واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي" .. بقلم: أ.د. أحمد محمد احمد الجلي
نشر في سودانيل يوم 02 - 03 - 2021


بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة في كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي"
المؤلف: الدكتور / محمد مختار الشنقيطي (1/3)
بقلم: أ.د. أحمد محمد احمد الجلي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هذه محاولة لعرض كتاب " الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي"، للدكتور /محمد مختار الشنقيطي. على أمل مشاركة القراء في الإطلاع على ما ورد فيه من أفكار وآراء، أحسب أنَّها تستحق الإهتمام والمناقشة، وتبادل الآراء، وإجراء الحوار حولها.
ومؤلف الكتاب هو : الدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمَد بن خليفة في قطر.حاصل على شهادة الدكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأميركية، عن "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السُّنِّية الشيعية"، وينصبُّ اهتمامه الأكاديمي على الفكر السياسي الإسلامي، والإصلاح الديني، والطائفية في المجتمعات المسلمة.وله العديد من الكتب والمقالات العلمية،والمشاركات السياسية والثقافية في عدد من المنابر والقنوات.
أما الكتاب فهو-كما يقول مؤلفه-" دراسة عن أزمة الشرعية السياسية في الحضارة الإسلامية، تعتمد النصَّ الإسلاميَّ معياراً، والتجربةَ التاريخية الإسلامية موضوعاً، وخروجَ المسلمين من أزمتهم السياسية غايةً. والمقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، تلك المفارقة بين المبدأ السياسي الإسلامي، والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسياً، ولا يزالون يعانون تبعاته حتى اليوم، ثم ما نتج عن تلك المفارقة من صراعات سياسية مريرة في تاريخ الحضارة الإسلامية منذ منتصف القرن الأول الهجري إلى اليوم.
أما أهمية الكتاب، فقد عبر عنها الأستاذ راشد الغنوشي في مقدمته للكتاب ، حيث قال: "لقد فتح كتاب الأزمة الدستوربة في الحضارة الإسلامية، افاقاً رحبة أمام المسلمين ليعيشوا في إنسجام مع عصرهم، فاعلين متفاعلين-أخذاً وعطاءً -مع منجزات الحضارة دون استخذاء ولا إستعلاء زائف،فكان الكتاب ساحة حوار في عزة متواضعة،لا ساحة قتال مع الآخر." ( الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية:ص:15).
والكتاب يقع في حوالي 607 صفحة ، ويتألف من مقدمة ومدخل تمهيدي، وثلاثة أقسام، يشتمل كل منها على فصلين، ثم خاتمة. مع ثبت بالمراجع التي لاتقل عن 400 مرجع ، جلها بالعربية ،مع بعض المراجع باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
وفي مقدمة الكتاب تناول المؤلف ما أطلق عليه :" "سيف الإمامة المسلول" على رقاب المسلمين اشارة الى الخلاف السياسي خلال التاريخ الإسلامي، وانتهى بخاتمة ،عنون لها "إغماد سيف الإمامة"، على أمل أن يغمد ذلك السيف وينتهي الصراع السياسي الدامي إذا أحسن المسلمون اقتناص اللحظة التاريخية الحالية، وذلك بتشخيص الداء، وتوصيف الدواء. (الأزمة الدستورية :ص: 17-18) .وتعبير "سيف الإمامة" المسلول "، مستمَدٌّ من قول الشهرستاني، صاحب كتاب الملل والنحل : "وأعظمُ خلافٍ بين الأمة خلافُ الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان).ومضى المؤلف في المقدمة لتقديم التعاريف الضرورية للمفاهيم الأساسية المشار إليها في عنوان الدراسة، وشرَحَ طبيعة الدراسة ومداها وغايتها، والمنهج المتَّبَع فيها، وإسهامَها المرجو في فهم المسألة السياسية الإسلامية، وبياناً للنموذج التفسيري السائد فيها.
وبعد هذه المقدمة قدَّم المؤلف مدخلاً للكتاب بعنوان : "إمكانٌ يأبى النسيان" مؤكداً أن المبدأ السياسي الإسلامي -مبدأ "التأمُّر في الأمير" أو تحكُّم الأمة في حكامها- ظل إمكاناً يأبى النسيان في مسار الحضارة الإسلامية،ومن ثم عنون المدخل به. فالضمير المسلم -في شِقِّه الفقهي والحديثيِّ على الأقل- لم يستسلم للاستبداد استسلاماً أخلاقياً، وإنما قَبِله على مضض قبولاً عمَلياً اضطرارياًّ، فرَضَه تزاحُم القيم في ظروف تاريخية غيرِ مواتية. ولذلك ظلت نوازع العودة إلى القيم السياسية الإسلامية التي نص عليها القرآن والسنة، وجسَّدتها دولة النبوة والخلافة الراشدة، حيَّةً في حنايا ذلك الضمير المسلم إلى اليوم ( ص:18-19)،وهذه احدي القضايا التي سعى الكتاب الى بيانها.
