شاهد بالفيديو.. الفنانة توتة عذاب تشعل حفل غنائي بوصلة رقص مثيرة والجمهور: (بتحاولي تقلدي هدى عربي بس ما قادرة)    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تدخل في وصلة رقص فاضحة بمؤخرتها على طريقة "الترترة" وسط عدد من الشباب والجمهور يعبر عن غضبه: (قلة أدب وعدم احترام)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تثير ضجة غير مسبوقة بتصريحات جريئة: (مفهومي للرجل الصقر هو الراجل البعمل لي مساج وبسعدني في السرير)    شاهد بالفيديو.. الفنانة توتة عذاب تشعل حفل غنائي بوصلة رقص مثيرة والجمهور: (بتحاولي تقلدي هدى عربي بس ما قادرة)    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تدخل في وصلة رقص فاضحة بمؤخرتها على طريقة "الترترة" وسط عدد من الشباب والجمهور يعبر عن غضبه: (قلة أدب وعدم احترام)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تثير ضجة غير مسبوقة بتصريحات جريئة: (مفهومي للرجل الصقر هو الراجل البعمل لي مساج وبسعدني في السرير)    انشقاق بشارة إنكا عن حركة العدل والمساواة (جناح صندل ) وانضمامه لحركة جيش تحرير السودان    على الهلال المحاولة العام القادم..!!    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    مناوي يلتقي العمامرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للسودان    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    أول تعليق من ترامب على اجتياح غزة.. وتحذير ثان لحماس    فبريكة التعليم وإنتاج الجهالة..!    تأملات جيل سوداني أكمل الستين    السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار    مقتل كبار قادة حركة العدل والمساواة بالفاشر    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    بيراميدز يسحق أوكلاند ويضرب موعدا مع الأهلي السعودي    أونانا يحقق بداية رائعة في تركيا    ما ترتيب محمد صلاح في قائمة هدافي دوري أبطال أوروبا عبر التاريخ؟    "خطوط حمراء" رسمها السيسي لإسرائيل أمام قمة الدوحة    دراسة تكشف تأثير "تيك توك" وتطبيقات الفيديو على سلوك الأطفال    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    لقد غيّر الهجوم على قطر قواعد اللعبة الدبلوماسية    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    هالاند مهاجم سيتي يتخطى دروغبا وروني بعد التهام مانشستر يونايتد    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تراجع سواكن في القرن العشرين (1/3) .. بقلم: ديفيد رودن .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 03 - 08 - 2020

The 20th Century Decline of Suakin
ديفيد رودن David Roden
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم ديفيد رودن عن بعض جوانب التراجع الذي حاق بسواكن في القرن العشرين. نُشر المقال ضمن أوراق الجمعية الفلسفية السودانية في العدد الحادي والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR"، الصادرة عام 1970م. ونشرته أيضا "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم في ذات العام.
لكاتب بنفس الاسم مؤلف عن السودان صدر عام 1974م عنوانه
Regional inequality and rebellion in the Sudan (عدم المساواة الإقليمية والتمرد في السودان).
المترجم
********* ******* *********
ظل ساحل البحر الأحمر هو المحطة النهائية لواحدة من أهم خطوط الحركة عبر القارة، وازدهرت، في أزمان مختلفة، العديد من الموانئ فيه بفضل التجارة مع الجزيرة العربية والهند. ولا زالت بقايا تلك الموانئ (مثل حلايب وعقيق وبادي وأدليس وعَيذاب ودهلك وماندلوم) موجودة متناثرة على طول سواحل السودان وإرتريا واثيوبيا ومصر. وكانت سواكن هي آخر ميناء على البحر الأحمر تتدهور أحواله بضربتين قويتين من تغير الأحوال والظروف (العالمية) والمناخ المفرط السوء. وبعد نحو 500 سنة من تراجع ميناء عَيذاب في بدايات القرن الخامس عشر، كان ميناء سواكن هو الميناء الشرقي الأكثر أهمية بالنسبة لحوض النيل. غير أن سواكن الآن لا تزيد عن كونها إحدى الأسواق الصغيرة والمراكز القبلية، وليس بها الآن سوى مجموعة رائعة من الأنقاض.
