غرب كردفان تبحث جهود تحرير الولاية ودحر المليشيا المتمردة    وزير الداخلية يترأس لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرز الكيمان .. بين الأحزاب وشباب اللجان .. بقلم: عزالدين صغيرون
نشر في سودانيل يوم 26 - 08 - 2020


هي كلمات حق أريد بها باطل !.
- لا ديمقراطية بدون أحزاب
- الديمقراطية لا يمكن إصلاحها إلا بالمزيد من الديمقراطية
كثيراً ما تسمع مثل هذه الأقوال تتردد في الدفاع عن أحزابنا السودانية (ولا شأن لي هنا بغيرها)، منذ أن أطلقها في أدبياتنا السياسية محمد أحمد محجوب السياسي البارز ورئيس الوزراء عن حزب الأمة إبان المفاصلة بينه وبين الصادق المهدي الذي كان ينافسه على قيادة الحزب في ستينيات القرن الماضي. والكلمة بشكل عام يرددها على مسامعنا – على نحو تصديعي – المتحزبون، الذين ينتمون للأحزاب.
ولا شك أن لهذه الأقوال بريق ساطع، قاطع، لا يسعك إلا أن تهزّ رأسك بالموافقة عليها دون تردد أو تأمل أو تفكير. ولكنك حين تخضعها للعقل والتفكير، وبشيء من المقارنة بين منطق الديمقراطية وبين واقع هذه الأحزاب تاريخياً ستخلص إلى ما فيها من "كلفتة" لعقلك. وأنها كلمة فارغة من أي مضمون ولا تعني شيئاً لأنها تبنى على أساس من النفاق السياسي.
(هذه الكيانات الزائفة )
لأن السؤال الذي يطرأ على عقلك فوراً: وأين هي هذه الأحزاب؟.
وتقفز الإجابة فور السؤال: لا توجد أحزاب في الساحة السياسية سوى هذه الكيانات التي تتسمى زوراً بذلك!. وهي بهيئتها هذه أقرب إلى الكيانات الطائفية والعشائرية منها إلى الكيانات الحزبية.
منها ما هو طائفيّ صرف مثل حزب الأمة تحت رعاية "إمام" طائفة الأنصار الصادق المهدي، والاتحادي تحت رعاية "الحسيب النسيب" السيد محمد عثمان الميرغني.
ومنها ما يدعي العلمانية ولكنه "طائفي" في بنيته، يحاول عبثاً أن يتشبه بالحزب الحديث، ولكن تخونه بنيته الطائفية. له بطرياركيته الملهمة المقدسة، التي تتلقى تقدير المواقف الحزبية وحياً وإلهاماً (يُسمى في أدبياتها تحليلاً)، وهي لا تخضع للمراجعة والمحاسبة، وإلا أقصي من تخطر له مثل هذه الهرطقة والزندقة. وفي هذا تلتقي أحزاب اليمين والوسط واليسار، لا فرق بينها إلا في اللافتة "الأيديولوجية" التي ترفعها.
ولكن هذه اللافتة تكذبها وتكشف زيفها لوائح حتى هذه الأحزاب التي ترفع لافتة التقدمية.
أن دستور الحزب الشيوعي – على سبيل المثال – أكبر دليل على عدم إيمانه بقيم الديمقراطية واحترام الحريات العامة والحقوق الأساسية لدرجة التغول عليها "حيث تنص اللائحة على فصل العضو بسبب تواصله مع بقية العضوية من أجل نشر راية داخل الحزب رغم انها ممارسة متفق عليها فى جميع الأحزاب السياسية الحديثة فى إطار مفهوم اللوبى ولكن الحزب الشيوعى ظل طوال تاريخه يصفها ب ( التكتل والخيانة) ويعاقب عليها بالفصل. وكذلك هو موقفه من العضو الذى يعلن عن تفاهمات ورؤى يتفق فيها مع آخرين فى المجال الذى يعمل فيه ولكنها تختلف عن موقف قيادة حزبه فى نفس القضية حيث يفرض عليه تبنى رأى الحزب وليس ما توصل اليه مع مواطنيه مما قد يتسبب فى خسائر أخلاقية كبيرة إضافة إلى مصادرة التعددية في الرأي داخل المجتمع المدنى وكلها قيم وممارسات يزعم الحزب انه يسعى الى ترسيخها وهذا من سخرية الأقدار".(1)
وهكذا تكشف الطبيعة الطائفية للأحزاب الحديثة عن نفسها عارية متجسِّدة في العلاقة بين قيادة الحزب وقاعدته الحزبية، والتي هي في جوهرها علاقة "تابع" ب"متبوع".