وتحت عنون فرعي لمدخل الكتاب : " على اكتاف العمالقة" ، كشف المؤلف عن جملة من الشخصيات التي يدين لها بالعرفان :من العلماء المسلمين الأقدمين: مفسرين، ومحدثين، وفقهاء، وأدباء وغيرهم، الى جانب عدد من العلماء والمفكرين المعاصرين، مسلمين وغرييين، ومن بين هؤلاء المعاصرين، "محمد إقبال، ومالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري، وأبو يعرب المرزوقي، ورضوان السيد، وعبد الجواد ياسين، وجورج فريدريك، ,هيجل، وأوسفالد شبينغلر، وجوهان هويزينغا، وفرانسيس فوكاياما" ( ص: 52 -54" )، وقد أسهب في شرح تلك المفاهيم التي استعارها من أولئك الكتاب والفلاسفة والباحثين السابقين، واتخذها أدواتٍ تفسيرية مُساندة لنموذجه التفسيري الأساسي، أملاً في تحقيق ما يصبو إليه من شرح المفارقة القائمة بين النص السياسي الإسلامي والواقع السياسي الإسلامي. ومن تلك المقولات مفهوم "الإمكان التاريخي" عند هيجل، ومفهوم "التشكل الكاذب" عند شبنغلر، وملاحظة محمد إقبال ببقاء القيم السياسية الإسلامية "أجنة"، بسبب سرعة الفتوح الإسلامية، وتَمْيِيزْ أبو يعرب المرزقي بين "الإسلام التاريخي والإسلام المفهومي"، وملاحظات الجابري حول "القيم الكسروية" و"القيم الساسانية" ،ودورها في "تخليد" الأزمة السياسية الإسلامية"، وخواطر مالك بن نبي حول "تكيُّف القيم السياسية الإسلامية مع الدولة القهرية في التاريخ الإسلامي"، ونظرية "الأفكار المرهقة" عند الفيلسوف الهولندي جوهان هويزينغا، ورؤى صامويل هانتغتون وفرانسيس فوكياما حول "التطور المؤسسي للظاهرة السياسية( ص: 52-53) .
الى جانب المقدمة والمدخل ،يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام يشتمل كل منها على فصلين. يتحدث القسم الأول: الذي اطلق عليه: : التأمر في الأمير، عن النص السياسي الإسلامي او أمهات القيم السياسية. أما القسم الثاني الذي اطلق عليه: التأمر عن غير إمرة: أعباء الزمان والمكان، فيتحدث عن التاريخ السياسي الإسلامي ، أما القسم الثالث الذي اطلق عليه (الخروج من فقه الضرورات: إمكان الزمان الجديد.) فيحاول أن يتلمُّس من خلاله سبيلاً للخروج من الأزمة السياسية الإسلامية. والتعبيران الأول والثاني مُستمَدَّان من نصوص السُنَّة النبوية. فالأول مأخوذ من ؛حوار جرى بين جرير بن عبد الله: "،وبين ذي عمرو احد حكماء اليمن الذين أسلموا ،وفيه قال ذي عمرو لجرير، حينما سمع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم " إنكم معشرَ العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمَّرتم في آخر" (صحيح البخاري)،أي تشاروتم في آخر أوتحكمتم فيه. والثاني مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم،عن غزوة مؤتة "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح عليه " (صحيح البخاري(
و يجمل القسم الأول -بفصليه الأول والثاني- القيم السياسية الإسلامية في صيغتها النصية المعيارية، ويسعى للكشف عن دلالاتها الأخلاقية والقانونية المباشرة، ومعانيها المجرَّدة من غواشي التاريخ، وذلك بتحرير معناها الأصلي في القرآن والسُنَّة، ثم في إجماع الصحابة خلال الحقبة الراشدة، قبل التلبس بالمواريث الإمبراطورية السابقة على الإسلام. وقد صنَّفت القيم السياسية الإسلامية صنفين: "قيم البناء السياسي": وهي تتمثل في "المعنى الفلسفي والأخلاقي للاجتماع الإنساني من منظور إسلامي، ثم المبادئ والأحكام السياسية الكبرى السابقة على وجود السلطة أو المواكبة له"، وقيم الأداء السياسي وهي تركز أساساً "على صناعة القرار وعلاقة الحاكم بالمحكوم، بعد تأسيس السلطة السياسية" (ص: 19).
قيم البناء السياسي : بين يدي الحديث عن هذه القيم، نبه المؤلف إلى أن أهم ما يميز الفلسفة النظرية للقيم السياسية الإسلامية:هدم الوثنية السياسية المتمثلة في إضفاء قداسة على الحكام، مؤكدا أن نبذ الوثنية السياسية "لا يكتمل إلا بتحويل الشأن السياسي شورى بين الناس، على قاعدة المساواة والتراضي والتعاقد. فنظام الشورى الإسلامي يسد الباب أمام أي طغيان سياسي، فضلاً عن تأله الحكام وادعائهم الربوبية" (ص: 115).
وبعد ان استعرض المؤلف آراء بعض العلماء في عدد تلك القيم وأيُّها أهم ، حصرها في ست عشرة قيمة هي: "الشورى، والعدل، والمساواة، والحرية، والطاعة، والأخوة، والبيعة، والوحدة، والمسؤولية، والمحاسبة، وسيادة الشرع، وسيادة الأمة، والحقوق السياسية، والتكافل الاجتماعي، والتكامل بين الشؤون الدينية والدنيوية، والاستعانة بالأقوياء الأمناء.( ص"106)، واعتبر الكاتب أن أم القيم السياسية في بناء السلطة،هي الشورى، لانها تضمن أن يكونَ الحكم تابعًا لإرادة المحكومين، وتجعل الشرعية السياسة بيد الشعب، وهذا ما يضمن البناء على أساس أخلاقي.