تقع الجزيرة المرجانية التي يقوم عليها ميناء سواكن عند مقدمة مدخل البحر، وهي منفصلة عن البر الرئيس بشريط مائي عرضه مائة متر. وامتدت المدينة من قديم عبر المياه من موقعها الضيق المزدحم لتكون "القيف" وهو ضاحية السوق في البر الرئيس. واليوم ما زالت هذه هي المستوطنة الفعالة ومركز النشاط الاقتصادي بسواكن.
وتبدو من بعيد تلال البحر الأحمر على بعد عشر كيلومتر، ويفصلها عن الساحل أراضٍ منخفضة قاحلة في غالب فصول العام، حيث لا تنمو فيها سوى شجيرات مقاومة للجفاف. وبحلول شهر أكتوبر وهطول الأمطار تكتسي تلك الأراضي المنخفضة القاحلة بالخضرة فيهبط الهدندوة والبني عامر من التلال والأراضي الواقعة حول دلتا القاش نحو جهة الجنوب الغربي. وبحلول شهر يونيو يكون غالب الرعاة قد ارتحلوا غربا وجنوبا بحثا عن مراعٍ جديدة، بينما ينتقل المقيمون إلى التلال هربا من حرارة الطقس العالية والرطوبة المفرطة. ولم تكن هنالك في الماضي أي زراعة في السهول الساحلية، ولكن توجد الآن مناطق محدودة وصغيرة المساحة تروى بالآبار (مثلا يحدث في سواكن نفسها). ولا توجد منطقة دائمة للزراعة سوى في دلتا بركة حول طوكر، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وكان من الواضح أنه لم يكن لأي ميناء في المنطقة أن يبقى عاملا ومزدهرا بالاعتماد فقط على التجارة المحلية، بل كانت الموانئ تستمد قوتها من اتصالاتها بوادي النيل ومناطق السافانا خلفه. وكانت سواكن تتمتع بعدة عوامل ساهمت في نمو الميناء في موقعها، فهي ميناء طبيعي ممتاز، يمكن الوصول إله عبر ثُغْرَة في الشعب المرجانية ويقدم للسفن المبحرة واحدة من الموانئ القليلة التي توفر على طول ساحل طويل ومعزول وغَرّار مرفأ محميا جيدا ومصدرا منتظما من المياه (من عدة آبار وحفير الفولة وخور ابنيت (وليس Abban كما ذكر الكاتب. المترجم). ويمنح موقع الجزيرة، ومدخل الميناء الضيق (عرضه 165 مترا) قدرا كبيرا من القدرة على الدفاع عنه.
سواكن قبل 1905م
مرت سواكن في خلال الخمسمائة عاما الماضية بفترات متذبذبة من الازدهار. وورد ذكر سواكن في كتاب جواو دي كاسترو المعنون Tavoa da Cidade de Cuaquem، الذي صدر في القرن السادس عشر، حيث وصف منازل المدينة بأنها حسنة التناسب، وبعضها مكون من ثلاثة طوابق. بل ورد في أحد المصادر البرتغالية في تلك الفترة بأن سواكن لا تختلف عن لشبونة كثيرا: ترسو في مرفأها أكثر من مئتي سفينة تنتظر أن تفرغ حمولتها في مخازن على رصيف الميناء، وقوافل من آلاف الجمال تذهب محملة بالبضائع من الميناء إلى المناطق الداخلية، وتعود محملة إليه ببضائع أخرى.
وفي القرن السابع عشر قلت أهمية وحجم التجارة العالمية في البحر الأحمر (وفي سواكن بالطبع) بسبب تحول تجارة الشرق الأقصى حول أفريقيا، ونسبة للضرائب الباهظة التي كانت تفرضها تركيا، وللزيادة الكبيرة في عمليات القرصنة في البحر الأحمر. وفي بدايات القرن التاسع عشر كانت معظم بيوتها الستمائة قد تهدمت تماما، ولم يبق لسواكن من صلة سوى بجدة، بحسب ما أورده الرحالة السويسري بيركهاردت في سفره المعنون: "رحلات في بلاد النوبة".
