لقد ظلّت حدودنا الشرقية مع الجارة إثيوبيا وعلى طولها، محل اضطّرابات وإن تباعدت فتراتها الزمانية وحجم الأفعال التي تجسّدها. وقد تمحورت تلك الاحتكاكات المسلّحة في غالبها وربما كلّها بين مجموعات مسلّحة أثيوبية عُرِفت اصطلاحاً (بالشفتة) وبين قوات سودانية سواء من الشرطة أو الجيش، مما ظل ينتج عنها سقوط ضحايا من الجانبين إضافة إلى الضحايا المدنيين من المزارعين غالباً، وقد احتسبنا في التعدّي الأخير عدداً من الشهداء. السودانيون والأثيوبيون على طول تلك الحدود، ترتبط معايشهم بذلك التداخل الديموغرافي الذي عماده التمازج القبلي وصِلات الرحم، فضلاً عن التعايش المحكوم بالمصالح، وتمثِّل التجارة البينية أكثرها رواجاً. في حين تمثّل الزراعة أحد أسباب الاحتكاكات. لم تُحرّك الحكومتان أبداً ملف حسم النزاع الحدودي ونقله إلى المحاكم الدولية، وظل الطرفان ضمنياً يحتفظان بعلاقات جيّدة رغم هذا الوضع المتشاكس القابل للاشتعال دوماً. أن تبقى الحدود ساكنة وآمنة وأن تنتقل الدولتان إلى مرحلة التكامل فيها هو ما يتمناه مواطنو التمازج في هذا التماس، وإن تعذّر الأمر فإلى مرحلة المعالجة الثنائية للخلافات عبر الحوار، وهو لا بد أن يمثّل غاية ما ينبغي أن يسعى إليه الطرفان. فإن تعذّر كل ذلك، فالطريق إلى التحاكم الدولي يجب أن يكون حاضراً لحسم المنازعة، وهنا لا بد أن يكون معيارنا نحن في السودان واحداً في التعامل لاسترداد أراضينا والحفاظ عليها مع كل دول الجوار. نحن في عصر تجاوزت فيه الدول مزالق الحروب ومستنقعاتها، فإن بقي منها شيء، فهي بين الدول التي ما زالت شعوبها رهائن لدى حكوماتها الدكتاتورية. لقد استوعبت الشعوب المتطوّرة دروس الحربين العالميتين بكل قساوتيهما، بل أدركت حقيقة وفائدة تجاوز الغبن والانتقال إلى صيغة التعاون والتبادل المصلحي. لذلك نشهد تفاعلات مصلحية رابحة مثل السوق الأوروبية المشتركة ومثيلاتها. في مرحلة لاحقة من نهاية ثمانينيات القرن الماضي، دخلت العديد من دول العالم النامي في موجة النزاعات الأهلية المسلّحة داخل القطر الواحد. فمنذ اضمحلال نفوذ الحرب الباردة وانتقال العالم إلى شبه سيطرة أحادية القطب، بدأ اشتداد أوار النزاعات الأهلية المسلّحة داخل الأقطار وبين مكوّناتها الاجتماعية، وفي بعضها تكون الدولة نفسها طرفاً. تعددت الأسباب من ظلم تنموي أو طائفي وأحياناً من أجل الحريات ولكن المحصلة واحدة. مثل هذه الحروب أيضاً تلاشت تقريباً في معظم قاراتها المعهودة بها (أمريكا اللاتينية وآسيا) ولكنها ما زالت مشتعلة ويتواثب لهيبها الآن في الشرق الأوسط وفي أنحاء قليلة في أفريقيا. السودان وبعد ثورة ديسمبر المجيدة، ورغم المعادلة المهجّنة للحكم، أصبح شعبه في حاجة إلى استقرار حتى يستطيع أن يتجاوز المعضلات التي ورثها من النظام البائد والانتقال إلى مرحلة الديموقراطية والحكم القائم على تنافس تعددي سياسي وانتقال سلمي للسلطة. بصرخة عالية نقول، يكفينا ضياع السنين والحصيد المهين الذي لم يُغن شيئاً. لقد رفع الشعب شعار حرية سلام وعدالة، والسلام الذي يجب أن نتوشّح به جميعاً ينبغي أن تتلألأ نجومه في سماء بلادنا أولاً، ومِن ثمّ يترصّع إكليله بحمائم