ثم بدأ في تفصيل هذه القيم مشيراً إلى استخلاف الإنسان وتكريم الله له ، مؤكداً على أنَّ الإسلام هدم الوثنية السياسية ورسخ المساواة، فلم يجعل الحكم في فئة محددة ،أو عائلة معينة، أو طبقة خاصة أبدا، او ينفرد به شخص ما ،وانما جعل الأمة هي الحاكمة ومصدر الشرعية السياسية،وهذا في مقابل الحكم الاستبدادي،والذي يشير اليه بالطغيان الفرعوني، أو الهرمية الفرعونية ،التي تتألف من خمسة عناصر،كما ورد في قصة فرعون في القرآن الكريم: يقف على قمة الهرم فيها الفرعون ،الذي بلغ به التعالي والاستبداد، أن ادعى الربوبية ،ثم يكون أسفل منه هامان الذي يمثل النخبة السياسية التي عن طريقها يستعبد الفرعون الناس ,ويستعلي عليهم ،ويليه قارون ،الذي يمثل النخبة المالية التي تعتاش على الإستبداد والفساد ،وتمثل الهامانية والقارونية ،ملأ فرعون المشاركين له في ظلمه المستفيدين من ثمرات حكمه, ويلي هاتين الطبقتين ،السحرة الذين يمثلون النخبة الثقافية والمعنوية المكونة من فقراء الضمائر، الذين يسيرون في ركاب الفرعون، ويسَّوِقُون له حكمه، ويلي هؤلاء طبقة الجند ويمثلون القوة العسكرية التي يبطش بها الفرعون حين يلجأ الى الإكراه ،بعد عجزه عن الإقناع. وفي قاع الهرم يكون عامة الشعب من المستضعفين المظلومين، الذين يستعبدهم الفرعون,وهذا تموذج لكل نظام استبدادي بصرف النظر عن المسميات والعصور، كما يقول الكاتب بحق. وقد جاء الإسلام لهدم هذه الهرمية الفرعونية، وقلب الهرم السلطوي رأساً على عقب، فجعل قاعدته فوق قمته ،وذلك بجعل المنصب السياسي الأعلى بيد الأمة، تستأمن عليه من تشاء ،وتنزعه عن من تشاء : وهذا يعني أنَّ الإسلام قلب النظام الذي كان سائداً في الإمبراطوريات، من تحكم الرؤساء والمتنفذين والنخب السياسية والمالية في مصائر الشعوب، وجعل الشعب هو مصدر الشرعية السياسية وهو صاحب السلطة والسيادة، والحاكم مجرد أجير عنده" ( انظر: ص:18-20 ).
ومن بين القيم السياسية الإسلامية- التي ركز عليها الكاتب- القول بوجوب السلطة السياسية وضرورة اقامتها ،وأرود الكاتب النصوص من القرآن والسُنًّة، التي توجب إقامة نظام سياسي للجماعة،اضافة الى الإستدلال باجماع الصحابة ،وبين أن النصوص الدالة على وجوب اقامة سلطة سياسية للجماعة تتضمن الأمر الصريح او الفعل الصريح ،بوجوب اقامة جماعة سياسية ذات سلطة مطاعة ،والأحاديث الواردة في التعاطي مع الجماعة المسلمة القائمة,والآمرة بلزوم جماعتهم وامامهم،وطاعة السلطة المركزية ونصحها،والواردة في واجبات تلك السلطة، وتبين العلاقة بين الراعي والرعية، إضافة الى النصوص المتضمنة عقوبات الزامية لا يتحقق وجودها ،دون وجود سلطة تقوم بها.والوظايف التعبدية الكبرى والمصالح الاجتماعية الحيوية،التي تستلزم قيام دولة ذات سلطة، إضافة الى السنة السياسية المتجسدة في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم تأسيس دولة في المدينة،ودولة الخلافة الراشدة التي هي امتداد لدولة النبوة ،وسير فقهاء السياسة المسلمين على خطى الصحابة. وهناك من اضاف الى تلك النصوص والوقائع -الأساس العقلي، الذي يستنتج منه أن وجود الدولة واجب عقلي وضرورة مصلحية،وذكر الكاتب من بين من ذهب الى ذلك ابن خلدون في القديم ،وعالم القانون الدستوري في هذا العصر، عبد الرزاق السنهوري.
الحرية إمكان ومسؤولية،وتحت هذا العنوان الفرعي عالج الكاتب قيمة الحرية،وبين انها مناط المسؤولية والتكليف الشرعي ،وعرض في هذا السياق لشبهة الرق،التي الصقت بالإسلام وبين ضعف القول بأنَّ الإسلام وقف عند القول بالتخفيف من آثار الرق مع اقراره للرق كواقع، ولم يرتقي الى تحريمه، ،وبين ان هذا قول جانبه الصواب، اذ ان النص القراني اعتبر الرق ظرف طاريء،ومن ثم جاءالنص بمنعه، واستشهد بالآية القرآنية ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) ،وذهب الى أن الآية حصرت معاملة أسرى الحرب-وهونوع الرق الوحيد الذي اعتبره الإسلام-في التخيير بين المن والفداء، وعضد رأيه مستشهداً بتعليق الشيخ رشيد رضا على الآية قائلاً: " ولما كنا مخيرين بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز ان يعد هذا أصلاً شرعياً لابطال استئناف الإسترقاق في الإسلام".كما أن "المكاتبة" التي ورد الأمر بها في قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ)، تبين أن الرق فترة مؤقتة،وان الآية جعلت حرية العبد بيده.ومن ثم فإنَّ ما شاع أن الاسلام حض على اعتاق الرق فحسب، دون منعه، رأي غير سديد،بل يناقض ظاهر القرآن الذي يدل على أن الرق ليس أصلا في الإسلام،وإنما حالة موقوته، واستثنائية.
