في العام 2002، نشرت منظمة إفريقيا العدالة سفراً بعنوان "آفاق السلام في السودان: أدب الوفاق" - وهي خلاصة وافية من 46 وثيقة تناولت المساعي القائمة لتحقيق السلام في السودان. تضمن السفر مجموعة آراء من القوى السياسية السودانية بما في ذلك منظمات المجتمع المدني؛ تمثل المساعي السودانية الحثيثة المطالبة بالسلام القاسم المشترك لتلك المقترحات بالرغم من وجود تباينات في وجهات النظر حول كيفية تحقيق ذلك السلام. اليوم، وبعد عشرين عاماً، تم التوقيع على مجموعة من اتفاقيات السلام في حين ظل السودان وجنوب السودان يواجهان نفس المسائل و التحديات التي تدور حول قضايا كيفية تحقيق سلاماً ينهي النزاعات المتجددة. فبينما أنهى اتفاق السلام الشامل للعام (2005) الصراع القائم حينذاك والذي أفضى الى تقسيم السودان الى دولتين بعد أن فشل الإتفاق في يتحقق السلام المنشود و الديمقراطية و الاصلاحات المبتغاة ؛ نجد أن نفس الامر ينطبق على اتفاقيات السلام الأخرى التي إنهارت في نهاية المطاف مثل سلام دارفور لعام (2006) واتفاقية شرق السودان (2006) ومنبر الدوحة لسلام لدارفور و الكثير من الاتفاقيات مع الفصائل المسلحة الدارفورية و الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ( اتفاقية دانيال كودي و عبدالباقي قرفة و بعض المجموعات بالنيل الأزرق). هل ينبغي أن نعتبر هذه الاتفاقيات بمثابة هدنة هدفت في المقام الاول لوقف إطلاق النار أم أنها كانت جزءً من استعادة النظام المفقود و الامتثال لتعريف النخب للسلام. فسلام النخب يؤطر للفوارق الطبقية بين الحاكم والمحكوم و يؤسس لمناهج و تصورات متباينة حول من هو الظالم والمظلوم، الجاني والضحية. يدفع ذلك السلام كل مجموعة لبلورة تشخيصها و تصورها للآخر و ربما شيطنته كما أطر لها صاحب "الطوارئ المعقدة" ديفيد كيين (David Keen) الذي افرد حيزاً من كتابه ليتحدث عن مآسي السودان. اذا نظرنا للخلافات السياسية العنيفة في السودان نجد معظمها بين مجموعات تعتقد أنها مهمشة عن قصد في ادارة شؤون السودان من قبل دولة قابضة و اقصائية تتحكم فيها اقلية تمارس التهميش المنهجي و المؤسسي ضد بقية أجزاء السودان (الهامش)؛ حيث يُعرف الهامش بالمناطق التي ظلت و لا تزال خارج سلطة الدولة لكنهم يشكلون مصادراً للموارد الطبيعية والعمالة غير الماهرة و مناطق الحرب. و تُعرَف الدولة بالمؤسسة المختطفة من قبل مركز جشع و قابض لا يبالي بأطرافه جاعلاً منها بؤراً للحرب و البؤس من خلال العنف الهيكلي والحرمان والظلم الاجتماعي. من مهازل النظام السابق أنه عمل جاهداً في تأطير التهميش من خلال إستحداثه لمثلث للتنمية الذي لعب فيه أحد أساطينه الإقتصاديون دوراً كبيراً جعل المشروع يأخذ اسمه. فعبد الرحيم حمدي صاحب "مثلث حمدي" الشهير لم يقم بأكثر من ترجمة "قائمة رغبة الصفوة" (wish list) إلى سياسات أقتصادية و سياسية و إجتماعية مبنية على جغرافيات المركز و الهامش ( و أظنها هندسة إقتصادية إنمائية أكثر من كونها سياسة (Policy)؛ لخلوها من البعد الإنساني و الإجرائي مع كامل إحترامي للمهندسيين). فأصبح التركيز علي حيز جغرافي يمثل المركز، بينما عرَّف الأطراف كعبء و تهديد أمني وفاتورة للرعاية الاجتماعية؛ مع إنها مصدر استراتيجي للثروة والأرباح التجارية . لقد أثبت أساطين الظلم في السودان سعة خيالهم و إطلاعهم، خصوصاً بمجاراتهم لسياسات المستعمر المجحفة في سودان مستقل بتطبيقهم سياسة "عرَّف و أحكم" (define and rule) من خلال تعريف السودانيين جغرافياً و ديموغرافياً و ثقافياً و بالضرورة إثنياً و دينياً؛ لتيسهل حكمهم من خلال "المناطق المقفولة" أو "مثلث حمدي". فالجدير بالذكر أن تلك الاختلافات البائنة و المصطنعة لها مردودات عظيمة في عمليات السلام القائمة التي تسعى الفئة الأولى (الهامش) إلى تغيير قاعدة اللعبة السياسية من خلال تحدي الوضع الراهن، بينما تسعى المجموعات المنتفعة إلى إستعادة النظام القائم (السلام) من خلال إقامة الحد الأدنى من الإصلاحات التي لن تغير النظام التفضيلي للمنتفعين. بقدر إتفاقنا أن السلام عملية تداولية مدروسة من منطلق مبدأ الديمقراطية التداولية (Deliberative democracy)، حيث الوسائل و الإجراءات المتبعة متاحة لعامة الشعب من أجل المصلحة العامة يظل سلام السودان عالقاً إلى حد كبير في السياسات و الصراعات التي تعبر عن السلطة القائمة. وهذا هو التفسير المنطقي للوضع الحالي للسودان كدولة هشة تأثرت من الإحتراب الداخلي لخمس عقود من جملة ست عقود من وجودها كدولة مستقلة. و بالرغم من نجاح حكومات سابقة في إبرام أكثر من إثنتي عشر إتفاقية سلام (بمتوسط إتفاق كل خمس سنوات)؛ تظل الحقيقة قائمة بأن جميعها فاشلة كونها لم تصمد و لم تخاطب جذور النزاع في السودان إن لم أكن مخطئاً فالمؤرخ دوغلاس جونسون الذي عام (2006) خط سفر "الأسباب الجذرية للحروب الأهلية في السودان: سلام أم هدنة" ربما سيعيد مراجعة طرحه اليوم إذا سنحت له الفرصة. ما سبق يثير تساؤلات جمة حول إتفاقيات السلام و الدور السياسي فيها كإستراتيجية منبثقة من الممارسة السياسة في السودان. بلا شك أن عمليات السلام في السودان أصبحت جذابة لإرتباطها بترتيبات تقاسم السلطة التي بدورها توفر الشرعية السياسية لحكومات محاصرة إقليمياً ودولياً كما توفر شرعنة للجماعات المتمردة. لقد أتقن عمر البشير أسوأ طاغية في السودان، فن تطويع السلام ليصبح أداة للعملية السياسية ومكافحة التمرد خلال حكمه الممتد؛ حيث وقع أكثر من إثنتي عشرة إتفاقية بما فيها " اتفاقيات السلام من الداخل" التي لعبت دوراً كبيراً في مكافحة التمرد و شق صفوف المعارضة. واحدة من الملاحظات الهامة أن القوى السياسية السودانية تميل إلى مجاراة النظام السابق في إستخدام إتفاقيات السلام كأدوات سياسية لدخول الحراك السياسي؛ على سبيل المثال شهدت الجماعات المتمردة في جنوب السودان و دارفور إنقسامات أميبية على مدى العقود الماضية؛ تم دعمها من قبل النظام المخلوع كجزء من إستراتيجية التحفيز بتقاسم السلطة. و قد نجحت تلك الاستراتيجية في إضعاف مطالب المتمردين وتصويرهم كمجموعات جشعة سياسياً و ليس لها مظالم تذكر (greedy)؛ وبالتالي نجحت الاتفاقيات في إضافة شرعية مبتذلة لم تفضى لسلام حقيقي في ظل تعدد الأطراف و المنابر و الأهداف. فجشع الأطراف أصبح طاغياً مما أدى إلى وأد و تسويف المظالم ليصبح الجدل بين المظالم والجشع غير قابل للتأكيد أو النفي عند تحليل مسببات النزاع بالسودان. و بالرغم من أن بعض الجماعات المتمردة مدفوعة بمكاسب إقتصادية و سياسية، إلا أن الغالبية العظمي مدفوعة بالمظالم الراسخة تاريخياً في السودان، ولذا لا يمكن تفسير التمرد الذي إندلع قبيل الإستقلال وإكتشاف النفط بتمرد قائم بدافع الجشع لأنه من الصعب دمغ شعب تمرد لمعناته قروناً من العبودية والتمييز الأفقي بالجشع! فمن وجهة نظري، جشع المركز كما عبر عنه "مثلث حمدي" هو سبب تمرد الهامش ضد المظالم الهيكلية وعدم المساواة فالصراع كما هو الآن بين جشع الدولة و مظالم الشعوب المظلومة. لقد عبر البروفيسور أليكس دي وال عن هذا الأمر في نظريته (Political Marketplace) مستشهداً بسوق السياسة السوداني؛ حيث لاحظ تسليع العنف كشرط أساسي في السياسة السودانية؛ موضحاً إنتشار العنف السياسي و بروز مراكز سياسية و إقتصادية مبنية علي العنف كآلية للعمل السياسي من خلال إتفاقيات السلام. فظهرت لغة السوق في مفاوضات السلام و أصبحت مصطلحات مثل تعويم السعر المناسب في الوقت المناسب، رديفة للغة المفاوضات و بالتالي أدت إلى تكتيكات جديدة لتأخير الوصول إلى تسوية مثل سياسة بلوغ "الحافة" (brinkmanship) و"التأخير" أو "التأجيل" ؛ وإستخدام إتفاقيات السلام لبناء قاعدة جديدة من المحسوبين كجزء من "سلام الرواتب" الذي يهدف إلى توسيع نطاق الرعاية. و بالرغم من أن "الجمود" في التفاوض في بعض الأحيان يساعد في التوصل إلى إتفاق سلام، إلا أنه في حالة السودان يتم إستخدامه لتحقيق مكاسب أفضل تساعد أباطرته في المحافظة على أهمية دورهم في سوق السياسة العنيف؛ خصوصاً في ظل وجود ضعف خارجي مثل الحظر الأقتصادي و الضغوط الإقليمية والدولية التي تطالب بالسلام. هذه المعطيات دفعت حكومة المخلوع عمر البشير للسعى إلى تحقيق سلام جزئي في دارفور. وربما تكون نفس المعطيات هي دافع الحكومة الانتقالية الحالية لتحقيق سلام جزئي يرفع عنها الحرج و الضغوط الخارجية. فالاسباب التي دفعت الحكومة الانتقالية إلى تجنب الانخراط في مسائل رئيسية مثل العلاقة بين الدين و الدولة والهوية الوطنية غير مقنعة. فإن تجاهل مثل هذه القضايا ذات التأثير المباشرفي هيكلة نظام الحوكمة و التي تعتبرمن الركائز الأساسية لإصلاح الدولة، لن يساعد في الانتقال المنشود و لن يجلب السلام. هنالك دليل واضح على أن مجموعات معينة تستغل فرصة عملية السلام الجزئية الجارية لبناء إمبراطورياتها السياسية لتستفيد من الشرعية المكتسبة بعد إتفاق السلام فالسلام بالنسبة للبعض إصبح وسيلة لغايات لا تخدم السلم المجتمعي. فالسلام المنقوص بمثابة إعادة شرعية ونوع من ممارسة العلاقات العامة لمعالجة التحديات الداخلية و الخارجية لرسم صورة للحكومة التي تحرص علي السلام كأهم إنجازاتها؛ و لكنه بالفعل بعيد كل البعد عن السلام. فهل لنا أن نعتبر ذلك سلاماً خصوصاً في ظل الظروف والمعطيات المطروحة آنفاً ؟ اذاً ما هو السلام المنشود ؟ هل هو السلام العام أم سلام النظام السياسي القائم؟ هذه المصطلحات الخاصة بالسلام العام وسلام النظام القائم هي جزء من طرح ماشاريا مونيني استاذ التاريخ و العلاقات الدولية حيث ناقش جدلية العلاقة بين السلام العام (generic peace) - الذي هو حقيقي ولكنه صعب التحقيق - و سلام النظام القائم (the Peace) و الذي يعتبر تجسيداً للنظام السياسي المفضل للنخب. يقول مونيني إن سلام النظام القائم يعكس مؤسسات الحكم السياسية و الاقتصادية و الثقافية و التأريخية و هو السلام الذي يفضله النخب. هذا هو السلام الذي تسعى النخب لاستعادته بعد خرقه بالاحتجاجات، الثورات السلمية او العنيفة او من خلال الحرب الأهلية. يقول مونيني بأن سلام النخب يسعي الي إجراء إصلاحات محدودة بدلاً من الإصلاح الشامل كما كان الحال مع اليعاقبة (Jacobins) ونابليون بونابرت بعد الثورة الفرنسية. اعتبر اليعاقبة (ليس اليعاقبة السود في هاييتي الذين ثاروا لاحقًا) أن الثورة قد حققت اهدافها بإسقاط النظام الملكي وأي مطالبة بتغيير ثوابت الأمة والنظام القائم يعد انتهاكاً للسلام. هذا الأمر تجلي في ثورة اليعاقبة السود تحت قائدهم توسيانت لو فيريتشير (Toussaint L'Ouverture) حيث تسأل الفرنسيين عن جدوي ثورة اليعاقبة السود في هايتي و مطالبتهم بالحقوق المدنية بعد نيلهم الحرية من الاستعباد الفرنسي. حتي الفيلسوف الأيرلندي