وتحسنت أحوال الميناء في غضون السنوات الخمسين التالية. وقد ساهم احتلال المصريين لغالب صعيد مصر وشمال السودان في تهدئة الأحوال في تلك المنطقة وتطوير التجارة بها. وتم فتح النيل الأبيض للبواخر والتجارة في ستينيات القرن التاسع عشر، حيث نشطت تجارة العاج والرقيق المجلوب من الجنوب. وأفضى إغلاق أسواق المسترقين بمصر في سبعينات القرن التاسع عشر إلى انتعاش تجارة الرق عبر البحر الأحمر من سواكن، كما كانت في الماضي مركزا مهما لها. وفي ذات الوقت أدت الزيادة الكبيرة في انتشار الإسلام الأصولي في غرب أفريقيا لقيام الكثير من سكان تلك المناطق الذين اعتنقوا الإسلام برحلات طويلة وشاقة إلى مكة لأداء فرضة الحج عبر ميناء سواكن. وعادت الملاحة والتجارة في البحر الأحمر للازدهار بعد أن اكتمل بناء خط السكة حديد بين الإسكندرية والسويس، وعقب فتح قناة السويس. وبحلول عام 1865م كانت البواخر المصرية تقوم برحلات منتظمة بين سواكن والسويس. وقام الحكمدار المصري أحمد ممتاز باشا (1865 – 1872م) بتحسين ميناء سواكن وتوسيع إمكاناته. وأقام سدا ترابيا على خور محلي لتنظيم سريان امدادات المياه، وشيد مبنىً للجمارك ورصيفا في الجزيرة. وكان ذلك الحكمدار هو أول من أقام مشروعا لزراعة القطن (استجلب له من مصر بذرة قطن جوميل ومزارعين. المترجم) في طوكر، ثم في كسلا. وسمح لشركة سورية في عام 1870م بأن تنشئ محلجا للقطن في سواكن.
وعلى الرغم من كل ذلك النمو والتطور، بقيت سواكن مركزا تجاريا ثانويا، وفقا للمعايير العالمية. وظل تجارها حتى سبعينيات القرن التاسع عشر مجرد وكلاء للبيوتات التجارية الكبيرة في جدة. وكان حجم صادراتها ووارداتها في عام 1882م يقل بنحو 40% عن ميناء مصوع، وهو أقرب ميناء أفريقي يماثل سواكن في الحجم. وكانت الجمارك التي تُفرض على السفن والبضائع عالية جدا، وسياسات وقرارات حكامها تتميز بالتذبذب والقصر، وبقيت مصادر مياهها محدودة الكمية والنوع رغم ما بذل في تحسينها من مجهود. وكان الميناء يفتقر لرصيف عميق المياه، ويصعب على السفن دخوله، ولا يمكن لها أن تدخله إلا نهارا عبر واحدة من ثلاث قنوات شديدة الالتواء. وزيادة على تلك العيوب، تكاثر نمو الشعب المرجانية في الرصيف حتى كاد أن يعيق الحركة فيه. ولذا صارت السفن الكبيرة العابرة للمحيطات تتجنب – إلا نادرا – ميناء سواكن بسبب صعوبة الدخول إليه ولانعدام المعينات المطلوبة لذلك. واقتصرت الملاحة بسواكن على السنابك والمراكب الشراعية التي تبحر من وإلى جدة ومصوع، وعلى البواخر المصرية التي تحمل البضائع من السودان إلى السويس وعدن، ومنهما إلى أوروبا والهند.