السلام مع الشعوب التي تجاورنا، والشعب الأثيوبي أحدها. لا معنى للسلام إذا ما اندفعنا ورقصنا مع طبول الحرب مع الجارة إثيوبيا. فالحرب ستهدد السلم والسلام الإقليمي والعالمي. بل ستكون صفعة قوية في وجه الشعب السوداني الذي رفع شعاره في الثورة السلمية التي شهدها وبَجّلها العالم واحترمنا بها، والذي يمثّل السلام ضلع أساسي فيه. إذا اندلعت الحرب لا قدّر الله بين السودان واثيوبيا، نقول للسلام الداخلي السلام، وشتان ما بين نفائس المضمون الأول ونقائص المردود الثاني. نحن بذلك نكون قد حفرنا بأنفسنا ومعاولنا قبره ونسجنا بأيدينا كفنه. ستتحول الحكومة الانتقالية الهجين إلى حكومة حرب، وذلك بفرض حالة الطوارئ، وسيصبح الشعب محكوماً به، "فلا صوت إذاً يعلو فوق صوت الحرب والمعارك". ولن يكون هناك خيار غير دعم القوات المسلّحة في الحرب بتقوية الجبهة الداخلية، أي بتحويل الإمكانات والجهود الشحيحة أصلاً، بما في ذلك المشاعر إلى جبهة الحرب، حينها سيكون ذلك هو ما تمليه علينا الوطنية، وستعود معسكرات تجنيد الشباب إن لم تكن بمسمياتها القديمة ولكن حتماً بمسميات جديدة لصالح الدفاع عن الوطن المهدد وتعود موازنة ال 75% للأمن والجيش لمقابلة تكاليف الحرب. بيد أننا نقول أن الوطنية وإن تجلّت بأداء المواطنين أدوارهم كاملة في الحرب، إلا أنها تتوهّج أكثر ضياءً في قدرتنا على النأي ببلادنا عن الدخول في أي حرب مع جيراننا وغيرهم. لن تكون الأولوية في ظل الحرب لتحسين الحالة المعيشية أو حتى الحديث عنها، ولا لحماية النازحين أو عودة اللاجئين أو إعادة اعمار ما دمّرتها الحرب الداخلية الطويلة. إذ كيف يمكن الحديث عن ذلك في وقت تُقدِّم فيه القوات المسلّحة أرواح مجنّديها على ساحات المعارك. بل سيكون هناك المزيد من الضحايا من العسكريين والمدنيين وبالطبع المزيد من النازحين واللاجئين والدمار. أما الحديث عن الحريات فسيكون ضرباً من ترف سياسي وربما تجريماً في ظل حكم الطوارئ. لهذا أحسب أن قيادات حركات الكفاح المسلّح بما خبروا من ويلات الحرب التي يجب أن يكونوا قد اصطلوا بلهيبها ولسعهم زمهرير صقيعها بشكل مباشر أو غير مباشر، وبما يُفترض بأنهم يعملون لتوطيد أركان السلام والاستقرار لينعم المواطن بأي قدر من مزايا الاتفاقية التي تم توقيعها في جوبا، يجب أن يكونوا هم أول من يسعى وبشدّة لوقف أي توجّه للدولة للدخول في حرب وليس العكس، وإلا حكموا بأنفسهم على الاتفاقية التي وقّعوها لتبقى حبراً على ورق وأن يتم حبسها في الأدراج، وبالكاد يُنفّذ منها تسمية شاغلي الوزرات الست وأعضاء مجلس السيادة الثلاث وكفى. فهل ذلك أقصى الطموح أم سيتعاملون مع السياسة بقدر وعمق مقتضيات التفاعل معها صوناً للكثير الذي ينبغي في هذا المنعطف الحرج. المعطيات الظرفية تشير إلى أنه ليس لإثيوبيا التي دخلت قبل أسابيع في نزاع داخلي مع مكوّن إثني من مجتمعها في إقليم التقراي الذي يقع على الحدود السودانية أي مصلحة في اندلاع حرب بينها وبين السودان، وهي تعلم أن ذلك قد يوفّر ملاذاً آمناً لقوات التقراي في السودان. بل يجب أن تكون مصلحتها في أن تسعى للحفاظ على حالة استقرار في حدودها السودانية يؤمّن لها استكمال