لطالما شدني صديق عباس بصوته الطلي، خاصة أغنية (اللالاية ضي الرتينة)، التي غابت عن سمعي نيفا وعشرين سنة قضيتها مغتربا.. عدت ووجدتني مستغربا من تبدل حال العباد والبلاد.. واللالاية لا تزال في بهاء صوته وضوء رتينتها .. وإن انعدم (الجاز). ظل لحنها الإيقاعي الساخن المواج، وترداد الكورس لمطلعها الآسر، يطغى على كثير من المفردات، ولم أتبين مقطع (شدولا الشبرية فوق البعيبيشة).. إلا قبل أيام والرادي يصدح بها.. واستوقفتني (البعيبيشة).. وغالطت تصوري الأول بأن الكلمة تشبه (البعشوم) الذي يجتاحني (هؤلاء) الأيام .. وأن (الشبرية) لابد قد شدت (للرتينة) فوق أليف لطيف بدلالة التصغير الذي يفيد الاستحباب، وما خيب (قوقل) ظني، إذ طلعت (البعيبيشة) = الناقة الصغيرة.. فأي عز تقلبت فيه (اللالاية) لعقود خمس، منذ أن أسمعنا إياها فني الصوت بالإذاعة ومدرب كشافة مدرستنا صلاح (حريقة) من مسجل (قرندق) الإذاعة الذي سجل عليه إحدى جمعياتنا الأدبية مطلع السبعينيات. رحم الله صديقا وصلاح. أما البعشوم، والذي يطلقه أهل البوادي على كل مفترس يمشي على أربع، يخص به بعضهم الثعلب والصبرة، ويطلقه آخرون على الأسد ذات نفسو. فقد اجتاحني بعد أن عدت من مغتربي قبل عام.. قضيت أشهره الأولى متفسحا متفرجا على سوء الحال.. متهبهبا مع جيل الثورة بآمالهم العراض في انصلاحه بعد انهدام. وآملا في اعادة (الإندماج والإندغام). ولأني جئت من مغتربات أكرمنا أهلها، وسعدت بالإقامة بينهم عزيزا، لا يستغرق أداء خدمة نطلبها ساعة على الأكثر، وإن استطالت اعتذروا، ورجوا منك مراجعتهم لاحقا في موعد مضروب أو بعد أن يتصلوا بك. فقد فجعت بدءا بتطاول الأزمان وسلحفائيتها لإنجاز أصغر إجراء- ما علمت إنه أصبح يسمى بالجرجرة – وهي لازمة متلازمة لكل مكتب حيكومة - فضلا عن (سغالة) من تلقى من الموظفاتية المتجهمين والصارين، الذين حرم جلهم من نعمة التصدق بالابتسام، بل وتخال ان وجها لهم لم تغشه البشاشة يوما.. وإنا لله.. كما يردد صيقنا عماد. ولأني كنت متفائلا، ولست مستعجلا، محبا للاكتشاف والاستكشاف. كنت اتقبل كل لطعة وتأجيل.. وكل يومين أجعلها أسبوعا..! بل وأخرج منتشيا وأروح أتمشى من جهاز المغتربين مثلا إلى حي الزهور، أو من مجمع الخدمات عبر السجانة إلى الديم والامتداد، متأملا مراتع الصبا والشباب. غاشيا الأقارب وبعض قدامى الأصدقاء، مستمعا لمقترحاتهم ونصائحهم في ما سأفعل. واستغرقني استخراج رخصة (أم شهرين) حداشر شهرا بالكمال – اخصموا تلاتة شهور الكرونا، وأنا قرير بكل هذه الملطعة. وبعد تدبر وتفكر قر رأيي على عمل استثمار زراعي صغير، أنحبس فيه ويجنبني زعل وملاواة غالب أهل السودان الجديد، ولا يحرمني من الماء والخضرة، (فالوجه الحسن وريتكم فوق حالو واكفهرارو).. وأصلها كان طالت باقي كم سنة اقضيها في راحة واستجمام.. أو هكذا توهمت. شريت الأرض، ولوازم الطاقة الشمسية وطرمبة البير والخراطيش، ووالله العظيم حتى البطارية والرادي وموبايل تلاتتين عشرة، قلت أصلو ما احتاج من برة الا للهوا.. أزرع على كيفي، آكل وأتصدق وأهدي وأبيع بمزاجي – هسي دي كتيرة والا بتزعل زول؟ داهمتنا الكورونا.. ولما رفع الحظر كانت تكلفة أي شيء قد تضاعفت لثلاثة مرات، فاستنزفني حفر البئر وشراء التقاوي وبعض اللوازم، وتطايرت الدراهم والمدخرات.. ولمن بقيت على تجهيز الأرض دلوني على (مكتب لنهضة الزراعة – تسلم النهضة ويسلم الاسم).. تعاقدت ودفعت التكلفة على أن أجيب جاز التركتر.. وزودني المسؤول بوريقة تأذن بتصديق عدد برميلين.. طفت بها نواحي كرري والنوبة والسروراب، فأعادوني محسورا إلى حلة كوكو.. ومن محلية كوكو لشرق النيل ثم الحاج يوسف.. وبعد أسبوعين صرفت فيهما برميل بنزين أفتاني موظف خلوق (يا لدهشتي) بأن ال 200 نفر الشايفهم ديل منتظرين تصديق طلبات قدموها منذ أكتر من أسبوعين، فصحت يا للهول..! لم يعتقلني (ألم أقل لكم إنه خلوق؟)، ونظر في وريقتي عن قرب وأفاد بأن جاز التركترات موقوف والتصديق فقط للري.. طيب أنا داير احرت عشان ازرع ثم أروي. فوجهني لمقابلة المديرة التي حال بيني وبين بابها بوليص زهجان لابس فنلة برد ومسدس..! فآثرت الانسحاب. هل قلت لكم ان المكتب اسمه نهضة الزراعة، وأن نجاح الزراعة يعتمد على حسن اعداد التربة، جودة البذور أو الشتول وملاءمة المواقيت؟..لعلي نسيت إبلاغكم بأني سددت التكلفة قبل أربعين يوما حسوماً، على أن يقوموا بالحراتة عشرة أيام بعدها (أو قبلها إن وفرت الجاز) الذي استلفته بعد يومين من قريب لي قايل نفسي سأعيده بعد الحصول على التصديق. علما بأن فرق السعر بين جاز الزراعة والسوق البرتقالي يبلغ 31 ألف جنيه أي أكثر من سبعة أضعاف، و(دا الألف الخليتو مليون قبل اغترابي).. وظللت أتصل عشرات المرات كل يوم بعدد من المعنيين بمكتب النهضة لأعرف متى سيأتون، لا يجيبون غالبا..وعندما يجيب بعضهم يقولون ما لا يفيد.. زرتهم قبل يومين للمرة الخامسة مستفسرا.. فقال لي المسؤول الجديد إنه (ينتظر مجيئي ومن لديهم ايصالات قديمة) ليبلغنا أنهم أوقفوا العمل بالتسعيرة وزادوها لأكثر من ثلاثة أضعاف.. وبذا صارت أعلى من تكلفة السوق البرتقالي يوم تعاقدت معهم بأكثر من النصف.. وأضاعوا علي أربعين يوماً كاملة .. صار ميقات الزراعة بعدها حركركاً.. أو كما قال استاذ دهب. عليه فقد قررت أن أتخلى عن مزرعة المستقبل المريح لصاحبها المغترب المستريح. وبعد أن لازمني السقاد لأسابيع وأنا أتلمظ ريحة الجاز وغبار التركتر، بت منذ سماع (اللالاية) أنام ملء جفوني وقد عزمت على الاتجاه الى السمسرة مع أولي التفتيح، الذين كل راس مالهم إغلاظ الحلايف والطلاقات بعد الصلاة على النبي الأكرم، وتقاسم الحمدوكات والبرهانات نهارا لبذلها عشية في مطاعم السمك والشية وشفط العصيرات.. وليطير ناضر الزرع والجاز الوراه معافرة. . ولا نامت عين من لم يسمع شدو الكاظم: (شدولا الشبرية فوق البعيبيشة.. تتمايل و تقدل الملكة بين ديشا.. أرضي بالحالة .. طارت بلاك عيشة). عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.