وكانت الجمال تستخدم في نقل البضائع ما بين سواكن والمناطق الداخلية البعيدة. وكان أهم طريق بري لذلك يمر غربا إلى بربر ووادي النيل. أما الطريق الآخر فيذهب في اتجاه الجنوب الغربي إلى كسلا ومنها إلى مرتفعات إرتريا، أو ومناطق تزرع فيها الذرة مثل القضارف وكركوج، ومنها إلى المديريات الاستوائية وما بعدها. وفي سنة 1880م وما تلاها من أعوام كانت هنالك قوافل تتكون من 600 إلى 1000 من الإبل تتحرك كل بضعة أشهر من سواكن متجهة إلى المناطق الداخلية وهي محملة بأقمشة مصانع مانشستر القطنية الرخيصة والبهارات والعطور وأنواع الحرير التي تُعرف على وجه الإجمال ب "البضائع الهندية". وتعود تلك القوافل إلى سواكن وهي تحمل البن من الحبشة، والصمغ العربي وريش النعام والسنامكي والسمسم والقطن والجلود من الأراضي التي تكثر فيها المراعي، والعاج والزنوج (أي المسترقين. المترجم) من الجنوب. وفي تلك السنوات استحوذت سواكن على تجارة الصمغ العربي بعد أن كانت تمر عبر وادي النيل إلى مصر. وكانت الأغنام والمَعْز تصدر حيةً بأعداد كبيرة إلى السويس. وكان أكثر المستفيدين من توسع التجارة هم الهدندوة الذين كانت إبلهم تُستخدم في تلك القوافل. غير أن نقصا في الإبل في السنوات الأولى من ثمانينات القرن التاسع عشر أدي لتأخير إيصال البضائع لسواكن، وحينها بدأ التفكير في إنشاء خط حديدي يربط سواكن بالنيل (عند بربر).
ولأحد تجار سواكن لأكثر من خمسين عاما (اسمه محمد السيد صيام) أوراق سجل فيها تطور الأنواع المختلفة للتجارة بالمدينة في تلك الفترة. وتتضمنت أوراق مبيعاته ما كانت تحمله الإبل من صمغ وسمسم وجلود وسمن – من كسلا غالبا-. وكان صيام يصدر القطن من دلتا القاش، والشمع من التاكا، والتبغ من القضارف، وكان يقوم أحيانا بتصدير المسترقين. وكان هنالك طلب متواصل للقِرَب المصنوعة محليا، وعلى الملح المجلوب من رأس رواية (Ras Rawaya). وكانت معظم معاملات صيام التجارية تتم مع الجزيرة العربية، خاصة جدة، حيث كان والده يعمل تاجرا بها. ولكنه كان يتعامل أيضا مباشرة مع تجار كلكتا والسويس ومصوع. وكانت العطور والأفيون والأرز والسكر والدقيق والبهارات التي تستورد من الهند والسويس ومصوع تُرحل إلى بربر أو كسلا، ويتم بعد ذلك توزيعها على الأسواق السودانية والحبشية.
وكان وجه سواكن في تلك الفترة يعكس حقيقة ازدهارها المتنامي. ومع عودة التجارة، بدأت حركة صيانة وإصلاح وزيادة المنازل المتلاصقة بالجزيرة. وتم بناء منازل جديدة على طراز المنازل المصرية والأوروبية، بينما أقام البعض خيمهم وعشعشهم في المساحات الخالية بين المنازل. وكان غالب التجار بالمدينة من الأغاريق والمصريين والجداويين. وكانت أهمية وأعداد من استوطنوا في "قيف" سواكن تفوق أهمية وأعداد سكان الجزيرة منذ خمسين عاما مضت. فقد كان في ذلك البر مباني رئاسة الشرطة وثكنات الجيش ومحلج القطن ومسجد أو أكثر. وكان بها أيضا نُّزُلُ كبير للقوافل، اكتمل تشييده في 1881م على يد تاجر محلي يقع على طرف القيف في الجسر (وهو الممر الرابط بين الجزيرة والبر).
وفجأة فصل انتشار الثورة المهدية في عام 1883م الميناء عن كثير من سائر الأراضي السودانية. ولم تنجو المدينة من السقوط على أيدي قوات المهدي المتمردة (أي أنصار عثمان دقنة. المترجم) إلا بعد قتال عنيف. وظلت سواكن تتعرض لحصار متقطع من تلك القوات. وكان ذلك سببا، لا محالة، في تدهور التجارة، إذ أن حركة القوافل وطرقها من وإلى سواكن كانت تتعرض للإغلاق بين كل حين وآخر. وهجرت السلطات فكرة تشييد خط للسكة حديد من سواكن إلى بربر بعد أن اكتمل تشييد 30 كيلومتر منه. غير أن تحرك القوافل والتجارة على طول ساحل البحر الأحمر ظل مستمرا في تلك السنوات بعد أن كان قد توقف لفترة قصيرة. وللغرابة، رغم كل تلك الظروف، بقي الطلب على شراء العقارات في سواكن عاليا. فقد كانت حامية المدينة، والمقاولون الذين عُهد إليهم بتشييد خط السكة حديد بين سواكن وبربر، قد جلبوا الكثير من الأموال للمدينة، وحسنوا من مصادر المياه فيها بحفر المزيد من الآبار وبمكثف (لتحلية ماء البحر)، وأعادوا بناء أسوار الطين المحيطة بالقيف بالطوب والحجر. وظل الصمغ العربي والعاج، طوال تسعينيات القرن التاسع عشر، يصدران من ميناء سواكن. فعلى سبيل المثال، جلب هذان المنتجان في الفترة بين مايو إلى ديسمبر 1892م مبلغ 50,423 و31,573 جنيها مصريا (ج م)، على التوالي. وبقيت التجارة تمر بالطرق التقليدية إلى بربر وكسلاالقضارف.