مشروع سد النهضة الذي هو الآخر على بعد كيلومترات قليلة من حدودنا الشرقية، وبسياق تاريخي في إقليم بني شنقول والجميع يعي السياق. هذه المعطيات ينبغي أن تدفعها للحفاظ على حدود آمنة ومستقرّة حتى وإن أكملت مشروع السد، لتتمكن من الاستفادة منه بتسويق الكهرباء للسودان الأقرب. والحال كذلك، فالواقع يحتّم عليها أن تعمل على إلجام مجموعات الشفتة حتى لا يشكّلوا بأي أفعال رعناء عود الثقاب الذي يشعل الحرب. بالنسبة لنا في السودان، يكفينا ما نحن عليه من وهن في وقت تنهشنا الخطوب الداخلية بأسنانها وأظافرها، ولم يعد في جسدنا المُنهك بقعة سليمة. لهذا فحالنا أكثر حاجة للاستقرار وتفادي الحرب. لا بد أن نعي بأنه وفي ظل الحروب، ستستبيح أيدي خارجية كثيرة جيبنا المُشرع لنهب منتجاتنا وإعادة تصديرها، تماماً كما حدث للبترول العراقي والسوري والليبي وغيرها من ساحات الحروب، وتماماً كما يحدث للكثير من منتجاتنا عبر التهريب لأننا منظومتنا الرقابية قاصرة ووجدان المهربين معطوب الوطنية. وسينطبق علينا المثل القائل "نوم الحارس مصباح للسارق"، حيث إن انشغالنا بالحرب سيكون بمثابة نوم الحارس. من هنا أنبّه كل قادة القوى السياسية وقادة حركات الكفاح المسلّح باختلاف مسمّياتها وتوجّهاتها الفكرية وقادة القوات المسلّحة السودانية والدعم السريع والشرطة ولجان المقاومة وشباب الثورة وكافة أطياف الشعب السوداني بخطورة اللحظة التي نقف على عقاربها، ولا ينبغي لنا أن ندعها تنتقل بنا كيف تشاء. إن التغيير والتحول الديموقراطي الذي نستشرف، بات على المحك ومصيره الآن قيد ضغطة على (تِتِك). وأن صونه رهين بأن ننظر للأمور ببصيرة تتسع وتستوعب أفق المآل المتوقّع من حرب قد تبدأها ولكنك لن تستطيع تحديد نهايتها. فالمصالح المتشابكة والمتقاطعة على المستوى الإقليمي والدولي وبدخول اللاعبين الذين سيعملون على تحقيق مصالحهم، هم الذين سيُطيلون من أمدها ويُمسكون بخيوط نهايتها. عشنا أربعة وخمسين سنة في حروب داخلية، الثلاثين سنة الأخيرة منها في أسوأ حكم ديكتاتوري مدمّر. لا يجب أن نعيش ثلاثين سنة أخرى تحت حرب وحكم طوارئ هو في الواقع المسمّى الآخر للدكتاتورية حتى وإن كانت الغاية سامية. مهما كانت الظروف لا يجب أن نندفع لبدء حرب لن نملك بأي حال من الأحوال قرار وقفها. إذا فعلنا ذلك، نكون قد وأدنا ودفنا طموح الشباب الذين ضحّوا في ثورة سلمية مميّزة ويأملون في استكمال مشوارها نحو المدنية الكاملة بتحقيق دولة الحرية والسلام والعدالة. من الحكمة أن نعمل لدرئها وذلك أوفق وأبلغ. نُطلق دعوتنا ونقول إنه لا تفريط في أراضينا أينما كانت، ولا تهاون في حماية مواطنينا. ولأننا نعلم التضحيات الأكبر في الحرب ستقدّمها القوات المسلّحة بكل أطيافها وقد احتسبنا عدداً منهم شهداء في المواجهات الأخيرة، لهذا يجب أن نعمل جميعاً لتفاديها. قرار الحرب قرار سياسي أما إدارة المعارك فهي شأن عسكري، لنستنزف السياسة أولاً لأقصى درجاتها باتباع مراحلها. هناك مقولة مأثورة تقول " يُعلمنا التاريخ أن الحروب تبدأ عندما تعتقد الحكومات أن ثمن العدوان رخيص". 27 ديسمبر 2020م عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.