هزني جداً النبأ الذي تداولته أجهزة الاعلام باستقالة رئيس أركان الجيش الإسباني ميغيل أنخيل فيارويا من منصبه، بعد صدور تقارير اتهمته بأنه استخدم سلطاته لمحاولة الحصول على لقاح فيروس كورونا قبل دوره، وقبلت وزيرة الدفاع مارجريتا روبلز استقالته. ورغم عدم اكتمال التحقيق في الحادثة وتأكيده أنه لم يحاول أبداً الحصول على شيء لم يكن من حقه، فقد برر استقالته من منصبه ليحافظ على سمعة الجيش الإسباني وصورته في أذهان المواطنين. وقد أثار هذا الخبر سؤالاً كبيراً وهو ما الذي يميز هؤلاء الأوربيين عنا، وما الذي يدفعهم للتمسك بقيم عليا أصبحنا لا نلقي لها كثير بال. قد يمر خبر حصول أحد السياسيين أو أحد قادة الجهاز التنفيذي في بلادنا على ميزة لا يستحقها كأمر لا يستحق كثير تأمل، كما أن المطالبة بالرشوة من الموظفين العموميين أو استخدام النفوذ السياسي والقبلي لم يعد أمراً يحتاج إلى منظار مضخم لرؤيته في الخدمة العامة الحكومية. وأدى ذلك إلى انتشار ثقافة استسهال أمر الفساد، وعدم استنكاره. ولا أعتقد أن الأمر غريباً أن التقرير السنوي لمؤشرات مدركات الفساد الذي اصدرته منظمة الشفافية الدولية في العام 2019 وضع السودان ضمن قائمة أكثر عشر دول فساداً في العالم. يمكن النظر إلى الانحدار في مؤشرات تدني المستوى الأخلاقي والمعايير التي تحكم النزاهة في الخدمة العامة مقارنة بمكافحة الفساد التي كانت تتم في العهود التي تلت الاستعمار، من خلال عدد من القصص والروايات، فقد حكى د. منصور خالد أن تقريراً ورد إلى رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل يتهم طبيبين بالتصرف في بعض الألبان المخصصة للمرضى في إحدى المستشفيات فلم يتردد في إحالتهما للمعاش. وتزداد أهمية هذه الحادثة عندما يتبين أن أحد الطبيبين المحالين هو شقيق أحد وزرائه الأقربين. حدثت هذه الواقعة في الفترة التي تلت بداية الحكم الوطني مباشرة، وكانت الأحلام الوطنية وقتها مرفرفة والهم العام يتطلع إلى قيم رفيعة وسامقة، قبل أن تتقدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. وقبل أن تكون مصطلحات مثل (حقنا) و(الكوميشن) وغيرها من المصطلحات التي تستبطن الفساد جزءاً من ثقافتنا العامة. إن أسوأ من الفساد الذي نشب في الجسد المؤسسي وأصبح سمة ملازمة لأداء الخدمات الحكومية وعلى مستوى القطاع الخاص، هو سيطرة ثقافة لا ترى في انتشاره أمراً يثير الدهشة أو يستدعي الاستغراب، وإنما تنظر إليه كفعل عادي. فقد يدل انتشار الفساد على غياب آليات المساءلة والمراجعة المطلوبة، كما يدل على ضعف البناء المؤسسي الذي يقف مانع صد ضد انتشاره ، لكنه في المقام الأول هو إشارة للقابلية لاستشراء الفساد وضمور الكوابح النفسية التي يمكن أن تقف في مواجهته، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصاب به الناس. واذا أصيب القوم في أخلاقِهم ** فأقم عليهم مأتماً وعويلاً الفساد سمة تتطلب مكافحتها استخدام وسائل عديدة لكبحها على مستوى الممارسة الظاهرة وعلى مستوى التربية والسلوك العام. ومن المتعين أن تتضافر هذه الآليات للتضيق عليه. ومن حسن الحظ فإن العالم قد خطا خطوات كبيرة في وضع واختبار نجاعة الوسائل التي تؤدي إلى مكافحة