ومن القيم السياسية الإسلامية قيمة العدل في الحكم والقسم،والعدل جذر القيم الإسلامية ،إذ جعل الله تعالى القيام بالقسط ( العدل) غاية كل الرسل والرسالات (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ0لْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ 0لْكِتَٰبَ وَ0لْمِيزَانَ لِيَقُومَ 0لنَّاسُ بِ0لْقِسْطِ) ( الحديد: 25)، والعدل مبدأ مطلق، يشمل العدو والصديق، والمسلم وغير المسلم. وهو حامٍ للحريات ،وقيمة شاملة لكافة مناحي الحياة، وأبرزها العدل والمساواة في توزيع الثروات التي هي مال الله، وهي حق لعباد الله ،ليس لشخص الحاكم أو ثلة أو أسرة..الخ.
وكذلك من القيم الإسلامية ،ما عبر عنه المؤلف :اهدار المراتب الإجتماعية: ويعني بذلك المساواة الإجتماعية، بين الناس ،وأن معيار التفاوت بينهم يعود الى مقدار ما يبذله كل منهم من جهد وكسب. وفي المجال السياسي سعى الإسلام الى محو التراتبية الإجتماعية،وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم ،بصراحة لا لبس فيها في حجة الوداع، مبدأ المساواة ،وجاءت السُنَّة النبوية -قولاً وفعلاً-في تجاوز المراتب الإجتماعية المتوارثة،مهدرة لأي تفاضل إجتماعي الا على أساس الكسب الشخصي، بعيداً عن الإعتبارات العرقية والعرفية والجسدية(ص: 153)،وجاءت السُنَّة العملية معضدة السُنَّة القولية حيث نصب الرسول صلى الله عليه وسلم، أُمراء شباباً ، ومن خلفيات إجتماعية متواضعة بمعايير الجزيرة العربية قبل الإسلام، ليبين للناس تجاوز الإسلام كل التحيزات الإجتماعية، التي لا تتأسس على العمل والكسب الشخصي ،وضرب مثالاً لذلك بتعيين زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد القيادة. (ص: 154) . وانتقد المؤلف شروط الأهلية السياسية عند الفقهاء ،ووصفها بأنَّها ضعيفة الأساس النصي،ومن تلك الشروط الحرية،والتي يكفي في نقضها الإشارة الى إمارة العبد الحبشي في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها حديث ( اسمعوا واطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي،كأن رأسه زبيبة). وكذلك شرط الذكورة مؤكداً مساواة المرأة والرجل في التكاليف، ومنها السياسية ،ومن ثم لا قيمة لشرط الذكورة الذي أخذه الفقهاء من حديث :" لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة" ،مبيناً أن هذا الحديث ورد في سياق الخبر، ومن ثم لا ينبغي ان يبنى عليه حكم شرعي ،وذهب الى أنَّ ظاهر القرآن يدل على أن المرأة مؤهلة لتولي كل المناصب العامة بما فيها منصب رأس الدولة ،وأرود نصا لرشيد رضا مستشهداً بقيادة ملكة سبأ قومها،ومشاورتهم في القضايا التي تهمهم،وايراد القرآن ذلك في موضع الثناء عليها، وما في ذلك كله من دلالة على شرعية ولاية المرأة،وأورد من السُنَّة العملية ما يؤيد رأيه في مشاركة المرأة الكاملة في الشأن العام بحضورها بيعة العقبة الثانية ،وحضورها بيعة الرضوان ،كدلالة على مشاركة المرأة في الشأن السياسي خلال العصر النبوي . كما رفض جدل السلفيين المعاصرين ودعواهم أن التاريخ الإسلامي لم يعرف فيه تولي النساء المناصب العامة ، بأنَّه تقرير لواقع تاريخي، وليس استدلالاً شرعياً .(ص: 159)
ومن قيم البناء السياسي الإسلامي ،المساواة في الأهلية السياسية: وقد أورد الكاتب تأكيد النص الإسلامي على القوة والأمانه ،ولم يشترط الإنتماء القبلي أو العرقي في من يكون خليفة للمسلمين.وتعرض لماقرره الفقهاء من اشتراط ان يكون الخليفة من قبيلة قريش، واستنادهم الى ما ورد من احاديث تنص على اشتراط القرشية في تولي امرة المسلمين ، فإن تلك الأحاديث ،رغم ورودها بطرق عدة تبلغ حد التواتر ،فإن أيا من رواياتها - وفقا للمؤلف- لم ترد بصيغة الأمر الصريح،بل جاءت كلها بصيغة الخبر ،وبعض تلك الروايات يستحيل حملها على الأمر الشرعي ،كما أنَّ ما ورد من احتجاج ابي بكر بالقرشية في بيعة السقيفة،ضعيف السند ولا يعتد به في باب الأحكام الشرعية. (ص: 160- 164) .
