وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة ومشروع النهوض الاِسلامي العربي .. بقلم: حامد فضل الله / برلين
نشر في سودانيل يوم 30 - 01 - 2021

أقدم هنا مداخلتي في ندوة "الملتقى العربي للفكر والحوار"، بالعنوان أعلاه، بتاريخ 26 يناير 2021
في العربية نقول: الحداثة، التحديث، المعاصرة، التقدم، التمدن، الأنوار، التنوير، النهضة. الطليعية، وفي الألمانية نجد
Die Moderne, Die Modernität. Der Modernismus. Der Avantgardismus, Die Aufklärung.
ليست هذه مترادفات تماماً، ولكن تستخدم من قبل كثير من الباحثين لتؤدي في الغالب الى نفس المعنى..
ما هو مفهوم الحداثة، أي خطاب الحداثة، أو مشروع الحداثة. وهل هناك فرق بين الحداثة والتحديث؟
تعريف الحداثة هنا، باختصار شديد، هي عملية انتشار المنتجات العقلية والعلمية والتكنولوجية وهي بالتالي حالة رفض للتصورات القديمة التي تقوم على أساس ديني طوباوي وتمثل في الوقت ذاته حالة قطيعة مع الغائية الدينية التقليدية، إنها انتصار للعقل في مختلف مجالات الحياة والوجود، في مجال العلم والحياة الاجتماعية، وغاية الحداثة هي بناء مجتمع عقلاني يحكمه العقل وتسوده العقلانية وهى وجود حالة رفض لجميع العقائد والتصورات وأشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تستند إلى أسس عقلية أو علمية.. فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة، و ألغت فكرة الذات وفكرة الله المرتبطة بها، فأنصار الحداثة يقولون، لا المجتمع ولا التاريخ ولا الحياة الفردية تخضع لإرادة كائن أسمى يجب الاِذعان اليه، أو يمكن التأثير عليه. الفرد لا يخضع الا لقوانين طبيعية..
أن صعوبة فهم الحداثة الغربية يعود أولا إلى أنها ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا، بل إنها نمط لحضارة ذات طابع مميز، تقف في مواجهة النمط الثقافي السائد.
إنها تتداخل في كل المجالات: الدولة الحديثة، والتقنية الحديثة، والأدب والفن التشكيلي الحديث، والعادات والأفكار الحديثة. إضافة إلى أنها متحركة في الزمان والمكان إذ ليست مستقرة وليست رد فعل، وثانيا لأنها ليست أداة للتحليل. فليست ثمة قوانين للحداثة، فهناك فقط سمات عامة للحداثة وثالثا لأنه ليس هناك نظرية للحداثة،، ولكن هناك منطق للحداثة وعلم أخلاق للتغيير في مقابل أخلاق التقليد.
يجيب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت عن سؤال: ما هو التنوير؟
Was ist Aufklärung? 1784
يقول كانت: " التنوير هو خروج الاِنسان من قصوره الذي أقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان أخر, ويجلب الاِنسان على نفسه ذنب ذلك القصور، عندما لا يكون السبب فيه الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان أخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير.
، يمكن القول بأن الحداثة مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما: فكرة الثورة ضد التقليد، وفكرة مركزية العقل.
أما التحديث:
هو التطور في مستويات الإنتاج والاستهلاك وفي البنية التحتية والتزام بالنمو الاقتصادي المدعم بالتكنولوجيا، وتوظيف ذلك في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فالتحديث يعني مظاهر الحداثة.
ما هو تاريخ الحداثة، متى بدأت؟
هناك اختلاف في تحديد المرحلة التاريخية التي بدأت فيها الحداثة.. ويرى بعض المؤرخين أنها بدأت مع اكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولمبس، أو مع الأحداث التاريخية الكبرى، التي تمثلت بادئ بدء في اكتشاف جاليلو لمركزية الشمس، وسقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين عام 1453. أو في حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي قادها مارتن لوثر في فتنبرج عام 1517. ومن ثم بدا هذا المفهوم يأخذ أبعاده الفلسفية والسياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث تتجلى خصائصه في ازدهار حضارة جديدة وفي ولادة التفكير الفردي والعقلاني.