وأنهى الاحتلال البريطاني – المصري بين عامي 1896 – 1897م فعليا حصار أنصار دقنة للمدينة. ولم تمر إلا سنوات قليلة بعد ذلك حتى صارت كل المناطق في السودان تدار بحكومة مستقرة، وعادت بذلك التجارة للازدهار. غير أن الأثر الفوري المباشر للحملة الحربية (الغازية) كان سلبيا على التجارة بين سواكن والمناطق الداخلية بالسودان. فقد كان الجيش الغازي لا يسمح إلا للقوافل الكبيرة بالمرور في قليل من المرات. وأخفقت عودة السلام في إنعاش التجارة كما كان مؤملا. بل حدث العكس تماما، إذ تدهورت أحوال سواكن بصورة متسارعة. فقد صارت البضائع التي كانت تأتي من قبل من الخارج بالبحر إلى سواكن، تنقل من مصر للسودان عبر خط السكة حديد الذي شُيد لنقل جنود الفتح (الغزو) من جنوب مصر. فعلى سبيل المثال دخلت عبر سواكن في عام 1895م بضائع قيمتها 124,738 ج م، بينما دخلت عبر حلفا في ذات العام بضائع قيمتها 30,619 ج م فقط. وأنعكس الوضع تماما بحلول عام 1901م، حين دخلت عبر حلفا بضائع قيمتها 101,677 ج م، بينما دخلت عبر سواكن في ذات العام بضائع قيمتها 694,688 ج م فقط. وكان دخل الضرائب في ميناء سواكن في عام 1901م يقل بأكثر من النصف عن الدخل في السنوات السابقة، وأنخفض الدخل أكثر في عام 1902م وما تلاه من أعوام. وتدهورا أسعار العقارات بالمدينة، وتناقصت كذلك قيم الإيجارات مع مرور السنوات (كان البيت يؤجر لعدد من المستأجرين في سواكن بمبلغ شهري لا يتعدى 37 قرشا مصريا بين عامي 1887م إلى 1896م، وظلت تلك البيوت خالية من السكان بعد ذلك التاريخ). وهجر عشرون من التجار الأجانب (كان أغلبهم من الهنود) مدينة سواكن، أو حولوا تجارتهم لمراكز أخرى، وتركوا وكلاء لهم فيها. وظل معظم سكان المدينة بلا عمل. غير أن بعض هؤلاء تم تشغيلهم عام 1902م في تشييد خط السكة حديد الرابط بين البحر الأحمر ووادي النيل. وكانت محطته النهائية على البحر الأحمر تقع جنوب سواكن (للمزيد عن نشوء وتطور بورتسودان يمكن النظر في مقالين مترجمين تجدهما في هذا الرابط http://www.sudanile.com/33884 و http://www.sudanile.com/961 . المترجم).
وكتب كبير مسؤولي المدينة في عام 1902م بأنه على الرغم من الفقر البادي على سواكن وأهلها، إلا أن "... تجار المدينة ينتظرون بفارغ الصبر وصول معدات تركيب الخط الحديدي المزمع تشييده ...". ونصح ذلك المسؤول الحكومة بالاحتفاظ بما تملكه من عقارات بالمدينة (مثل تلك الأبنية على حافة رصيف الميناء) إذ أنه كان يتوقع ارتفاع قيمة الأراضي بالمدينة في المستقبل القريب. وبدا بعد فترة قصيرة أن تلك النصيحة كانت نصيحة صائبة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.