ومن القيم السياسية في بناء السلطة قيمة الشورى: وفي هذا السياق استعرض الكاتب، الآراء السياسية في من له الحق في السلطة وطرق توليته: وقد حصر تلك الطرق في ثلاث: القهر العسكري الذي يجعل السلطة من حق من يمتلك القوة ويستخدمها، وهذا السبيل يهدم الأساس الأخلاقي للإجتماع البشري، لأن القوة لا تكسب حقاً.- 2- الوراثة العرفية، التي تجعل السلطة في أسرة أو عشيرة، ويسلم المجتمع بذلك بقوة الاعتياد،دون مسآلة لحق تلك الأسرة أو العشيرة في الحكم.3- تولية الحكم عن طريق التراضي والتعاقد المتأسس على اختيار حر من الجماعة لمن يحكمها،وذهب الى أنَّ الاسلام مع تبني الخيار الثالث، خيار الإختيار الحر للحكام عبر التداول والتراضي والتعاقد دون إكراه ولا إجبار ( ص:165).وقد تمثل ذلك في مبدأ الشورى الإسلامي الذي يتضمن أنَّه لا شرعية لحاكم من غير اختيار المحكومين،وأن الحكم من غير اختيار المحكومين افتيئات وغصب لحق الأمة في حكم نفسها. ( 165).وساق النصوص من القرآن والسُنَّة التي تؤيد ذلك، وتحث على ممارسة الشورى في كل شؤون الحياة وعلى رأسها إختيار الحكام. وانتقل إلى أن الشورى لها وجهان: الأول، إنتاج الشرعية السياسية. والثاني، الشورى التنفيذية في القرارات الإستراتيجية، واستعرض مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم ،بأنه كان يشاور دائما ،وبين أنَّ للشورى مسوقان أخلاقي وعملي، فالمسوق الأخلاقي هو تحقيق العدل في مسألة بناء السلطة ابتداء ،والمسوق العملي هو أنَّ الحكمة الجماعية، اعظم واقرب الى الصواب من الحكمة الفردية. ( 165-167).
وأثبت وجوب التمثيل السياسي للأمة بالصورة التي تضمن تحقيق وحماية مصالح الأمة وفقا للزمان والمكان،واثبت حق الجميع في اختيار الحكام ، وأن عقد البيعة، والتي هي عبارة عن تجسيد للعقد الاجتماعي الإسلامي الذي يمنح الحاكم شرعية الحكم ، واجب التنفيذ من قبل الحاكم والمحكوم على السواء، وهذا يجعل الأمة تنقاد طاعة وبوعي، وتحافظ على لزوم الجماعة، وتنسجم مع القوانين، وتراقب الحاكم وتحاسبه، وتتمكن من محاصرة الظلم والفساد والإنحراف ،حتى يستقيم بناء الدولة والمجتمع .(ص: 174-180).
واخيراً ركز المؤلف على المشاركة السياسيّة والتعددية الحزبية داخل الدولة، وقد جعل هذه الأخيرةَ تحقيقًا لمبدأ المدافعة الذي ورد في قول الله عز وجل: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} [الحج: 40].
وخلص الكاتب من ايراد تلك القيم السياسية،الى أن وجود السلطة السياسية واجب، كضرورة دنيوية وإجتماعية.. تقوم على الشورى والتي ترتكز على أساس ديني تشريعي وأساس عقلي يلتمس مصالح الأمة الدنيوية بدءا من وضع قواعد تحول دون تغول السلطات وظلمها للشعب وتقليم أظافر المتسلطين.
. قيم الأداء السياسي: وهي تركز أساساً "على صناعة القرار وعلاقة الحاكم بالمحكوم بعد تأسيس السلطة السياسية" (ص: 19).
وتشمل هذه القيم ،التي هي موضوع الفصل الثاني من هذا القسم، الرد إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والتزام السواد الأعظم، والأخذ على يد الظالم، وأن المال العام مال الله، ومنع الغلول والرشوة، والأمانة أو الأهلية الأخلاقية، والقوة أو الكفاءة العملية، والمواءمة أو الحكمة السياسية، والمشاورة في صناعة القرار، والنصح من الحاكم والمحكوم، ورفق الراعي بالرعية، ومنع الاحتجاب عن الرعية، ومنع الإكراه في الدين، ووحدة الأمة الإسلامية.
وقد فصل المؤلف في تلك القيم، ومنها قيمة الرد الى الله والرسول، وبين أنَّها من أعظم القيم السياسية الإسلامية،لما تتضمنه من دلالات اعتقادية وقانونية. فقد اوجب الاسلام على الحاكم أداء الامانة ،والحكم بالعدل واوجب على المحكوم طاعة السلطة الشرعية ،ووضع مبدأ يحتكم له الطرفان وقت الخلاف ،وهو الرد الى الله والرسول ،أي الإحتكام الى القرآن والسُنَّة بدل الإحتكام الى منطق القوة /وقانون الغاب.(ص: 196) ولهذا المبدا مدلولان :مدلول دستوري ومدلول مرجعي ،فالمدلول الدستوري:المساواة بين الحاكم والمحكوم امام القانون،وقد اورد نماذج لهذا المبدأ من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية وأكدته سنة الخلفاء الراشدين في ممارساتهم العملية. والمعنى المرجعي يتعلق بمصدر الإلتزام الأخلاقي والإلزام القانوني ذاته ،فمرجعية الوحي هي ما يميز النظام السياسي الإسلامي عن غيره من الأنظمة السياسية.( ص:197-202) .