النقد الغربي للحداثة
لقد تعرضت الحداثة للنقد وخاصة من فكر ما بعد الحداثة، بالرغم من عدم اتفاق واضح للمفكرين لتعريف واحد لمصطلح ما بعد الحداثة، التي تمثل حركة فكرية تقوم على نقد، وبل رفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة.
تقول فلسفة ما بعد الحداثة: بأن الحداثة تعلي من شأن العقل وترى فيه مصدر كل تقدم ومعرفة. الفكر ما بعد الحداثي لا ينكر مبادئ فلسفة التنوير، و عصر الحداثة، التي ساعدت على قيام الثورة الديمقراطية وزوال عهد الاقطاع وقيام نظام الاجتماعي الذي يؤمن بالعدل والمساواة. ولكن في عين الوقت استطاعت النزعة العقلانية في الحداثة أن تقتحم بوابات الجوانب الذاتية في الإنسان وأن تقوض حصون الروح الإنسانية بكل ما تنطوي عليه هذه الروح من مشاعر وأحاسيس وحدوس وقيم ذاتية. . لقد تحول الإنسان إلى موضوع للمعرفة العلمية وترتب عليه أن يخضع لمقتضيات النزعة العقلانية وأن يتخلى عن عناصر الخصوصية التي تتميز بها الروح الفردية لديه.
إن نقد الحداثة يريد ان يخلصها من التراث التاريخي الذي اختزلها في العقلنة ويدخل اليها فكرة الذات الشخصية وتحقيق الذات. العمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع، بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيقية.
في الواقع، جاء النقد ما بعد حداثي من الفلسفة الفرنسية، التي يمثلها ميشيل فوكو، جاك دريدا وفرانسوا ليوتارد وجان بوديار. يتكلم ميشيل فوكو عن القطيعة المعرفية: كل عصر معرفي جديد يزيح العصر المعرفي السابق. ففي مرحلة سابقة حدثت قطيعة معرفية، تمت فيها إزاحة المقدس من مركز الوجود ليحل محله العلم والعقلانية، فهو يحاول أن يهدم هذه العقلانية، واما دريدا يعمل على تفكيكها، بالإضافة إلى التيارات التي أفرزتها الثورة التقنية الجديدة في وسائل الاتصال والمعلومات. في الواقع يتبنى كل من فوكو ودريدا المنهج أو الفلسفة البنيوية أو ما بعد البنيوية والتفكيك، التي اعتمدت التحليل اللغوي للنص مدخلا أساسيا للتعامل مع الاِبداع الأدبي . وهذا لا نخوض فيه الآن.
لقد تصدى الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس لتيار ما بعد الحداثة، لكن دعونا أن نتعرض اولاً للمدرسة الفكرية التي يمثلها، وهي مدرسة فرانكفورت النقدية، التي تعرضت لنقد الحداثة والتنوير منذ تكوينها في خمسينيات القرن السابق. فالجيل الأول بقيادة ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو ثم هيربرت ماركوزا، وعالم النفس أريش فروم، قدموا نقدهم للحداثة والتنوير بالإشارة الى الجشع وتغذية النزعة الفردانية الضيقة، ومظاهر التسليع والاستلاب والبيروقراطية والأداتية، بسبب تضخم وانفجار التقنية، التي تصبح أكثر اهمية وأكثر سلطة على الاِنسان، فتحول الاِنسان نتيجة الحضارة المادية إلى أداة وشيء أي التشيوء، وقاموا بنقد الماركسية في صورتها السوفيتية. أن التسلط الكامل على الطبيعة والاِنسان، تولد عنه النظم الشمولية والتسلطية، كالنازية والفاشية والستالينية الشيوعية، وبذلك دمر العقل نفسه وفشل مشروع الحداثة وانتهى الى البربرية. وأصبح العلم دين العصر الجديد. ويدعون العودة لقراءة كارل ماركس من جديد. ونذكر هنا كتاب هوركهايمر وأدورنو:
جدل التنوير
Max Horkheimer und Theodor Adorno, Die Dialektik der Aufklärung
Herbert Marcuse وكتابي هيربرت ماركيوزا،
, Der eindimensionale Mensch, ،الاِنسان ذو البعد الواحد Vernunft und Revolution, العقل الثورة
اما هابرماس وهو يمثل الجيل الثاني من المدرسة، ، فدافع عن العقل ، تحت نظريته العقلانية التواصلية، وعن الحداثة وبين مكاسبها وأزماتها، أي ما يمكن الاحتفاظ به وما يمكن تجاوزه ودافع عن الذاتية للحفاظ على استقلال الذات وانقاذها من الضياع، كما جاء ذلك في كتابه الهام "الخطاب الفلسفي للحداثة" وفي كتابه الأخر الهام أيضا بعنوان (الحداثة مشروع لم يكتمل)، يتناول فيه بالنقد لكثير من الفلاسفة مثل ليوتار، ميشيل فوكو، ودريدا وهايدجر، ورده على كتاب فرانسوا ليوتارد بعنوان "وضع ما بعد الحداثة".
