دون تهاتر واسترجال، وبعيداً عن لغة التهديد المبطن وغير المبطن التي استخدمتها أنت في خطابك الذي ذاع تسجيله وانتشر محذراً من التطاول على القوات المسلحة، أقول لك أن رسالتك وصلت. ودونك فيما يلي ردنا عليها، ونرجو مخلصين أن تقرأه بتجرد وبتمهل، وأن تفكر فيه بروية وموضوعية، لترى ما الحقيقة والصدق فيه، ومدى صواب الرأي فيه وصلاحه للوطن وللقوات المسلحة التي تتحدث باسمها، وأنت في موقع سيادي !!. (جيش الشعب هذا ... ففيمَ المزايدة ؟!) ولكن مهلاً، أرجو ألا تستصحب في قراءتك هذه الرسالة كرامة وعزة قوات "الشعب المسلحة". فهي ليست محل مزايدة بيننا. ولا تعجب إذا ما قلنا بأننا أحرص من بعض منسوبيها على حفظ كرامتها وعزتها. وأحرص من بعض منسوبيها على أن تؤدي دورها المنصوص عليه في الدستور بكفاءة. لسبب بسيط وهو: أن من ينتسبون إلى المؤسسة العسكرية وكافة الأجهزة الأمنية هم أبناء وبنات هذا الشعب. هم منه وإليه. منه خرجوا .. وإليه يعودون بعد أن تنتهي خدمتهم. لم تلدهم المؤسسة ولم يتربوا في فراشها. لهم آباء وأمهات، أبناء وبنات، وإخوان وأخوات وخالات وعمات، ولهم أتراب من صبيان وبنات حي نشأوا معهم/ن، ولعبوا، وتشاركوا اللقمة والضحكة والدمعة. قبل أن ينتسبوا لمؤسسات الدولة ويستوظفوا، هم أبناء وبنات هذا الشعب من مختلف قبائله وجهاته وطوائفه، ولن نقبل أن يزايدنا عليهم أحداً. هذا أولاً. وحتى القوات المسلحة كمؤسسة (ثانياً). هي واحدة فقط من مؤسسات دولة هذا الشعب. ليست جزيرة منعزلة. هي مؤسسة خادمة للدولة، مثلها مثل مؤسسات الدولة الأخرى كالتعليم والصحة والسياحة الخ. تصرف على تسليح نفسها من مال الشعب. لسبب ببسيط وهو أنها ليست من مؤسسات القطاعات الإنتاجية في الدولة. ويصرف أفرادها مرتباتهم ومخصصاتهم وكافة امتيازاتهم بما يفيض به المزارعون والصناعية والتجار وستات الشاي وغيرهم على خزينة الدولة من عرقهم، في شكل ضرائب وجمارك وأتاوات. ندفعها لأبنائنا وبناتنا في القوات المسلحة لأنهم يدافعون عن وطننا ضد العدوان الخارجي ويحمون حدودنا. أو هذا نظرياً ما عليه الحال في كل الدول في العالم منذ أقدم العصور. وعندما ثار الشعب على نظام فاسد مفسد أجاع الناس ومنع عنهم الغذاء والكساء والمسكن الصحي والتعليم والصحة، وابتذل كرامة الوطن بين الأمم والدول والشعوب، وأهان كرامة مواطنيه وعذبهم وقتلهم وانتهك عروض نسائه. إلى أين أتجه الشعب (وقت الحارة)؟ ألم يعتصم أمام بوابة قواته المسلحة" ليحتمي بها ويستجير بأبنائه فيها من القتلة والمجرمين؟!. وهل ثمة إعزاز وإكبار أكثر من ذلك؟. هل ثمة احترام واعتراف بدور ومكانة القوات المسلحة أكثر تعبيراً من هذا؟!. إذن فيم تزايد في خطابك الشعب على قواته المسلحة؟. هل قرأت وسمعت شيئاً من النقد والعتب والغضب عليها؟. أنت تقول عن التنكيل بأبناء وبنات الشعب من قتل واغتصاب وإلقاءهم في النيل واختطافهم أمام بوابة قيادة القوات