الحقيقة أن صحافتنا ظلت توالي الصدور منذ ما يقارب القرن. ومع ذلك لا تزال أوضاعنا العامة تعيد أسئلة الحياة الأولية بإلحاح ملموس. إذن ما هي الأسباب الجوهرية لميلاد صحيفة جديدة من أجل تغيير الحياة السودانية نحو الأفضل، ما دام أن مثيلاتها تعد بالعشرات في سوق الصحافة الرائج الآن، وما دام أن الواقع يتجه للسوء كل يوم؟ بطبيعة الحال أن للناشر ورئيس التحرير إجابات محددة حينما يواجهان بهذا السؤال، وربما بأسئلة أخرى تتعلق بنواياهما التنويرية هذه، هذا إذا حسبنا أن الإستثمار في الصحافة له علاقة بالتنوير، كما لو أن للفنون عامة علاقة بالإمتاع. إذا إتفقنا على أن للناشر ورئيس التحرير فلسفتهما الخاصة للإجابة على السؤال عاليه، فإن السؤال الآخر الذي يلاحق الكتاب هو: لماذا الكتابة؟، أو ما الذي يمكن أن يضيفه الكاتب ما دام أن قرناء له يعدون بالآلاف يسودون الصحف، ومع ذلك لم يؤت الله أحدهم الحكمة لمعالجة هذا الوضع الذي لم يجب سدنته من حاكمين ومحكومين على تلك الاسئلة الأولية، والتي منها سؤال المأكل والمشرب بكرامة. الإجابات السهلة على سؤالات صدور الصحف الجديدة، وأسباب الكتابة، وضمور لوازم الحياة الكريمة، متوفرة لابد. ولكن الاجابات الصعبة التي تحل مشاكلنا هذه ظلت كامنة في سالب ثقافتنا. فذهننا يتحاشى غذ السير بشجاعة نحو نشر الحقيقة. وتعودنا، بالتجارب، على أن يفرض علينا التغيير فرضا، أي بعد أن نكون قد أزهقنا الأرواح، وأضعنا الإستقرار المؤدي لتنمية إنسانيتنا، وأهدرنا كل ما هو غال وثمين في وطننا. فمثقفونا، ومثقفو الأقليم الحضاري، يحركهم التاريخ بينما يصنع مثقفو الشعوب الأخرى التاريخ لأنفسهم ثم نأتي بعد لت وعجن مكلفين إلى إستنباط القيم التي أتى بها التاريخ من علم، وفكر، وذوق، وأنماط تحضر. وبهذا المستوى من النظر يمكن القول إنه مقدر لشعبنا، والشعوب التي تستنبط لنا أحكام القيمة الدينية، أن يكون وراء الزمن، وليس في عمق دائرته. الشعوب التي أمسكت بقلب الزمن الحضاري هي التي حققت ذلك الفضل البديع بين السلطات. هناك، للسلطة التشريعية مداها، ورموزها المؤهلين، ولها حق تأطير الكيفية التي بها تستوعب الأخيار، ولها أصحاب يقضون الحاجيات المحلية والقومية. السلطة التنفيذية، هناك، منتخبة بغير مفهوم (القوي الأمين) الإنتهازي، وإنما بمفهوم التداول السلمي، ولهذه السلطة قيدها الزمني الذي من خلاله تنجز، ثم تحاسب. معنى السلطة القضائية هناك أنها تزاول بعيدا عن الأمزجة الشخصية لقادة السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا يحدد لها فرد أحد طريق عملها، أو يحدد لها من يجب ان تقاضيه، ومن تغض الطرف عن ملاحقته قانونيا. أما وإن كانت هناك سلطة رابعة مجازية، فهي سلطة الصحافة، بإرثها القديم والجديد، وليس هناك شخص صمدي يرسم لها خطة يفصل بها ما ينشر من خبر، أو تحقيق، وما لا ينشر. هنا، في بلادنا فإن المعلوم بالضرورة أن الناشرين يصدرون الصحف لرغبات تجارية مغلفة برغبات للبحث عن نفوذ، وكذلك مغلفة برغبات ثقافية إن لم تكن