التابع فيها مستلب/ بلا إرادة، للمتبوع.
المتبوع هو المتكلم، والتابع مستمع.
فالقرار الحزبي الذي يتخذ شكل "التعليمات" والفرمانات – على عكس ما ينبغي أن يكون مسار القرار الحزبي – يتنزل من فوق/ أعلى، من رئيس الحزب، باسم مكتب/ه السياسي إلى القاعدة. ولا يُرفع من تحت/ القاعدة، للقيادة.
ولا يختلف حال جمهور هذه الأحزاب/ الطوائف عن قيادتها في زيف انتمائها الحزبي.
لأن قيادات هذه الأحزاب لا ترفع لقاعدتها سوى حيثياتها للقرار، والتي تمت صياغتها في مطبخ القيادة بمعزل عن القاعدة، دون مشاركتها، أو أخذ رأيها والاستماع إليها.
وحين تعقد القيادة ما يسمى ب"المؤتمر العام"، فلكي تسمع القاعدة ما تقوله القيادة، بلغة محنطة متعالية تمتلئ حواشي خطاباتها بالمصطلحات الأيديولوجية العلموية الغامضة، الساحرة.
(السقوط في امتحان الديمقراطية )
ولا يمكنك أن تتوقع من أحزاب بمثل هذه البنية ممارسة الديمقراطية داخلها. وبالتالي فإن توقع ممارسة الديمقراطية خارجها مع الكيانات الأخرى، أو في فهمها الصحيح للسلطة، إنما هو ضرب من الخبال. ففاقد الشيء لا يعطيه. وهي على كل حال أحزاب سلطوية بامتياز.
وعلى مدى تاريخ السودان السياسي منذ الاستقلال في منتصف القرن العشرين لم تنجح هذه الأحزاب في اختبار الديمقراطية ولا مرة واحدة. لأنها تفتقر إلى أدنى معرفة بقواعد اللعبة الديمقراطية، دع عنك فلسفة الديمقراطية. وإذا كانت الديمقراطية هي وسيلة لإدارة الصراعات السياسية سلمياً، فإنها تفهم من ذلك أن الغاية السلطوية تبرر الغش والكذب والنصب والاحتيال في سبيل السلطة، وكل هذا إما لله، وإما للوطن والشعب.
ولأنها لا تؤمن بقيم الديمقراطية، ولا يوجد تعاقد اجتماعي يؤطر ممارساتها التنافسية ويضع لها الحدود الضابطة، فإن وراء سعيها للسلطة (المطلقة) تخترق المؤسسة العسكرية وتزرع فيها خلاياها المتحزبة لتستغلها في الاستيلاء على السلطة. وما من أحد يجهل بأن لكل الأحزاب خلايا في المؤسسة العسكرية، بل حتى للحركات الإثنية والقبلية خلاياها، وهذا ليس شيء جديد في تاريخ السودان المعاصر، إذ أن نميري كشف عن خلايا تابعة للحزب القومي برئاسة الأب فليب عباس غبوش في السنة لحكمه، وجون قرنق حين تمرد وهو في الجيش تمرد بقوة عسكرية تابعة للجيش.