- Jürgen Habermas, der philosophische Diskurs der Moderne الخطاب الفلسفي للحداثة،
Jürgen Habermas, die Moderne – ein unvollendetes Projekt الحداثة مشروع لم يكتمل ،
أكسل هونيت يمثل الجيل الثالث من المدرسة وتلميذ هابرماس ويعارض نظريته التواصلية، ويقدم نظريته النقدية الجديدة : الحب و الاعتراف والتضامن، كلمات لا تحتاج الى تفسير لوضوحها، فهي تساهم: في تشخيص مختلف أشكال الظلم أو الاحتقار الاجتماعي التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، مما يسمح بتأسيس معايير أخلاقية يحصل من خلالها الأفراد على الاعتراف.
يقول ناعوم تشومسكي أن الاعتقاد الديني والاِيمان بالغيبيات الدينية لا يودي بالضرورة إلى موقف معاد للعلم، إن الاعتقاد الديني لا يحول العالم إلى جاهل، كما أن رفض الدين لا يجعل من الجاهل عالماً.
العالم أسحق نيوتن والفيلسوف ايمانويل كانت كانا متديين. نيوتن لم يلجأ في إثبات نظرياته العلمية إلى أساليب تتعارض مع العلم، ولكم ستالين غير المؤمن كان يسمح لنفسه بتزييف التاريخ لإعلاء شان نظريته التي كان يعتقد أنها علمية.
أتعرض الآن إلى الفقرة الثانية من المداخلة .
تعرضت في أوائل القرن العشرين معظم دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى تأثير غربي واسع تحت الاحتلال وبعد التحرر أيضاً، أما الدول القليلة التي لم تحتل مثل الصين واليابان وإيران فكانت تشعر بأنها مهددة ثقافيا واقتصادياً وعسكرياً من قبل القوى الغربية أيضاً. فقد صدمتهم جميعا القوة الهائلة للغرب. ولكننا نركز هنا على منطقة الشرق الأوسط فقط، وعن كيفية استجابتها للحداثة الغربية..
ونعرض باقتضاب:
الحداثة والاصلاح الديني، الحداثة والاصلاح السياسي (أي الليبرالية السياسية)، الحداثة والاصلاح الفكري والفلسفي (أي العقلانية العلمية)، والاصلاح الثقافي والأدبي والفني.
كانتْ في البلدان العربية، قبل وبعد سقوط السلطنة العثمانية، نوع من الحداثة الجنينية ، فجاء الاستعمار والغزو الفرنسي على مصر على إجهاضها، المقصود هنا حركة الاِصلاح الديني بقيادة جما الدين الافغاني.