تنويرية. ويشكر أي ناشر على هذا الصنيع العرفاني ما دام أن الإستثمار في مجالات الفكر، والثقافة، والفن، والإعلام، ينبغي أن يكون أولوية قصوى لكل المستثمرين الذين أفاء الله عليهم. والحقيقة لا تزال هناك مساحة للنجاح في الإستثمار الصحفي برغم أن عامل (الإعلانات الحكومية والخاصة) صار أمرا جديدا يهدد الصحف الممتازة مهنيا، ويعلي من شأن الصحفيين، والكتاب، الذين يقدمون مصلحة الآيدلوجيا على المصالح العليا لمن نسميهم بالجماهير، أو الشعب، أو الأمة، أو المواطنين. وتبعا لفخ تلك الإعلانات يتهدد الإعلامي الدارس، والخبير، في رزقه بينما يظل من هو أقل موهبة، وأدنى خلقا ووطنية متسنما الإدارات الإعلامية. ولا شك أن السعي لإستثمار صحفي يرنوا إلى نشر المعرفة والحقائق مجابه بحقيقة غياب ذلك الفصل الضروري بين السلطات المجتمعية، والذي يحمي رأسمال الناشر، وحقه في مضاعفة إستثماره، وفي ذات الوقت يحمي الصحفيين والكتاب الذين يعتمد عليهم الناشر لتحقيق نفوذيه الإجتماعي، والإقتصادي، إن كان لا بد منهما. المعلوم بالضرورة أن الصحفيين هم أبناء بيئة يفهمون حدود تكلس مفاهيمها. ويعايشون حقيقة مكرها حين يجد الجد، وحين لا يجد. ولهذا فإن من صميم رسالتهم إيجاد صحافة حقيقة، فيها تخاطب جذور الأزمة السودانية في جوانبها الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والإجتماعية، والتجارية، والإعلامية، إلخ. بيد أن هذا النوع من الرسالات يتطلب التضحيات الجسام في زمن ما هل إلا ليغمط حقوق الناس كافة في التعبير عن حرية أفكارهم. ولو أن صدور (الحقيقة) جاء ليزيد عدد الصحف اليومية، فإن هذا الصدور يعبر (في خصيصة تفكير رئيس تحريرها) أن هناك فراغا يريد، بالبديهة، ملئه بمختلف الخدمات الصحفية التي لم يتيسر للقراء أن يجدونها في الصحف الأخرى. وعليه فإن نجاح (الحقيقة) يرتبط بالتميز الصحفي أكثر من تميزها في ضم كتاب كبار أفرزتهم تجربة القراءة لهم. وللمفارقة أن الإعلان عن صدور صحف جديدة دائما ما يترافق بإعلانات مضمنة بصور كتاب، وليس بصور صحفيين نجوم. وتلك الإعلانات قد تعطي إيحاء أن الذين يشكلون عماد نجاح الصحف إنما هم الكتاب، وليس هم أيضا أولئك المحققين والمخبريين الصحافيين الذين يصارعون الوقت بحثا عن الحقائق، وتوظيفا لفرص إتقان العمل في صالة التحرير. وما على القارئ الذي يقرأ هذا الإعلان المبشر بوجود صحافة جديدة إلا أن يركز على الصحيفة التي تكتنز بالكتاب البررة الشجعان، بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود صحافيين متمرسين يأتون بالخبر اليقين، ويحققون في تجاويف الحياة ليكشفوا بالقلم، والكاميرا، مآسيها وفسادها ومفارقاتها، على ما في هذه التحقيقات الصحفية من إهمية في إعانتنا في إدراك عجز، وقصور، السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، التي تغط في نوم عميق. فكشف التحقيقات الصحفية لمستندات سرقة، أو إختلاس المال العام في الأضابير الحكومية لا بد أن يكون سببا ليحرك المدعي العام لإعمال سلطاته. ومياه