لقد نجح الشعب الأعزل وقواه الحية في الإطاحة بثلاث نظم عسكرية كان الحكم فيها مدعوماً بقوى حزبية، ورغم ذلك كانت الأحزاب تفشل في الحفاظ على النظام الديمقراطي الذي لم يتجاوز عمرة سنتين قبل الحكم العسكري الأول، وخمس سنوات بعد ثورة أكتوبر 1964، وأربع سنوات بعد ثورة مارس/ أبريل 1985. أي ما مجموعه نحو إحدى عشر سنة من 64 سنة هي عمر السودان منذ الاستقلال. وفي كل هذه المراحل الديمقراطيات التي يدفع الشعب الدم والدموع والعرق ثمناً لها كانت الأحزاب تكرر نفس تجاربها السابقة من الصراعات التافهة والكيد ضد بعضها البعض، الانصراف إلى حروبها الصغيرة. والأدهى من ذلك أنها كانت تمزق نسيج المجتمع السوداني بالاستقواء بالقبائل وإشعال الفتن ببين بعضها على البعض!.
وإذا كنا اليوم ننعي على قيادة الجيش محاولتها الانفراد بالسلطة وندين نزعتها السلطوية، فإننا في الواقع نظلمها حين نلقي كله عليها ونحمِّلها وزر استبدادها وشرهها السلطوي المريض. في حين أنها – كمؤسسة – من ضحايا الأحزاب التي اخترقتها وزرعت هذا الداء العضال فيها، وأعطتها تفويضاً غير مشروط بالوصاية على الدولة، ضاربة بعرض الحائط بمبدأ مؤسسية الدولة ووصاية الشعب عليها.
ثمة منظومة من الفرضيات الخاطئة، مترابطة الحلقات تسيطر على العقل الحزبي السوداني تعمل على النحو التالي:
- طالما راعي/ رئيس الحزب، ينبغي أن يكون هو صاحب السلطة على الحزب.
- فإن الحزب ينبغي أن يكون هو صاحب السلطة الدولة.
- وبما أن الجيش هو ذراع الدولة المسلحة، فإن سلطته ينبغي أن تكون بيد الحزب.
وما لم ينتبه إليه قادة الأحزاب أن هذه لعبة في منتهى الخطورة، عليها هي أولاً، ومن ثم على الدولة التي اختزلتها في حزبها الصغير. فالعسكر في نهاية الأمر لهم طمعهم وطموحاتهم السلطوية (بحكم التربية العسكرية)، ولن تستطيع أن تنتزع العظمة من بين أسنانهم، وهكذا دائماً (من المدفع يطلع خازوق) ليضاف خازوق العسكر لخوازيق الأحزاب!. وكل هذا جسدته على نحو واضح ومكشوف تجربة الانقلاب الإسلاموي التي خرجنا منها بشق الأنفس.
وحسب شهادة الترابي لأحمد منصور في قناة "الجزيرة" فإن من نفذوا الانقلاب كان كوادر الجبهة بملابس عسكرية، ولم يكن من تم اختيارهم بعناية كأعضاء بمجلس الثورة سوى صور ديكورية للتمويه، بما فيهم البشير نفسه. فماذا كانت النتيجة؟. استأثر من ظنوه "همبولاً" أو خيال مآتة "ينشون" به الطير، بكل الغلة وأدخل شيخه السجن، وشق الحزب. وتركهم بهائم يرعون في خزائن الدولة نهباً كيفما شاءوا !.
لقد ظلت الأحزاب تفسد الجيش منذ عام 1958، وما زالت تفعل إلى اليوم. وبالتالي ظل الجيش يفسد السياسة والحياة السياسة منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم.
وهكذا الأمر دائماً.
دخول الجيش في السياسة يفسد الجيش والسياسة معاً.
وقد فعلت الأحزاب السياسية هذا، وظلت تكرر فعله إثر كل ثورة يدفع الشعب ثمنها من دمه بغباء، وتبلد حسّ أخلاقي، وضمير وطني ميِّت .. وبلامسؤولية.