المسلحة وتحت أعين الجيش، الذي أغلق الباب في وجه من لاذوا به، كأبشع صور الخيانة والغدر، أنت تقول بكل بساطة بأنه قد "حدث ما قد حدث"!!. ما رد الفعل الذي كنت تتوقعه من الشعب: أن يرسل زهوراً لقواته المسلحة على هذا الموقف؟. أتستكثر على الناس الشعور بالغبن والمرارة والقهر، والتعبير عن السخط والغضب؟. ورغم رائحة الدم المسفوك، ليس أمام القيادة وحدها، بل في كل أنحاء السودان جنوباً وشرقاً وشمالاً وغرباً ووسطاً ، برأ الشعب قواته من وزر هذه الجرائم وطالب بمحاكمة "أفراد" منها ومن خارجها يتحملون مسؤوليتها. لم يسع الشعب للانتقام (ولله في أسمائه الحسنى المنتقم). بل طالب بالعدالة. وعامل المجرمون بإنسانية لا يستحقونها – ولكنها المبادئ والقيم – بالقسط، لحد الإكرام.... وهم من هم!. فهل تجد في كل هذا ذرة احتقار وعدم احترام للمؤسسة العسكرية، كمؤسسة من مؤسسات "دولة الشعب"، يحكمها الدستور ويضبط حدود صلاحياتها؟!. وأنت في بلد يعتدي فيه ذوو المرضي بالضرب على الأطباء في حرمة عياداتهم والتنكيل بهم إذا شعروا بأنهم لا يقدمون الخدمة والرعاية الطبية اللازمة لإنقاذ مريضهم، ولا يجدون للطبيب عذراً بكثرة عدد المرضى، أو نقص المعدات والأجهزة الطبية والعلاجية اللازمة، أو لأنهم أتوا بمريضهم وهو يحتضر. فبماذا تنتظر منهم أن يشعروا وقد احتموا بقواتهم المسلحة فقامت بقتلهم بدم بارد أو ساعدت على قتلهم بإغلاق أبوابها في وجه الهاربين من الموت منهم؟. وبهذه المناسبة هل أتاك بالأمس القريب (الاثنين 24 مايو 2020) نبأ إقالة إدارة الشرطة في ولاية مينسوتا الأمريكية أربعة من أفرادها بعد وفاة المواطن الأمريكي من أصول أفريقية (جورج فلويد) أثناء القبض عليه فوراً بعد مظاهرات حاشدة عمت المدينة. وأنه في اليوم التالي (الثلاثاء) أكد العمدة جاكوب فراي، أنه تم إنهاء خدمة أربعة من أفراد الشرطة متورطين في الحادث الذي وصفه بأنه "عبثي بشكل تام وكامل. لم يحاول التهرب من المسؤولية والإنكار، وإنما اعترف بأن ما شاهده على الفيديو "خطأ على كل المستويات "فكونك مواطنا أسود لا يعني هذا أن عليك حكما بالإعدام". ولم يقف الأمر عند هذا الحد. إذ أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آى) قال إنه سيفتح تحقيقاً حول الحادث. وأصدرت عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية مينيسوتا آمي كلوبوبشار بيانا دعت فيه إلى تحقيق خارجي كامل وشامل. وقالت: "يجب تحقيق العدالة لهذا الرجل وعائلته، ويجب تحقيق العدالة لمجتمعنا، ويجب تحقيق العدالة لبلدنا"؟. هل نقارن هذا بما يحدث عندنا؟. ورغم الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها القوات النظامية والأمنية بكافة تشكيلاتها وانتهاكاتها الممنهجة لحقوق وكرامة وحرية الإنسان السوداني، لم يسعى أحد ما للانتقام من أفرادها، ولم يكتب أو يذيع من يطالب بتسريح منسوبيها. غاية ما طالب به الناس هو تنظيفها حتى لا تشوهها انحرافات بعضهم. وهم في نهاية الأمر أفراد/ مستخدمون فيها. وليسوا مالكين لها. فلم المزايدة على الناس إذا ما احتجوا على ممارسات أفراد في مؤسسة من مؤسسات الدولة تؤذي الناس وتضر بهم وتودي بحياة البعض وتنتهك عروض البعض باستهانة وكأنهم آلهة لا يُسألون عما يفعلون، ويعتبر تساؤلهم واحتجاجهم كفراً وخروجا على القانون والأدب وتطاولاً يستوجب التقريع والتهديد. بعد كل ما ذكرنا: فيم المزايدة على مكانة وكرامة القوات المسلحة وكافة المنظومات الأمنية؟. ومن الذي يحق له أن يزايد على من؟!. (هذا الخطاب ولغته) النقطة الثانية التي ينبغي أن تتوقف عندها وتتفكرها مليَّاً، وهي في الواقع تتصل بنقطة (المزايدة) الأولى وترتبط بها ارتباطاً عضوياً. وهي لغة خطابك التي لا نشك أنها ليست حكراً لك وحدك، وربما يشاركك البعض من منسوبي المؤسسة العسكرية فيها. لأنني (شخصيا) سبق وشاهدت تسجيلاً لك تتحدث بذات اللغة تعبيراً عن ذات الخطاب فيه، وكانت صيحات التأييد تتعالى بين بعض جنودكم بحماس. وقد سبق أن أشرت في مقال سابق إلى أن السبب في تفشي هذه الظاهرة يرجع إلى طبيعة الإعداد المعنوي والتربية النفسية في القوات المسلحة أكثر من غيرها من أجهزة الدولة الأمنية المدنية والاستخباراتية. تحيط القوات المسلحة نفسها بسور حديدي يفصلها عن بقية العالم. داخل هذا العالم، وخلف أسواره العالية هناك منظومة حياتية متكاملة، ونمط حياة وعلاقات ذات طبيعة مختلفة. القيم والمعايير الضابطة لأشكال العلاقات وقواعد السلوك في ذلك المجتمع بسيطة للغاية لا تتجاوز قاعدين تتفرع عنهما تفاصيل الأشكال الأخرى، وتشكلان معاً الفضاء الفردي المتاح أمام الشخصية، وهما: الانضباط والطاعة. الانضباط يعني في المصطلح اليومي الضبط والربط، الحسم، المباشرة. والطاعة تعني تنفيذ الأوامر دون سؤال، التقيد بالقواعد التراتبية في السلوك بما في ذلك التحية العسكرية للرتب الأعلى. ليس هناك مجال شخصي، ليس هناك مجال للنقاش والتعبير عن الرأي الخاص. ويتم ، لتحقيق ذلك، وإنتاج شخص عسكري بمواصفات عالية، وفق المعايير المعتمدة، أن يُخضع الشخص لبرامج تدريبية شاقة على المستويين الجسدي والنفسي/ الذهني، يتم خلاله تفريغ المجند وتجريد من شخصيه التي كان عليها وصبه في قالب جديد، أو إعادة صياغته على نحو آخر. يولد المجند من جديد خلف السور العسكري. ولكن يحدث أثناء عملية إعادة الصياغة شيء فريد حقاً. إذ يتم رفع هذه القيم الجديدة التي تم تنشئته عليها إلى أعلى. في مقابل الحط من قيم المجتمع المدني. فتصبح القيم والمعايير الشخصية والسلوكية العسكرية هي المثال الأعلى، في مواجهة قيم المجتمع المدني باعتبارها قيم الانحلال والتسيّب والميوعة واللامسؤولية. فالعسكري على خلاف المدني يجب أن يتحدث بصوت عالٍ، ويستخدم لغة حاسمة قاطعة لا تترك مجالاً للرد، وهو يتميز عن المدني بالخشونة في الكلام