الفساد. ولم يتبق لنا سوى اختيار افضل الممارسات العالمية وأقربها إلى ثقافتنا . وبنظرة سريعة لآليات مكافحة الفساد يتضح أننا بعيدون عنها بما يوجب سرعة النظر في أوضاعنا. لا أعتقد أن مشكلتنا في مكافحة الفساد تكمن في الضعف التشريعي أو عدم وجود القوانين اللازمة لذلك، فالتشريعات المنظمة كافية بما يفيض، وإنما المشكلة تكمن في الأداء المؤسسي وعجز الأجهزة في القيام بما هو منوط بها من واجبات. فالتشريعات الجزائية التي تجرم الاستحواذ على المال العام بدون وجه حق، وتضع له العقوبات اللازمة، لا غبار عليها، والجزاءات الإدارية التي تعاقب الموظفين العموميين على مخالفاتهم ذات العلاقة بالفساد كافية إلى حد مناسب وإنما المشكلة في كيفية تنفيذ هذه التشريعات والامتثال لقواعدها، ووضع الآليات التي تسهر على تطبيقها. بنظرة عجلى على مطلوبات مكافحة الفساد وفق المعايير العالمية ومن بينها اتفاقية مكافحة الفساد فقد حقق السودان بعض النجاح على صعيد التشريعات الجزائية وفي فصل النيابة ومنحها مستوى مناسب من الاستقلالية باعتبارها المسؤول عن التحقيق في جرائم الفساد وتقديمها للعدالة، ولكن لا تزال عناصر الضعف كبيرة وتحتاج إلى ردم ومنها. 1- لا توجد استراتيجية واضحة لمكافحة الفساد، فكثير من الشعوب وضعت مثل هذه الاستراتيجيات وسارت على طريق تفصيلها في خطط قصيرة وطويلة المدى، وحققت نجاحات لا بأس بها. فمكافحة الفساد معركة طويلة المدى لا يتم خوضها عشوائياً وإنما تستلزم أن توضع لها الخطط وأن تراجع فيها حسابات الربح والخسارة، وتعد الإجراءات التصحيحية التي تقويها وتتصدى لأوجه الضعف التي يمكن أن تبرز أثناء محاربة الفساد. 2- فشلنا حتى بعد مرور ما يقارب نصف الفترة الانتقالية من إقامة الآلية المباشرة التي حددتها الوثيقة الدستورية لتعقب الفساد المؤسسي ومواجهته وهي مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة. وكان يمكن لهذه المفوضية أن تلعب دوراً مؤثراً وضع أسس مكافحة الفساد للجهاز الحكومي وتنشئ جذراً يقوم عليه مكافحة الفساد في المستقبل، لكن أمرها قد استسهل ولم تعد تمثل هماً رغم النص عليها في الوثيقة الدستورية. ورغم الجهود التي تبذلها لجنة إزالة التمكين إلا أنها جهود قاصرة، لعدم وجود الحاضنة العدلية التي تقيس عدالة أعمالها من جانب ولأنها مقتصرة على الفساد الذي نشأ خلال فترة الإنقاذ من جانب آخر. 3- لا تزال وسائل الرقابة على الأداء الحكومي أمراً بعيد المنال، فالمجلس التشريعي باعتباره صاحب الحق الأصيل في الرقابة البرلمانية ومساءلة الوزراء والحكومة على أعمالها وتعقب الهشاشة في الأداء الحكومي ومعالجتها، لم يتم تشكيله، مما جعل الحكومة والمسؤولين الحكوميين يشعرون بالحرية من قيود المساءلة. وفي ذات الأوان فإن المحكمة الدستورية التي تقوم بالرقابة الدستورية على الأداء الحكومي فكرة في رحم الغيب. ولا يمكن كبح الفساد أو التصدي له دون الأجهزة الرقابية الشعبية والعدلية. أعتقد أن المعركة في سبيل اجتثاث الفساد والتضييق عليه في حاجة لجهود أخرى حتى تؤتي أكلها، وتؤسس لعمل مستدام وناجع في سبيل تنقية العمل الحكومي وخدمات القطاع الخاص. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.