ومن قيم الاداءالسياسي في الإسلام ،التزام السواد الأعظم ،وقد أشار المؤلف الى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "انَّ الأمة لا تجتمع على ضلالة"،وبين اهم معاني الإجماع في مدلوله السياسي الأصلي ،وهو الإلتزام بشرعية السلطة التي تختارها الأمة ،وعدم الخروج عليها بالقوة،وأنَّ من مقتضيات لزوم الجماعة، الإلتزام بقراراتها في ممارسة شأنها العام ،والنزول عند رأي سوادها الأعظم عند الخلاف السياسي .ويتفرع من لزوم الجماعة، لزوم إمامها ،اي الوقوف مع سلطتها الشرعية،المعبرة عن إختيارها وروحها الجمعية في وجه البغاة الخارجين عليها ،اذ في مثل هذا الخروج هدم لنظام الجماعة.(ص: 205) .
ومن قيم الأداء :الأخذ على يد الظالم: وقد أورد المؤلف عدداً من النصوص التي تدل على ضرورة الأخذ على يد الظلمة أيَّاً كانوا من العامة أو الأمراء ، حكاماً كانوا أم محكومين،وأكد على أن الحاكم إذا انحرف عن منطق العدل والمصلحة، وضعه الإسلام أمام خيارين: إمَّا الإعتدال والكف عن الظلم، او الإعتزال والتنحي عن المسؤولية التي أوكلت اليه .(ص: 210) .
ومن قيم الاداء الاقرار بأن المال العام مال الله : وقد أورد المؤلف بعض النصوص التي تدل على أن المال العام مال الله ،وهو مصطلح يحمل مدلولاً أخلاقياً من حيث الفصل بين العام والخاص في شؤون المال،والتأكيد على أن المال العام ملك للأمة، وهو أمانة بيد الحاكم، وليس ملكية شخصية له أو لذويه ،ومن ثم كان موقف الخلفاء الراشدون من مال الدولة، والتصرف فيه بأنهم مستأمون فيه، فأكتفوا منه بما يكفيهم وعيالهم ،ثم وضعوا ما سوى ذلك في مصالح الأمة،وأورد النصوص الإسلامية التي تحذر من الغش والغلول والرشوة ونهب الثروات ،واكل اموال الناس بالباطل، الى غير ذلك من الممارسات التي تستبيح أموال الدولة.
وخلاصة القول -كما يقول – إن الإسلام جعل المال العام أمانة بيد الحكام وحصر صرفه في مصارف ثلاثة: إنفاق على مصالح عامة مشتركة للامة لأنه ملكية مشتركة،أو أجر لعامل يخدم الأمة خدمة عامة، فيستحق الأجرة مقابل خدمته، او معونة لمحتاج تعبيراً عن واجب التضامن الإجتماعي ( ص: 215-216)
منع الغلول والرشوة: من قيم الأداء في السياسة أن الإسلام حرم الإعتداء على المال العام سواء في صفة غل أو رشوة او تمول سياسي غير شرعي ناتج عن سوء استغلال المنصب العام ،وأرود المؤلف النصوص الشرعية الدالة على التحذير من الغلول والرشوة.( ص: 216-219).
ومن قيم الأداء، الأمانة أو الأهلية الأخلاقية،والأمانة او الكفاءة العملية،وتحت هذين العنوانين، تناول الكاتب ضروة توفر هاتين الصفتين في من يعهد اليه بتولي أي مهمة في الدولة،تطبيقاً لقوله تعالى:" إنَّ خير من استأجرت القوي الأمين." ويختلف مفهوم القوة بمعنى الكفاءة العملية على حسب طبيعة المنصب ،فهي في المناصب العسكرية الشجاعة والخبرة ،والتجربة العسكرية، وفي المناصب العلمية سعة الباع العلمي ،وفي السفارات تكون الكفاءة في الخبرة بالبلاد وأهلها وحسن المظهر ولطف الحديث... الخ.
المؤامة أو الحكمة السياسية:وهذا يعني مناسبة الشخص للمنصب الذي يتولاه في صنع القرار ، ومن المواءمة أن يكون الحاكم صادقاً مع الله ومع الامة،مدركاً جوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته من يستكمل به نقصه ويتدارك به قصوره ،حتى لو كان هو نفسة من أهل الأمانة والقوة ،لأن التوازن المطلق بين الأمانة والقوة كمال مطلق وهو غير متاح لأحد من البشر( ص: 230) .
ومن قيم الأداء السياسي المشاورة في صناعة القرار،وقد ركز الكاتب على التمييز بين الشورى والمشاورة ،وبين أنه لا يكفي أن يكون الحاكم شرعياً عن طريق اختيار الناس بالشورى،اذ ان الشورى هذه تحتاج الى مبدأ آخر مكمل للشورى ،هو مبدأ المشاورة،فلا يجوز ان يستفرد الحاكم بالقرار او يستبد به،فالمشاورة إكمال للشورى. فعن طريق الشورى تتأمر الأمة في الحاكم ( أي تختاره) ، وبالمشاورة تستحث الأمة الحاكم الضعيف ،وتلجم الحاكم القوي ،وتحقق المشاركة واليقظة الدائمة في شأنها العام. ( ص: 231).وقد خاطب الله المؤمنين ووصفهم بأن " وأمرهم شورى بينهم"،وجاء الخطاب للنبيصلى الله عليه وسلم :" وشاورهم في الأمر"،فأمر النبي بالمشاورة ولم يؤمر بالشورى،وأهمية التمييز أن الأنبياء لا يستمدون قيادتهم من الأمة،ومن ثم لا يحتاجون الى الشورى ذات الصلة ببناء السلطة وشرعيتها، لأنَّ شرعية الأنبياء السياسية مسألة اعتقادية وطاعتهم طاعة لله متعينة في ادائها.