تحديداً نحو العام 1880 ، بدأ يرتسم التيار الاِصلاحي السياسي الديني، مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. موقف واضح ضد محاولة التقليل من قيمة الدين الاِسلامي، ويؤسس لروية اصلاحية متعارضة مع منطق التنوير الغربي. وتقبل الأفغاني مبدأ الفصل بين السلطتين : الزمنية والروحية. . ويرى أن الحضارة الغربية حضارة جشع وحروب، ولا يمكن يكون التقدم الحقيقي إلا تقدما إنسانياً، وأخلاقياً وذا قاعدة روحية. وهو لا يرفض الحضارة الحديثة ويراها لا تتعارض مع الدين، وهذا ما قام به تلميذه المصري محمد عبده: تطهير الاِسلام، والعودة الى الماضي المبكر التقي. ونقده للسلطة الدينية وأن النظام السياسي مدني في الاِسلام. وبإمكانية التوفيق بين الاِسلام ومتغيرات العصر ولكن المفارقة تتعلق بموقفه المعارض لتلميذه فرح أنطون الذي كان له موقف واضح في موضوع العلمانية وفلسفة أبن رشد. أما العودة الكثيفة إلى الماضي واستعادة خطاب الأصولية والسلفية، جاءت من أكبر تلاميذه وخليفته وهو الشيخ محمد رشيد رضا (لبنان) لتمتد بجلاء بعد ذلك، إلى فكر الشيخ حسن البنا وجماعة الاِخوان المسلمين.
ولكن في نفس الوقت ظهور نموذج غير ديني تقليدي، مواكبا حركة الدولة الحديثة، ونشير هنا إلى عالمين مستنيرين، الذين ارتبطا بتأسيس الدولة المدنية، ومحاولتهما التوفيق بين المرجعتين الاِسلامية والنهضوية الأوروبية ونقد التقليد والبدع. وهما رفاعة رافع الطهطاوي (1801 1873 )، وعبد الرحمن الكواكبي ( حلب 1848 1902 ). وجهودهما في نشر التربية السياسية و في التعليم والترجمة. وفي هذا الصدد، خير الدين التونسي وكذلك الشيخ علي عبد الرازق وكتابه الهام "الاِسلام وأصول الحكم 1925". والرد فيه على الداعين على إحياء مؤسسة الخلافة (الخلفية" الملك فؤاد كان يريد أن يصبح خليفة للمسلمين بعد ما تم الغاء الخلافة من كمال اتاتورك 1924، بعد سقوط السلطنة العثمانية) ، والتمييز بين الديني والسياسي ونقده الموجه إلى الفكرة الثيوقراطية عن السلطة والدولة، ومسألة الصلة بين السياسي والديني في الاِسلام. ونشير الى طه حسين وكتاباته الخاصة المكرسة للدفاع عن الحداثة في وجه التقليد، مثل كتابه الهام "مستقبل الثقافة في مصر" وهو مشروع تربوي شامل ، واحتذاء المثال الأوروبي في مجال الحداثة، فيقول "ليس صحيحاً أن السير في المثال الليبرالي الحديث لا يقود إلا إلى فقدان الاستقلال والشخصية الوطنية ... لا معنى لمناهضة الحداثة سوى إطالة أمد التأخر والتخلف عن ركب الحضارة الاِسلامية". وكذلك كتابه الاِشكالي "في الشعر الجاهلي"، وشجاعته في نشر هذا الكتاب.
وفي مجال الليبرالية السياسية نذكر مثال أحمد لطفي السيد (مصر) ودفاعه الشديد على مسألة الحرية ومركزيتها في المجتمع والفكر، وعن الدستور وتجاوز الاستبداد ولطفي السيد اشد انفتاحا على الفكر الأوروبي الحديث.
ونشير الى محمد علي باشا وتجربته في الاصلاح والبناء والى الفكر القومي في صيغته الناصرية أو البعثية، صحيح كان هناك تقدم في مجال التحديث لا الحداثة، ولكن أنتهى هذا الفكر الى دولة تسلطية بعيدة عن أمال وأحلام مواطنيها في الحرية والديمقراطية وحقوق الاِنسان وحقوق المرأة والمواطنة.
وفي مجال الاصلاح الفكري والفلسفي أي ( العقلانية العلمية) فنقدم بإيجاز بعض المفكرين، وابحاثهم في علاقة الاِسلام بالغرب ، والبحث عن كيفية وتجاوز التأخر التاريخي العربي وبناء مشروع الحداثة العربية وتحقيق النهضة العربية الشاملة. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، عبد الله العروي(المغرب) وخطابه، دفاع عن الحداثة والتحديث ودعوة العرب إلى التعلم من مكاسب الفكر الغربي المعاصر، ويقول أن معركتنا السياسية مع الغرب لا ينبغي أن تجعلنا نغفل المشروع الحضاري الغربي في كليته وشموله ومنجزاته المادية والرمزية، ودفاعه عن ضرورة التصالح مع الذات ومع العالم، منطلقاً من فكرة عالمية الحضارة وداعياً إلى تضمين التاريخ العربي الاِسلامي داخل التاريخ العالمي، مما يتعارض مع موقف دعاة الخصوصية الثقافية.