إدموند بورك عبر عن امتعاضه لمقترح الإصلاحات السياسية والاجتماعية المفرطة في "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (1789) للثورة الفرنسية مفضلاً الحفاظ علي بعض الثوابت والمؤسسات الموروثة وهيمنة المذهب الكاثوليكي على الحياة السياسية في فرنسا ما بعد الثورة. في الحقيقة يمكننا تشبيه ميثاق اعلان حقوق الانسان و المواطن للثورة الفرنسية بإعلان قوى الحرية والتغيير في السودان للعام (2019) و الذي وجد امتعاضاً من بعض الاطراف. اذا كان ادموند بورك كاثوليكياً وكونه ايرلندياً فماذا عن الذين يمتعضون اعلان الحرية و التغيير هل اصبحوا اسلاميين اكثر من المؤتمر الوطني المخلوع برفضهم قضايا العلمانية و مناقشة الهوية السودانية؟ فالسلام العام هو ما يسعى المواطن العادي لتحقيقه كهدف نهائي للتغيير والتحول في السودان. بالنظر الي عملية السلام الجارية في جوبا فلقد اصبح جلياً ان الوضع القائم أقرب للمصالحة بين الاصدقاء من ان يكون صلحاً بين فرقاء؛ مما يتطلب ان تصب الجهود لإقناع من هم بعيدين عن عملية الوفاق الوطني مثل حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور و الحركة الشعبية لتحرير السودان. فهل يعقل ان يتم السلام دون مخاطبة القضايا الكبيرة التي اقعدت السودان عقوداً مثل اللامساواة والفوارق الافقية التي دفعت الي التوتر في العلاقات الاجتماعية و الثقافية و الدينية والعرقية والإثنية بالسودان؟ و هل يمكن ان يتم اصلاح مثل هذه الأمور بتجاوز مجموعات و فئات تمثل ضحايا عقود من الظلم و حاربت ضد قضايا اقعدت السودان منذ استقلاله و تسببت في انفصال ثلث سكانه و اراضيه و ساهمت بطريقة مباشرة في التشريد مثل هذا التجاهل لن يؤدي الي سلام بل سيكون وصفة لاستدامة الحرب. فالسعي للمحافظة علي دولة ثيوقراطية تسعي للحفاظ علي هوية وطنية دون اجماع شعوبها من خلال "امننة السلام" (ٍsecuritization of peace) واختزال عملية السلام في الملف الأمني سوف لن يقود الي السلام العام. فالسلام الحقيقي يتطلب أكثر من استيعاب الجماعات المسلحة التي لا تعد ولا تحصى في نظام كليبتوقراطي من خلال استمالتها لتوقيع سلام هش تحت منظومة "سلام دفع الرواتب" (payroll peace). السودان في حاجة الي سلام يصبو الى إصلاح شامل لهياكله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما في ذلك قطاع الأمن الذي كان جزءً من توسيع عنف الدولة وقمع السودانيين لوأد تحقيق العدالة؛ لجبر الظلم الذي سعت له الشعوب في مسيرتها نحوالسلام الحقيقي. يجب أن ندرك أن العملية الجارية التي تعزز لسلام النظام القائم والمصالحة بين الأصدقاء لن تسفر الي نتائج مختلفة عن الجهود السابقة للنظام المخلوع. الي متى يظل المسؤولون السودانيون يتحايلون ويضيعون فرص السلام بهدف إرضاء وخداع الهيئات الإقليمية والدولية، و إلى متى تسعى عمليات السلام السودانية في استعادة الامتثال لنظام راسخ متحيز وتمييزي ومسيء؟ ان لم اكن مخطئاً فهناك اجماعاً لسلام عام وليس سلام استعادة النظام المفقود لإرضاء النخب والشركاء الإقليميين. لاستيفن أمين أرنو مخطوطات في توثيق دور المرأة السودانية في الثورة السودانية بعنوان " الثورة أنثي: اعادة بناء و كالة المرأة الافريقية في تغيير الأنظمة الاستبدادية نموذج الثورة السودانية" في كتاب ما وراء التأريخ: الوكالة الافريقية في التنمية و الديبلوماسية و فض النزاعات" صادر بالانكليزية من مطبعة (London and New York: Rowman and Littlefield International) للعام (2020) عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.