ويتضمن هذا أن نظرية "التفويض الإلهي" ،أو الحق الإلهي"، القائلة بأنَّ الحاكم يستمد شرعيته من الخالق لا من الخلق،وأنه مسؤول أمام الخالق فقط لا أمام الخلق ،لا مكان لها في الاسلام،فالأنبياء وحدهم لهم هذا الحق ،اما غيرهم فهم يستمدون شرعيتهم السياسية المباشرة من الناس بتشريع من الخالق ،وكل ادعاء بشرعية الهية ،تضليل للخلق وافتراء على الله .وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اكثر الناس مشورة لأصحابه،ولم يجد غضاضة في تغيير رأيه حين تبين الصواب السياسي والعسكري عند غيره. ( ص: 232-233) .
وعن قضية الزام الشورى وعدم الزاميتها،بين الكاتب أن هذا الجدل ناتج عن الخلط بين الشورى والمشاورة،فالشورى ذات الصلة ببناء السلطة لا بد أن تكون ملزمة والا فقدت مدلولها الشرعي وثمرتها المصلحية،ومن ثم جاءت النصوص تدل على وجوب الشورى ابتداء والتزامها إنتهاء.اما المشاورة ذات الصلة باداء السلطة، وتسييرها، فهي واجبة ابتداء، لكن نتيجتها قد تكون ملزمة للقائد المستشير،أو مجرد استمداد للخبرة وتمحيص للرأي قبل اتخاذ قرار بعينه، حسبما تخوله الأمة من صلاحيات،وما تقيده من قيود( فهي واجبة ونتيجتها ملزمة في الامور العظيمة التي لا تدخل في اختصاصات الحكم نظرا الى خطورتها وتأثيرها في مجمل الامة كاعلان الحرب وابرام الصلح... الخ ( ص: 237) .
،ومن قيم الأداء السياسي مبدأ النصح من الحاكم والمحكومين، وهو مبدأ مشترك بين الحاكم والمحكوم ،فكما يجب على الحاكم أن يبذل جهده وأن ينصح لرعيته قولاً وفعلاً ،فيما استودعوه من أمانة المنصب العام ،ويجب على أفراد الرعية النصح لحاكمهم الراعي قولاً وفعلاً فيما يسنده الى كل منهم من جزئيات تلك الأمانة سواء كان منصباً دائماً او مهام ظرفية محددة بحدود ،وفي هذا السياق اورد المؤلف قول الرسول صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة( قالها ثلاثا)- كما ورد في الحديث- فقال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم ) ، وبذلك يتبين أن الصمت عن النصيحة للحاكم وللشعب غش للجميع ،كما تدل على ذلك النصوص التي تحث على النصيحة من الطرفين وللطرفين وتوجب القيام به.
ومن قيم الاداء السياسي رفق الراعي او الحاكم بالرعية ،وقد تناول المؤلف هذا المبدأ وبين ان رفق الراعي بالرعية، وأن الرفق مبدأ إسلامي رفيع ،مستشهدا بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم والراشدين بعده: ووصايا الرسول الامراء بالتيسير والرفق بالرعية وقوله " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ،ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرق بهم فارفق به" ، وأن من مظاهر الرفق في الاسلام جعله طاعة السلطة الشرعية مقيدة بالإستطاعة . وقد استلهم فقهاء السياسة الشرعية هذه المعاني النبوية فكتبوا يحضون الولاة على الرفق برعيتهم مسلمها وغير مسلمها. وأورد المؤلف نصا لابن خلدون مبيناً أثر التعسف السياسي في فساد أخلاق الشعوب ،وفي المقابل أثر الرفق بالرعية في قوة الدولة وتماسكها، وحصانتها أمام اعدائها .( ص: 240-243) .وتناول بعد ذلك منع الاحتجاب عن الرعية، وساق النصوص التي تنهى عن ذلك.واكد على مفهوم ان الحاكم اجير للأمة لا يحل له أن يحتجب عن حاجات الناس ،ولا يضع العراقيل بينهم وبينه ،بمنعهم من أسماع اصواتهم له ،وايصال مظالمهم اليه، ومحاسبته على اداء الأمانة التي ائتمنوه عليها، ووارود الاحاديث التي تنهى عن ذلك ( ص: 243-245).