ثم نشير الى مشروع المفكرين محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي) ومحمد أركون (نقد العقل الاِسلامي)، وكلاهما يستلهم مقدمات ومفاهيم وفرضيات العلوم الاِنسانية. فالجابري يبحث في التراث، ولكن ليس بالأسلوب تقليدي، وانما بهدف إنجاز مشروع في الحداثة الفكرية في الوطن العربي، أي مشروع لا يقطع تماما ولا كلية مع تراث الماضي. مما يضعه في مجال الموقف التوفيقي. أما أبحاث أركون وخاصة في مجال الاِسلاميات التطبيقية، فهو يخضع القرآن الكريم لمعيار النقد التاريخي المقارن وللتحليل اللساني والسيميائي وللتأويل الفلسفي، المرتبط بإنتاج المعنى وإعادة إنتاجه. وقد ترتب على أعماله فهم جديد لكثير من الظواهر الموصولة بالظاهرة الاِسلامية. حسن حنفي باحث غزير الانتاج، و باحثا في التراث الاِسلامي العربي بعمق، من أجل التنوير ويطلق على مشروعه (التراث والتجديد) أو اليسار الاِسلامي، لا أدري ماذا تعني "اليسار الإسلامي"، وهل اطلقها على نفسه أو جاءت من ناقديه؟ وهو توفيقي مثل الجابري، مع الاختلاف في طريقة تصديهما لقضية التراث، كما هنا أشاره الى كتابه "مقدمة في علم الاستغراب"، وهو يريد بذلك، إذا كان علم الاستشراق هو رؤية الشرق من خلال الغرب، لماذا لا نقوم نحن بالعكس، ونقوم بدراسة الغرب. لا يمكن أنكار، بأن هناك أهداف استعمارية وراء الاستشراق، وفي عين الوقت قام المستشرقون بالكشف وتحقيق النصوص في مختلف المجالات وهذا مكسب كبير، والاستشراق الآن يختلف عن صورته الكلاسيكية نتيجة لتطور العلوم الاجتماعية والمنهجيات الجديدة، وما بعد الحداثة، فالاستشراق الألماني على سبيل المثال، ، ينضم الى علم التاريخ، او الأنثروبولوجيا او علم الاجتماع ... والآن توجد في الجامعات الألمانية العديد من المعاهد، التي تعني بالدراسات الاِسلامية والعربية. لم تجد في الواقع دعوته أو هذا المفهوم استجابة من غالبية الباحثين. ويقول محمود أمين العالم، "بأن كتاب حنفي، يكاد يكون عرضا محايدا دون تحليل أو تقييم أو دراسة نقدية، كما كنا نتوقع". لقد استقبلنا هؤلاء الأساتذة الأفاضل، الجابري، أركون وحنفي أكثر من مرة في برلين. هناك الكثير من المفكرين الأخرين لا يمكن ذكره جميعا، مثل شبلي شميل وسلامة موسى ...إلخ، التزاما بالوقت المحدد للمداخلة، وربما نتعرض لهم أثناء المناقشة. والخلاصة: إن الهدف الأساس لهؤلاء المفكرين الاِسلاميين، هو إبراز كيف يمكن للمسلمين أن يمتلكوا ماضيهم دون أن يسجنوا أنفسهم بداخله.
