقابل آخر مساند، هو عقلية الحماس الحزبي الزائد، حتى لا نقول الهوس. وهذه الميول حظيت وقتها بتأييد متحمس وإجماعي ممن إصبحوا بعد وطنيين وشعبيين. وحتى لا يضيع الأمر في الجدال العقيم، لعل من المناسب أن نطرح هنا إجابة على سؤال يكثر من طرحه المنتقدون، ألا وهو: إذا كنت ترى خللاً في الروايات موضوع النقد، فما هي إذن الرواية التي قد تجدها مقبولة أو تحبذها؟ والأمر هنا لا يحتاج إلى رجم بالغيب، لأن هناك بالفعل محاولات قاربت الصواب، مثل كتاب عبدالرحيم عمر محيي الدين ("الترابي والإنقاذ.. صراع الهوية والهوى"، 2006)، على الرغم من انحيازه إلى رؤية المؤتمر الوطني بأمور من ضمنها أن معظم رواياته منقولة عن أنصار ذلك الرأي. إلا أن ذلك الكاتب أعطي القارئ مواد أولية كافية تسمح له بالموازنة والتقييم. وما نحتاجه اليوم هو تقديم روايات تزود القارئ بما يكفي من المعلومات الخام مع شفافية كافية في التعليق حتى يميز بين آراء الكاتب ورجمه بالغيب، وبين شهادته عن الوقائع. من جهة أخرى فإن الرواية التي تقول إن الزعيم غير المنازع لنظام الإنقاذ خلال عقده الأول وطائفة من مساعديه المقربين كانوا غافلين تماماً عن التجاوزات التي ارتكبت طوال تلك الحقبة، ولم يتستروا عليها فضلاً عن أن يأمروا بها، هي أقل قابلية للتسويق من تلك الرواية التي كانت تقول في بداية عهد الإنقاذ أن نفس الفئة لم يكن لها علاقة بالنظام الجديد. نفس الشيء يمكن أن يقال عن رواية تصور تلك الحقبة الأولى على أنها كانت سباقاً محموماً باتجاه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، تم اعتراضه فجأة من قبل تمرد العسكر ومن شايعهم. ولعل الرواية الأقرب إلى الحقيقة (وبالتالي الأجدر بالقبول) هي أن الحركة الإسلامية، وبما يقرب الإجماع من كل قياداتها وكوادرها ما عدا قلة كانت تعد على أصابع اليدين، قررت الدخول في مغامرة كبيرة، و"حرق المراحل" كما يقول إخواننا اليساريون، من أجل بناء ما كانت تراه دولة إسلامية مثالية. وكشأن كل الثوريين كانت القيادة ترى أن قدراً من التجاوزات هو أمر لابد منه لتحقيق ذلك الهدف الأسمى، فلا يمكن أن تصنع العجة بدون أن تكسر البيض، كما قال لينين. وكانوا يعتقدون بأن المشروع الثوري، حين يتم إنجازه، سيظهر أن تلك التضحيات كانت هامشية بالقياس إلى الخير العميم الذي سيعم البلاد والكون نتيجة له. وعندما ثارت الخلافات داخل قيادات المشروع، كانت القضايا الخلافية تتعلق بازدواجية القيادة وتقاسم النفوذ، وإلى درحة أيضاً بتكلفة المشروع، وتحديداً تكلفة محاولات تصديره. صحيح أن الشيخ الترابي بدأ يقتنع بضرورة التحرك باتجاه انفتاح محدود، ولكن ذلك حدث بعد أن بدأت الخلافات تدب. وقد سمعت من الشيخ في عام 1996 قبولاً بنقطة أثرتها في كتابي "الثورة والإصلاح السياسي"، مفادها أن التضييق على الطائفية مسؤول جزئياً عن استشراء العصبيات القبلية والعرقية في مناطق مثل دارفور. وقد بدأ يقتنع بضرورة السماح بمنافسة حزبية محدودة، ولكن غالبية القيادات الأخرى، بمن فيهم الرئيس البشير، كانوا يعتقدون أن عودة الأحزاب ستعني نهاية الثورة وتسليم الحكم للطائفية. ولكن المفارقة هي أن الشيخ الترابي، رغم اقتراحه على استحياء باستعادة بعض التعددية الحزبية (التي كان يرى أيضاً أنها قد تلجم الصراع الداخلي بين الإسلاميين لأنها ستشغلهم بالمنافسة مع خصوم من الخارج) لم يكن قد اقتنع بعد بضرورة بناء تنظيم إسلامي حقيقي، ورفض في حوارات كثيرة تلك الفكرة التي دعونا لها في الكتاب. ولم يبدأ التحرك المحدود إلا في نهايات عام 1996، وهي بداية لم تكن موفقة إن صحت رواية المحبوب بأنها استهلت بتزوير إرادة الحزب الوليد وفرض قيادة عليه بغير رضاه، وهي قيادة لم يكن يراد لها أن تكون قيادة حقيقية على كل حال، لأن الأمر كله كان ما يزال بيد تنظيم آخر له قياداته التي لم ينتخبها أحد. إن الأمر لا يتعلق باعتراف بأخطاء والاعتذار عنها، ولكن بإدراك ماهية ما حدث من أخطاء وأخذ العبرة منها. ولا يتأتى ذلك إذا كانت استعادة الروايات هي في حد ذاتها نوع من الإصرار على الخطأ، والتستر عليه وتبريره. إن المشاريع الثورية بطبيعتها تستهين بانتهاكات تراها ثمناً قليلاً يستحق الدفع مقابل جنة التغيير الموعودة. و "السكر الثوري"، إن صح التعبير، هو مخدر قوي يجعل أصحابه يتعامون عما تجلبه سياساتهم من معاناة للكثيرين. وقد أصاب هذا السكر جل الإسلاميين في فترة معينة، وقد كان المحبوب وطائفة من مناصريه الحاليين ممن أخذوا أكثر من نصيبهم من ذلك الشراب السحري، فكانوا يقربون الصلاة وغيرها وهم لا يعلمون ما يقولون ولا كثيراً مما يفعلون. ولكن المؤسف أنهم ما زالوا يعبون من نفس ذلك الشراب، فيتأثر به ما يقولون ويفعلون. والمطلوب هو تغيير وصفة الشراب، أي طرح مشروع إسلامي جديد يكون له مفعول مختلف. Abdelwahab El-Affendi [[email protected]]