والسلوك، ويمشي بخطوات واسعة موزونة على إيقاع مارش عسكري يدوي في ذهنه. وأسوأ صفة قادحة تصل إلى حد العار تُطلق على العسكري، أن يُوصف من رصفائه بأنه "مدني". لذا ينأى بنفسه ويترفع أن يتلوث بشيء من الصفات المدنية التي يكنّ لها احتقاراً باطنياً عميقاً. ولعل ل"وظيفة" عسكري الجيش التي تجعله في خطوط النيران في حالة الحرب، أثر في هذا النهج التربوي والإعداد المعنوي. فحالات الاشتباك، لا تحتمل التردد والخوض في النقاشات. وتنفيذ الخطط والتكتيكات الميدانية يتطلب سرعة التنفيذ ودقته بلا تباطؤ أو تردد. وعلى كل حال، وكما قلت في مقال سابق: " يبدو أن انكفاء المؤسسة العسكرية وسائر الأجهزة الأمنية على نفسها، وما تتمتع به من قوانين ونيابة وشرطة عسكرية خاصة بأفرادها. إضافة إلى منهجها الخاص في إعداد أفرادها إعداداً يتناسب وطبيعة ما يُطلب من أفرادها تنفيذه من أوامر ومهام قتالية تقتضي التضحية بالنفس تنفيذاً للأوامر والخطط العسكرية. كلها عوامل زادت من عزلة العسكر عن فضاءهم الاجتماعي العام، بما يشكل مجتمعاً موازياً داخل معسكراتهم وغشلاقاتهم السكنية. وتنتج عن المغالاة في تطبيق منهجية هذا الإعداد بعزل العسكر في مجتمع موازٍ، ما تراه ينعكس سلوكياً في تعاملهم بازدراء مع المدنيين وعدم احترام لحقوقهم الإنسانية بما يصل إلى حد الوقاحة، وما ذاك إلا لنظرتهم الدونية للمجتمع المدني، كمجتمع فوضوي غير "منضبط". والمسافة بين "فوضوية" المجتمع المدني المفترضة... وبين الشعور بواجب "الوصاية" على الدولة وعلى المجتمع المدني ليست ببعيدة!." (1). وليس كباشي وحده من أخذته الحمية العسكرية هذه فأخرجت ما هو مكنون ومضمر من آثار هذه التربية، فقد سبقه غيره ممن تتفاوت رتبتهم العسكرية، وإن كان الازدراء بالمدنيين يكاد يكون سمة ثابتة ومستمرة لا تخطئها العين، وهي سبب هذا التوتر الذي يشيعه وجود أي عسكري في الفضاء المدني العام. ولسنا هنا في مجال مناقشة خطأ أو صواب هذه التربية ولكن ما يعنينا هو تداعياتها وتأثيراتها حين يخرجون من فضائهم إلى الفضاء المدني العام، وهو تأثير سلبي، ومؤشر واضح على علاقة غير صحية. وإذا كنا نأمل أن ينتبه الجميع في مكونات السلطة الحالية والمستقبلية إلى ضرورة تصحيح هذه العلاقة وإعادة النظر في منهجية التربية العسكرية والإعداد المعنوي لمنسوبيها على نحو يحقق تطبيع العلاقة بين المكونين. إلا أن أمثال الفريق أول الكباشي من القادة العسكريين الكبار، الذين لا يتورعون عن استخدام لغة بهذا المستوى (رغم أنه في منصب سيادي!) لا يساعد إطلاقاً على ذلك. هذا من حيث الشكل في خطاب الفريق الكباشي، وسنعالج لاحقاً مضمون هذا الخطاب. مصادر وهوامش (1) مأزق "الدولة" السودانية: بين "وصاية" العسكر المدعاة.. و"نقص التربية" الديمقراطية للأحزاب، صحيفة سودانايل الإلكترونية، بتاريخ: 29 نيسان/أبريل 2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.