السايفونات التي تختلط في عمقها بالآبار لا بد أن تحرك ضمير التشريعيين لإستدعاء الوزير المختص لمسائلته، وإلا تكون الصحافة، غير مؤثرة، خالية من المعلومات، ومحشوة صفحاتها بالرأي الذي يعبر عن الرؤى التي يمكن لكتاب يمالئون السلطة، تفنيدها سواء بالمنطق أو المكابرة. على أن إهمية الكاتب، صحافيا أم غير صحافي، أمر لا جدال حوله.. وهذا الإعتراف الجديد بقدرة الكاتب على إنجاح الصحف الوليدة ما دعا للتبشير بنجاحها عبرإعلان يتضمن صورته الجانبية أمر يثلج صدور العارفين بأن الكتاب هم ملح الأرض.. وأيضا يعيد هذا الإعتراف للكاتب حقه الأدبي، والمادي، الذي ظل تاريخيا محل هضم. ومالنا لا نقول، من ناحية ثانية، إن ظاهرة إعلانات الصحف الجديدة المضمنة لصور الكتاب ربما أبانت لنا أنهم يصدحون بالحقيقة في أوضاع كهذه بشكل يتجاوز همة الصحافيين في العثور الخبر المميز، أو إجراء التحقيق الجرئ الذي يلفت الناس لظاهرة مهددة لصفائهم، أو أمانهم، أو صحتهم. ومالنا لا نقول أيضا إن الناشرين، وهم قراء ومعدو دراسات جدوى أيضا، أستيقنوا أخيرا أن القراء يدركون أن الحال تجاوز سقوف الأخبار التي تكشف حجم السوء، وأن التحقيقات حول الاوضاع التنفيذية، والإجتماعية ،لا تخبرهم بسوء جديد متناه عن خواتيم عمل (المشروع الحضاري) بأكثر مما خبرته أعينهم، وتحققت به أبصارهم. صحيح أن كل هذه التكهنات قد تضعنا أمام حقائق جديدة حول طبيعة الصحافة في زمن الإنقاذ، والتي فيها صارت أجور الكتاب مشرفة، وموحية بأننا نقيم سيد الحروف، وليس (ست) الحروف، حيث لم تعلمنا تلك الإعلانات عن كاتبات يصنعن النجاح المتوقع. ولكن التوقع هو أن الصحافة السودانية والتي بدأت رؤيوية الطابع، وليست إعلامية، قد عادت إلى سيرتها الأولى ليكون همها التعبير عن الرأي أكثر من النزوع بهم القارئ إلي العبارات المعلوماتية. نعم، ربما يرجع سبب سطوة الكاتب في صحافة يومنا السوداني إلى إنحسار فرص تطور الصحافة في البلاد، وهي التي تتطور مهنيتها بتطور الأفراد المداومين يوميا على ترقية صفحاتها، وهم الكادر الذي يعاني معظمه الآن من شظف الحياة، وضمور منابع الإستنارة، والتهديد بقطع اللسان إن لم يكن الصلب، كما هدد أحد عباقرة الأمن. وهكذا يتكثف التأويل لنجد أن وجود هؤلاء الآلاف من الخريجيين في الجامعة الإسلامية(صحافة وإعلام) والجامعات الأخرى، لم يسهموا في تغذية سوق الصحافة بعلومهم التي تحصلوا عليها إلا قلة لم يقنعوا الناشرين بضرورة تضميين صورهم وأسمائهم في الإعلانات التي تسبق صدور الصحف، وذلك بوصفهم مؤهلين بالجديد من معارف الصحافة وعلومها. ومبلغ علمنا أن معظم رؤساء تحرير الصحف، والقاعدة الصحفية، من الذين لم يتلقو تعليما أكاديميا في فنون الصحافة، فأكثر صحافيينا عبر مدار تجربتنا مع فن الصحافة أتوا من تخصصات علمية وأدبية، وهناك عدد كبير من الذين لم يتلقو تعليما جامعيا أصلا. إذن فما فائدة كليات للصحافة والإعلام إن هي لم تسهم، إستراتيجيا، في ترقية سوق العمل؟ والحال هكذا ألا يستوجب الواقع إجراء تحقيق عن كليات الإعلام والصحافة لمعرفة تأثيرها على أرض الواقع، ومعرفة ما إذا كانت هذه الكليات تمتلك صحفا، وإذاعات، ومجلات خاصة بها، لتدريب طلابها قبل تخرجهم، كما هو الحال في البلدان المتقدمة؟ ومن هو المحقق الصحفي النابه الذي يبحث لنا في هذا الموضوع، خصوصا وأن عمر كلية الصحافة والإعلام بأمدرمان الإسلامية قارب الأربعة عقود من الزمان، أو يزيد؟ بشكل عام فإن أزمة الصحافة السودانية ترتبط بأزمة بلادنا المستعصية على الحل إلى هذه اللحظة، وهي الأزمة التي قلنا إن سلطاتها التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والإعلامية، مملوكة لحفنة من سياسيين. ولم يوفقنا الله منذ إستقلالنا على إمتلاك نظام سياسي مستقر يكفل للتشريعيين، والتنفيذيين، والقضاة، والصحافيين، نوعا من التناغم السلس، حيث بواسطته تجتهد كل جماعة لصالح وطنها دون أن تتغول عليها جماعة أخرى. وهنا مربط الفرس، فالناشرون، ورؤساء التحرير، والصحفيون، والكتاب، يحسون بإستمرار أن هناك تضييقا يحجم إبداعهم، وقد يلقون بالملامة على النظام السياسي القائم، وكذلك الانظمة السابقة، وهم على حق في ذلك الزعم. ولكن يظل هذا التحجيم الإبداعي ماثلا إلى أن تتحقق علمانية النظام السياسي والتي هي المحقق الأول لمهنية الدولة، وفاعليتها، وإستقرارها، وتطور بنياتها العامة. وهي أيضا المحقق الأول لتسامح أديانها، وآيدلوجياتها، وأعراقها، وأفرادها. سيلت مثقفو اليسار واليمين حول إسلامية الدولة، أو مدنيتها، وسيعجن أصحاب الولاء العقيدي، والآيدلوجي، ما شاء لهم العجن، وسيتخاصمون، ويتبنابذون، ويفشون أسرارهم العرقية ما شاء لهم الإفشاء. ولكن سيظل واقع السودان مدعاة للرثاء إن لم نحقق هذه العلمانية التي يتنعم بها كل صاحب رأي حر بما فيهم (بايونير) الإسلام السياسي في بلادنا، والذي لا ينقذه الآن إلا وجود فصل بين السلطات، ذلك الذي ينهي له مكر الدولة التي خلقها. وحينئذ سيكون للناشرين، إسلاميين وغير إسلاميين، فتحهم الإقتصادي. وللصحفيين سلطتهم المحكومة بالقانون. وللكتاب مجال إبداعهم الذي لا يتحجم بدواعي التكفير أو التخوين. وسيكون للقارئ خياراته الحرة، ومصادر تلقيه التي لا يتدخل أحد في توجيهه إليها، أو منعه عنها. إن (الحقيقة) والتي تصدر اليوم بقيادة الدكتور معز حسن بخيت، والصديقين الطاهر ساتي، وعبد الرحمن الأمين، وكوكبة أخرى من الزملاء الصحافيين، والكتاب، مطالبة بإحداث التمايز وسط مثيلاتها الكثر، خصوصا وأن المنافسة حامية الوطيس بين صحافة مدعومة ظاهرا وباطنا، وأخرى لا يحبذ أهل الحل والعقد خطابها، ومعالجاتها الصحفية. وقد تفرض فداحة الواقع المرير الذي ترزح فيه بلادنا على الزميلين ساتي، والأمين أن يعززا الخطو نحو إنجاز (صحافة المعلومات) ويعيدا الإعتبار لإهمية الخبر والتحقيق المتميزين، واللذين يضعاننا على حقيقة المخفي دون سمع وأعين العامة. وعندها سيدرك القراء فرادة (الحقيقة) وفراستها في مناخ تسيده الخوف من نشر الحقيقة. نقلا عن صحيفة الحقيقة salah shuaib [[email protected]]