لكل مجتمع عاداته و تقاليده و معتقداته و إتجاهاته و مثله و حوافزه. هذه تشكل في مجموعها مايسمي بثقافة المجتمع. و الثقافة التي تسود في مجتمع ما في زمان معين, هي التي تحدد سلوك أفراد هذا المجتمع من حيث الرقي و عدمه. و المجتمع السوداني مثل غيره من المجتمعات البشرية, له ثقافته التي تميزه. و قد توارث أفراد المجتمع السوداني هذه الثقافة عبر العصور, و أضافوا إليها و حذفوا منها بعض العادات و التقاليد التي لا تتفق مع روح العصر, أو تلك التي إندثرت بمرور الزمن. و الثقافة السودانية التي تسود اليوم, هي جماع للثقافة الفرعونية و الثقافة النوبية و المسيحية و الإسلامية. و حين دخل العرب إلي السودان و إختلطوا بأهله الأصليين, تمازجت الثقافة العربية مع الثقافة الأفريقية, و أنتجت لنا هذه الثقافة السودانية المتفردة. كتب السيد/ شوقي بدري, عن بعض العادات الإجتماعية السائدة في أم درمان, و سماها عادات أم درمانية. و هذه العادات سودانية خالصة, لا ترتبط بمكان معين, و إن كان منشأ بعض هذه العادات, منطقة شمال السودان, ذلك أن بعض هذه العادات ترتبط بالنيل الذي يهب الحياة. و يبدو أن المهاجرين, الذين إستقروا في أم درمان قديماً, حملوا معهم عاداتهم و تقاليدهم إلي موطنهم الجديد, و مارسوها هناك, و من ثم صارت من السمات المميزة لهذا المجتمع الأم درماني. إن العادات التي أشار إليها شوقي بدري, هي نفس العادات التي توجد في شمال السودان, و يمارسها الناس منذ قديم الزمان. و من هذه العادات التي أشار إليها: مراسم الزواج: أكثر الزيجات تتم في الصيف, و تحديداً في شهر مايو, أي بداية الإجازة الصيفية, حيث يتفرغ الناس لهذه المناسبات, و يستمتع العريس بأيام إجازته, و حيث يصادف هذا موسم حصاد المحصولات, مثل الفول و القمح. و لكني ألاحظ أن معظم الزيجات صارت تتم بعد إكتوبر, أي بعد حصاد البلح, الذي صار المصدر الرئيسي لدخل أهل المنطقة, و ذلك بعد عملية البستنة التي حدثت للمشروع إبتداءً من عام 1970م. كان الناس و لزمن قريب لا يعقدون زيجاتهم بين العيدين, و لهم (سبر) في هذا. أما الآن فقد زالت هذه العادة. و هي لم تكن عادة صحيحة, بل هي من التشاؤم أو الطيرة, و هذا منهي عنه شرعاً. كان الناس يذهبون إلي ( التيمان) ليمسكوا لهم اليوم, أو ليحددوا لهم اليوم المناسب للزواج. أما الآن فقد زالت هذه العادة برحيل ذلك الجيل الذي كان يؤمن بهذه العادة. كان من عادة العريس أن يذهب ألي النيل في سيرة كبيرة ( عريسنا ورد البحر... قطع جرايد النخل). يغتسل العريس في النيل. و يقال أن أصل هذه العادة فرعوني. و الهدف منها, إتقاء شر الجنيات التي تسكن في قاع النيل, و ذلك بزيارتهن. و قد بدأت هذه العادة في الإندثار, بفعل المتغيرات التي حدثت في السنين الأخيرة, إذ صار بعض العرسان, يسافرون في نفس يوم الزواج, أو في اليوم التالي لقضاء شهر العسل في مكان آخر, و بعضهم يعيش في الغربة, حيث تصله عروسه هناك. أربعينية النفاس: منشأ هذه العادة فرعوني أيضاً, إذ تزور النفساء النيل بعد تعافيها من آلام النفاس. و يقال أن المرأة ينقطع عنها دم النفاس في الأربعين, أي كأنها تذهب إلي النيل للتطهر من دم النفاس هذا. كذلك يزور الأطفال الذين يتم ختانهم هذا النيل السعيد و يغتسلون في اليوم السابع للمناسبة. و أذكر أننا زرنا النيل و إغتسلنا عند ختاننا في عام 1964م, شخصي و شقيقيٌ الباقر و عادل. كما مشينا ( الزوارة),أي زيارة ضريح الصالحين. أما عادة فصد النساء لأرجلهن بالموسي عند شاطئ النيل, فهذه لم أسمع عنها, و إن كانت هناك عادة أكثر منها قسوة, و هي عادة الوشم في الشفة السفلي. كانت تجري هذه العادة للبنت بعد مرور عام علي زواجها. و لاشك أنها كانت عملية