ونهرج ويعلو صوتنا احتجاجاً، ويفور دمنا ويغلي غضباً حين يجتمع الفريق أول الكباشي في ضاحية الحِتانة مع الكيزان وحزب الأمة وفلول مرتزقة من إعلامي نظام البطش والفساد الديكتاتوري المدحور. دون أن نسأل أنفسنا: ألا يُتهم الفريق الكباشي من البعض بأنه كوز هو أيضاً، فمن الذي كوزنه إذا كان كذلك فعلاً؟. ومن ذا الذي غرس بذرة التحزب في المؤسسة العسكرية قبل أن يلتحق الكباشي بالجيش؟. ومن الذي أوهم "الجياشي" بأنه وصي على الدولة كلها وأن مؤسسته فوق مؤسساتها؟. ومن الذي أقنعه بأنه يمكن أن يحكم بقوة سلاح الدولة؟.
وفوق ، وقبل هذا وذاك: ما علاقة كل أولئك النفر والتنظيمات بالشباب الذين سطروا أعظم ملاحمنا البطولية الحديثة والمعاصرة ؟.
تابع
مصادر وهوامش :
(1) طلعت الطيب، تعليق على البيان المشترك بين الحركة الشعبية وتجمع المهنيين (الحلقة الثانية)، سودانايل، بتاريخ: 03 آب/أغسطس 2020

فرز "الكيمان" .. ما بين الأحزاب وشباب اللجان (2)
وسقط الجميع في الامتحان !!.
كنت أريد أن أتناول في هذه الحلقة الثانية من عملية الفرز ما بين الأحزاب في قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين (بجناحية المتشاكسين)، وبين قوى الشباب في لجان المقومة من الاختلافات والتناقضات ما يجعل منهما كيانين متمايزين في تكوينهما، مختلفين في الغايات والأهداف. إلا أن تفجر الصراع بين مكوني السلطة المدنية/ العسكرية صبيحة زيارة رئيس الوزراء الأثيوبي وزير الخارجية الأمريكي للسودان، كفاني مشقة البحث، لأنه أثبت صحة النتيجة المنطقية الوحيد المعقولة حول الاختلاف النوعي بينهما، بسقوط جميع مكونات السلطة الانتقالية بجناحيها المدني والعسكري ومعهما الضلع الثالث في حاضنتهما السياسية في امتحان التوافق، مؤكداً اختلاف الرؤية والأجندات "الوطنية". رغم ما ظل ينفيه كلا الشريكين عن توافق وحميمية علاقتهما وانسجامها. ولطالما سمعنا حمدوك يردد مقولته التي أصبحت ماركة مسجلة باسمه (نعمل في تناغم ونريد أن نقدم نموذجاً سودانياً فريداً في الشراكة بين المكونين المدني و العسكري)، وكذلك رأينا البرهان وهو يسخر من تداولات الشارع، حول الخلافات المزعومة بينه وبين نائبه الأول مازحاً بأنهما يجلسان يومياً و يطلعان على تغريدات الناشطين، المشككة في تلك العلاقة القوية التي تربط بينهما في استغراب مدهش.
وفاتهما أن الشارع الذي يحكمانه كان يسخر من هذه التأكيدات الكاذبة ولا يصدق شيئاً من هذا الهراء الذي يحاولان تسويقه ماءً (في حارة الساقيين).
(التحشيد والاصطفاف المضاد)
ولكن ما أثار دهشة الجميع أن يشهدوا رئيس مجلس السيادة البرهان وهو يتحدث، ولأول مرة منذ ما قبل توليه السلطة مذ كان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي بمثل الحدة والوضوح اللذين تحدث بهما، ولم يعهده الشعب يتحدث بهما وحلايب وشلاتين تحت الاحتلال المصري، أو والفشقة تحت الاحتلال الأثيوبي، أو عسكره يستشهدون برصاص الشفتة في حدودنا الشرقية، أو والمدنيون تحصد أرواحهم برصاص المليشيات والمتفلتون وتحرق قراهم في دافور. إذ خرجت كلماته الغاضبة في لقاءه قبل زيارتي الرئيس الأثيوبي ووزير خارجية أمريكا بحرارة وقوة بخارٍ كان يحتقن مكبوتاً في صدره.
لقد أفلتت أعصابه مثلما أفلتت من قبل أعصاب جنراله الكباشي وهو يتحدث أمام عساكره عن المدنيين في كادوقلي.