الحداثة في الأدب والفن. حداثة الشعر نازك الملائكة، السياب البياتي، يوسف الخال ، أدونيس محمود درويش، سميح القاسم صلاح عبد الصبور حجازي في الرواية نجيب محفوظ الياس خوري وأخرين ... هل وأكب النقد الأدبي العربي الحداثة؟ يقول سيد البحراوي في كتابه "البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث" ،مشيرا الى واقع الثقافة المصرية، لم يعد هناك مشروع ثقافي حتى للتبعية. ويكتب عبد العزيز حمودة " لم تكن الثقافة العربية إذن، مُفلسة، ولم يكمن العقل العربي، قط، متخلفا. كل ما حدث أننا في انبهارنا بإنجازات العقل الغربي وضعنا إنجازات البلاغة العربية أمام مرايا معقرة صْغرت من حجمها وقللت من شأنها". وأنا أتساءل: هل معني ذلك، أن النقد العربي لم يواكب الحداثة، بمعني عدم تقديم نظرية نقدية عربية تضاف الى تراثنا النقدي؟ هذا ما لا استطيع الرد عليه.
ونجمل هذه الفقرة" في عقلانية إصلاحية إسلامية، وعقلانية ليبرالية سياسية ، وعقلانية توفيقية وعقلانية نقدية.
أصل الى نهاية مداخلتي:
كيف نصل الى الحداثة والتحديث، علي عبد الرازق يفصل من القضاء الشرعي، الكواكبي يموت مسموماً على أيدي عملاء السلطان عبد الحميد. طه حسين يطرد من جامعة القاهرة، نصر حامد أبوزيد يكفر بسبب كتابه( مفهوم النص)، نجيب محفوظ يتعرض للطعن بسبب روايته أولاد حارتنا التي يناقش فيها قضية العلم والايمان، الطهطاوي ينتقد ويعارض الباشا محمد علي، ويتم ابعاده ونفيه الى السودان، نزار قباني يهاجم لأشعاره الوطنية ومحمود درويش في رائعته أحد عشر كوكبا، بسبب العنوان الذي يشير إلى رؤيا النبي يُوسف عليه السلام. محمود محمد طه المجدد السوداني الاِسلامي يعدم في السودان، على يد الجلاد النميري. واغتيال الكاتب المصري فرج فودة، قتل بالرصاص في احدى شوارع القاهرة الكبيرة المكتظة بالمارة، وتخرج المظاهرات من جامعة الأزهر الشريف تندد بالكاتب السوري حيد حيدر وروايته "وليمة لأعشاب البحر"، وتُمنع كتب أدوارد سعيد في فلسطين، وتحرق كتب أبن رشد، وتستقبلها أوروبا بشغف وترحاب. صادق جلال العظم وكتابه بعد هزيمة 1967 ، وتهديد سيد القمني بالقتل وإهدار دمه. والقائمة تطول وتطول.
لا شك جَمَعَ مشروع الحداثة الغربية بين الهيمنة و المصالح الأوروبية. ولكن في عين الوقت أعلى من شأن كل ما هو عقلاني وإنساني وتاريخي. لقد انخرطنا من أجل تملك مقدمات وأصول الحداثة الغربية المعاصرة، وهذا ما ساهم فيه الكثير من مفكرينا وباحثينا، كما أننا لم يعد بإمكاننا أن نتنكر اليوم لمكاسب ومنجزات هذه الحداثة وقيمها، وهي كونية، وليست مقصورة على أوروبا أو الغرب. ولكن أين الخلل ونحن نعيش الآن حالة الدمار الكامل في العالم الاِسلامي والعربي، وأين الحل؟
حاشية:
أول التجديد قتل القديم فهماً (الشيخ الأمين الخولي).
لماذا لا نعتبر العهد العباسي عهد حداثة وأن شعر أبي تمام وأبي نواس شعر حداثي؟
وقول الشاعر الحداثي القديم، أبي تمام:
فنفسك قط، أصلحها ودعني من قديم أب
في كتاب (في الشعر الجاهلي) يفرق طه حسين بطريقة حاسمة بين العلم والأيديولوجيا. وهو يتخذ في بحثة مبدأ الشك. يقول طه حسين: "سبيل الباحث المحقق، إن انتهى من درسه إلى حق أو شيء يشبه الحق، أثبته محتفظا بكل ما ينبغي أن يحتفظ به من الشك الذي يحمله على، أن يغير رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد".
بيت شعر لحافظ إبراهيم في إحدى قصائده، اشارة إلى مبدأ الشك
هل أتاك اليقين من طرق الشك فشكُ الحكيم بدء الصواب
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.