قاسية, و لكنها كانت تحتملها رغم قساوتها, توافقاً مع عادة المجتمع, و ما دام أن هذا الوشم سيكسبها جمالاً. لقد إندثرت هذه العادة بمرور الزمن, و هي كانت من العادات المنهي عنها شرعاً, لأنها تحدث تبديلاً للخلق الإلهي, و لكن كان الناس يمارسونها علي كل حال. و يبدو ان منشأ هذه العادة فرعوني أيضاً. أما الآن فقد زالت هذه العادة و غيرها من العادات الضارة, مثل شلوخ الصبيان و الطهورة الفرعونية القاسية و حلت محلها طهورة أخف من سابقتها. إن العادات الضارة لا يفلح في محاربتها غير إنتشار التعليم و بث الوعي بين أفراد المجتمع, و قناعتي أن الزمن كفيل بعلاج مثل هذه الظواهر السالبة. أذكر أن شقيقي الذي يكبرني, و كان يعمل طبيباً في منطقة الرياض, كان قد ختن طفله الصغير, غداة ولادته. تمت العملية في البيت علي يد زميله, و هو طبيب مصري, إختصاصي في أمراص النساء و التوليد. بعد العملية أخذوا يتحدثون و ثالثهم طبيب سوداني عن مخاطر ختان البنات, حيث أفاض هذا الإختصاصي من واقع تخصصه, و من واقع ما يعانيه أهله في صعيد مصر جراء ممارسة هذه العادة. لكن بعد ثلاثة شهور من هذه الواقعة, سافر أبناء شقيقي هذا إلي الخرطوم, و بعد يومين تم إجراء عملية الختان لبنتيه! الوفاة و الدفن: يبدو أن الجهل الذي كان يسود في الماضي, كان له أثر في نشوء بعض من هذه العادات التي كان يمارسها الناس في ذلك الزمان البعيد , و لا يزالون. من هذه العادات, سلوك المرأة التي يتوفي عنها زوجها, إذ تجدها تجلس في البيت لا تتكلم, و ربما يمر اليوم كله لا تحدث أي من الناس, رغم أن هذا أمر منهي عنه شرعاً, ذلك أن عدم الكلام يصيب المرء بالعلل النفسية. تجد نساء الحلة يجلسن حولها و كأنهن يراقبنها, و تدعي أنها حزينة. عند مغيب الشمس, تمارس بعض الطقوس التي لا أصل لها في الشرع. لكن يبدو أنها بفطرتها تعمل علي إتقاء شر الشياطين الذين ينطلقون عند دخول المساء. من عادة المآتم قديماً, أن الفراش كان ينعقد لمدة اربعين يوماً. و يبدو أن إيقاع الحياة كان بطيئاً, و لم يكن يشغل الناس شئي في ذلك الزمان البعيد. يروي أنه من العادات التي كانت تسود حينئذ, أن أهل الميت كانوا يرقدون في الواطة و ( خشمهم مليان تمباك) و كنت أسمع بعض العواجيز الذين عاصروا تلك الفترة, يتحدثون و يضحكون مما كان يحدث قديماً . و كان من عادة أهل الميت, أن يذبحوا ( الجداد) في الفراش, و كانوا يعتقدون أن ( الجداد) يلقط الدود من قبر الميت. لم نعاصر ذلك الزمان البعيد, و لكني كنت ألاحظ و حتي زمن قريب, أن النساء لم يكن يأكلن اللحم في بيت البكا, و لا أدري سر هذه العادة التي إندثرت بمرور الزمن. في أيام الوفيات, تتجلي مروءة الناس, إذ يخفون إلي حمل نعش الميت علي أكتافهم, و يسيرون به لمسافة بعيدة حتي المقابر, و يبادلون حمله فيما بينهم. و هم يعدون هذا إكرام للميت, و تعلقاً به بعد أن فارقهم إلي دار أخري. لم يكن البعض من الجيل القديم, يرضي أن يحمل النعش علي اللوري أو البوكسي, بل كانوا يصرون علي حمله علي الأكتاف. منذ سنين حضرت ( شكلة) بين واحد من هؤلاء القدماء, و بين بعض الشباب, إذ أصر هذا الرجل علي أن يحمل الميت و يسير الناس خلفه, و إدعي أن حمله علي اللوري ( حقارة) لأهل الميت! أما الآن فصار الناس يحملون نعوشهم علي ظهور السيارات, و لا يجدون غضاضة في هذا. و هكذا الحياة, تسود عادات ثم تبيد, و تنشأ أخري, إذ يفرض التطور نفسه. و من مروءة الناس في أيام الوفيات, إطعامهم لأهل الميت و للضيوف الذين يفدون للعزاء, إذ يحملون الصواني إلي بيت البكا و طيلة أيام الفراش, التي صارت لا تزيد علي ثلاثة أيام حالياً, و ربما ليومين أو يوم واحد. لكني ألاحظ Rashid Musa [[email protected]]