لقد نسي البرهان وهو يرمي بشواظ غضبه على حكومته أنه رأس الدولة وليس مجرد قائد كتيبة يخاطب جنوده قبل بدء المعركة.
وحين يتحدث رأس الدولة عن "الفاشلين" الذين يحاولون تعليق فشلهم بإلقاء اللوم على القوات المسلحة في تعثر الاقتصاد، وبدون أن يسمي هؤلاء الفاشلين.
وحين ينسب التآمر على الجيش والقوى الأمنية إلى "جهات" غير معلومة.
وحين يرمي "البعض" بمحاولات زرع الفتنة بين الجيش والشعب، دون أن يفصح عن من هم؟ وماذا فعلوا تحديداً.
وحين يقول بأن البعض ظل يعمل منذ اليوم الأول للثورة ل"تفكيك الجيش والقوى الأمنية" وتفتيت البلد كله من ثم، دون أن هؤلاء المتآمرون ويفضح خططهم.
فإنه – بأحاديثه تلك – يكون قد خلع عن نفسه صفته الاعتبارية كرأس للدولة واستقال من وظيفته الدستورية، وأصبح مجرد ضابط يلقي بالتهم جزافاً دفاعاً عن المؤسسة التي ينتمي إليها، مخالفاً قانون القوات المسلحة الذي يجرَّم العسكر على الخوض في القضايا السياسية والحزبية.
كان يلزمه، حتى كضابط يستنفر عسكره، أكثر من هذا الخطاب المتشنج بجمله المتقطعة المتوترة !.
فما الذي أثار حفيظته إلى هذه الدرجة واضطره لأن يجمع قواته بعيداً في معسكر وادي سيدنا، في رمزية ذات مضمون تهديدي انقلابي، و"استعراض قوة" هو من ضمن تقاليد التكتيكات العسكرية؟.
ما الذي دعاه للتظاهر وحشد قواته بهذه الطريقة ك"ضابط" وليس كرأس للدولة؟.
(الفهم شنو بالضبط؟)
لأول مرة يطرح رئيس الوزراء، وبعد صمت طال منذ تسلمه السلطة التنفيذية، قضية شركات ووكالات ومصانع القوى العسكرية والأمنية واستقلال نشاطها خارج ولاية الحكومة، وضرورة ضم نشاطها هذا تحت جناح وزارة الاقتصاد.
وهو كما ترى مطلب شرعي وبديهي بسيط، لا تنتطح عليه عنزتان، ولا يحتاج لكل هذه الزوبعة، أليس هو الوضع الطبيعي في أي دولة في العالم؟.
لم تكن المشكلة هي: تفكيك الجيش أو عدم تفكيكه، ولم تكن الفتنة التي يسعى البعض لزرعها بين الجيش والشعب، ولا سعي البعض بالفرقة بين مكونات الجيش والأجهزة الأمنية. لم يكن أياً من هذه الأمور المتوهمة وراء غضبته المضرية تلك، لسبب بسيط أن خطاب حمدوك لم يتطرق لأي منها.
ولكنه المال في خطاب حمدوك هو ما أثار كل هذه الزوبعة لأنه وضع أصبعه في "اللحم الحي".
وتسأل: ما الجديد في الحديث عن كنوز الجيش والقوات الأمنية؟.
الحديث عنها والتحذير من خطورة استقلالها، على مسار العملية الديمقراطية، لم يكن هاجس الداخل السوداني فقط، بل حذرت منه العديد من الجهات الخارجية، وبالذات في الولايات المتحدة. وقد تسرب الكثير من الدراسات والتقارير حول حجم هذه الإمبراطورية الاقتصادية والمالية وتأثيراتها السلبية في اختلال توازن القوة بين مؤسسات الدولة، الذي يجعل القوى العسكرية والأمنية دولة أقوى داخل الدولة. ويبقى السؤال: إذن لماذا كل الحصر والإصرار على أن يكون الجيش والمؤسسات الأمنية قوة، ليست فقط مستقلة وموازية لكل الدولة، بل وتتمتع بنفوذ وبقوة تتفوق على قوة الدولة بكل مؤسساتها؟. (الفهم شنو هنا؟!).
(ولكن .. لماذا الآن ؟!!)
ما يلفت النظر ويثير التساؤل هو "توقيت" تفجير النزاع.
لماذا تزامن هذا النزاع الذي كان الطرفان يتكتمان عليه طيلة المدة منذ توقيع الوثيقة الدستورية وما تبعها من اختراقات وتجاوزات من المكون العسكري وما شهدته البلاد من تفلتات أمنية أودت بحياة الكثير من المدنيين. وما صحبها من تدهور للأوضاع الاقتصادية في معاش الناس وتلكؤ من الحكومة المدنية في تنفيذ مطلوبات المرحلة الانتقالية؟.
لماذا حشد المكون العسكري قواته استنفاراً وكأنه بصدد إعلان الحرب. ولماذا لجأ حمدوك لاستدعاء حاضنته السياسية الغائبة، والتي تفرقت وتقسمت منهمكة في صراع مرير بين مكوناتها على السلطة؟.
لماذا الآن والبلاد تستقبل أهم زائرين في هذه المرحلة: أحدهما آبي أحمد ليناقش ملف سد النهضة والتعقيدات الأمنية على الحدود بين البلدين. وثانيهما ليناقش رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وعلاقته بالتطبيع إسرائيل. وهما كما لا يخفى على أي سوداني في أي بقعة من الوطن أهم الملفات الاستراتيجية التي تتعلق بحاضر ومستقبل الدولة السودانية؟.
لماذا اختار حمدوك أن يفتح موضوع خزائن الجيش والأجهزة الأمنية في هذا التوقيت بالذات؟. ولماذا تعلقت همة البرهان بفقرة صغيرة في خطاب حمدوك وافتعل معركة حامية الوطيس وكأنها "أم القضايا" السودانية، وليحشد كل منهما قواه التي لم يكن يعرها اهتماماً ليستقوي بها في مواجهته للفريق الآخر وهما شركاء سلطة واحدة ؟!.
ألم يكن أمامها متسع من الوقت طيلة عام ونصف من توقيع الوثيقة الدستورية ليجسا كرجال راشدين راشدين ونساء راشدات ليناقشوا هذا الشأن الذي يعتبر من أهم مفاتيح تحقيق أهداف الثورة التي مات في سبيل تحقيقها شابات وشباب هذا الوطن، بهدوء ومسؤولية ؟!.
أم أنهم اختاروا هذا التوقيت بالذات؟.
وإذن فإن السؤال التالي يكون: لماذا تم اختيارهم على هذا التوقيت؟.
- هل اتفقا على عكس صورة لسلطة ضعيفة مهتزة، تفتقر مكوناتها لأبسط مقومات الاتفاق والانسجام والتوافق على رؤية موحدة؟.
ولماذا؟!!.
- أم أنهما، وبكامل وعيهما، انخرطا في هرولة وسباق محموم يسبق زيارة وزير الخارجية الأمريكي، ليكسبه كل منهما لصالح أجندته الخاصة ؟!!.
وما هي أجندة كل منهما؟.
- أم أن صراع الرؤى واختلاف الآراء حول التطبيع مع إسرائيل والانخراط في صفقة القرن الترامبية هو السبب؟.
وفي هذه الحالة لمِ لا يرجعان للشعب يستفتيانه والعمل برأيه ؟!!.
- أم أن كل هذه الزوبعة تمت خطأ ونتيجة غفلة بلا قصد معين، وإنما هي حلقة في سلسلة المناوشات بين الفرقاء الثلاثة التي كانت أشبه بالحرب الباردة الناعمة التي ميَّزت علاقتهم منذ البداية ؟!!.
أياً كان السبب وراء هذه "الهرجلة" اللامسؤولة. إلا أن نتيجتها المؤكدة أنها كانت إعلاناً فاضحاً بسقوط مكونات السلطة الانتقالية بأضلاعها الثلاث.
والأيام كفيلة بكشف ما وراء أكمتها مُخْتَفٍ.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.