وتحت عنوان: منع الإكراه في الدين،ذكر المؤلف نوعين من الإكراه او الإستبداد : الأول استبداد مادي سياسي، يعتمد القهر وسيلة لإخضاع إرادة الحرية في النفس البشرية ،والثاني استبداد معنوي ديني يزيف وعي الإنسان بإنسانيته ،ويقنعه بالعبودية والرضا بالدون .وقد اعلن الإسلام تحرير الإنسان من هذين الدائين ،وذلك بثورته على الطاغوت الزماني والروحاني.وقد جاء التحرير من السلطة الدينية ،ومنع الإكراه في الدين، في نص قرآني صريح ومحكم " لا إكراه في الدين" ،فهو نص عام في حرية الإعتقاد، ابتداءً، واستمراراً، وانتهاءً.كما جاءت آيات الجهاد تقرر تقنين حرية العبادة للجميع دون قهر أو اكراه،( الحج: 40)،وجعل الإسلام الإكراه في الدين فتنة توجب على المسلمين القتال ضدها( البقرة: 193/الأنفال:39)،ثم جاءت السُنَّة العملية مطابقة للنص القرآني،في المنع من الإكراه في الدين ،كما ورد في الحديث الذي ذكر فيه رجل ، ارتد عن الإسلام ،بعد ان بايع الرسولصلى الله عليه وسلم،ولم يعقابه النبي عليه السلام،بأي عقوبة كانت ،ولا حبسه ،ولا استتابه،فضلا عن أن يقتله.وربطت النصوص بين الإكراه في الدين وعدم الإخلاص في التدين،وبينت أن الإكراه في الدين ينفي عنه أهم صفاته،وهي الإخلاص القلبي.إضافة الى أنه لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قتل شخصاً بتهمة الردة،رغم ورود الأخبار عن أفراد من المسلمين الاوائل في العصر النبوي، ارتدوا ولم يقتلوا. ولو سارت الأمور-كما يقول المؤلف-في التاريخ الإسلامي طبقاً للمبدأ القرآني العظيم،" لا اكراه في الدين"،لكانت الحرية الدينية المطلقة من أهم منجزات الحضارة الإسلامية،وأكبر مظاهرها السياسية وأعظم اسهاماتها في المسيرة الإنسانية،ولكن إرتداد بعض القبائل في صدر الإسلام،وتمردها على الدولة،جعل حرية الدين تتحول شأناً سياسياً في وقت مبكر من حياة المسلمين، فاختلطت في الثقافة الإسلامية جوانب الرأي والإعتقاد،مع جوانب السياسة والإجتماع،ولم يرتفع هذا اللبس بشكل كامل حتى اليوم، وقتال الصحابة المرتدين،ليس مرادفاً لقتل الفرد المرتد المسالم ،الذي شاع القول به في الفقه الإسلامي بعد ذلك،ومن ثم لا بد من التمييز بين قتال المرتد المحارب،وقتل المرتد المسالم.وأورد نصاً لابن حزم يتبنى مثل هذا الموقف. .( ص: 248). وشكك الكاتب في صحة حديث " من بدل دينه فاقتلوه،" وحتى لو صح فيمكن اعتباره-كما يقول- , من العموم المخصوص،ويخصصه ما ورد في أحاديث أخرى، تتحدث عن " التارك لدينه المفارق للجماعة".
وخلاصة الأمر أن منع الإكراه في الدين من أهم القيم السياسية الإسلامية،وينبثق من هذا المبدأ كل الحريات المتصلة بالتفكير والتعبير. .وانتهى الى أن القرآن الكريم حين نادى بعدم الإكراه في الدين ، لم يشرع لتطبيق حد الردة لأن هذا التشريع، يعارض مبدأ عدم الإكراه ،الذي ورد بنص صريح لالبس فيه. .( ص:253)
وتحت عنوان: وحدة الأمة السياسية: ورد التنصيص على وحدة الجماعة المسلمة في القرآن والسُنَّة،وأن الامة الاسلامية، امتداد لأمم الرسالات السابقة ( الأنبياء: 92/المؤمنين:52).ورسمت الأحاديث النبوية حدود المسلمين بشكل واضح كما جاء في الحديث:" المسلمون تتكأفأ دماؤهم،ويسعى بذمتهم أدناهم،ويجير عليهم أقصاهم،وهم يد على من سواهم"،ففي هذا الحديث تأسيس لرابطة سياسية إسلامية،تتضمن الزاما والتزاماً،لاطراف الجماعة المسلمة في العصر النبوي قبائل وبطونا وحواضر،فتجعلهم كتلة واحدة من حيث التعاون ضد العدو الخارجي. وخطبة الرسولصلى الله عليه وسلم،في فتح مكة، تؤسس بناء حلف سياسي إسلامي جديد،يتجاوز الأخلاق القبلية السابقة على الإسلام.ومن ثم لم يحرص فقهاء السياسة الشرعية-كما يقول المؤلف- على شيء مثلما حرصوا على الوحدة السياسية للأمة ،والانتماء إليها بأي صيغة ممكنة " ،ولذلك كانت الفاجعة بسقوط الخلافة العباسية على أيدي المغول منتصف القرن السابع الميلادي ،ثم سقوط الخلافة العثمانية ،على أيدي المستعمرين الاوربيين في العصر الحديث،هزة عنيفة للضمير المسلم ،لأن كلا السقوطين حمل معاني اليتم والأنكشاف الكامل،وتمزق آخر رابط سياسي بين المسلمين حتى وان كان رابطاً رمزياً." ( ص:250-254). وذهب المؤلف الى أن تأثير نصوص الوحي الإسلامية الحاضة على وحدة الأمة،والتراث الفقهي المتشبث بهذه الوحدة ،جعل الضمير المسلم عبرالقرون متعلقاً بوحدة الأمة الإسلامية ،طامحاً الى رؤية التقارب والتعاضد والتناصر في هذه الأمة،ووجود الحد الأدنى من المظلة الجامعة لها،وإن توزعت على كيانات سياسية عديدة.
واخيراً فإن مجمل القيم السياسية الاسلامية يمكن اختصاره في عبارة " التأمر في الأمير"، فكل هذه القيم تتجه وجهة واحدة وهي تحكم الامة في حكامها،ومنع تحكمهم فيها،واعتبار الأمير اجيراً للأمة لا جباراً عليها،ومنع الظالم أن يكون حاكماً ،ومنع الحاكم ان يكون ظالماً،واستحثاث الحاكم على حسن الأداء،،ومراقبته الدائمة،والأخذ على يده إذا ظلم،،وعزله اذا عجز أو خان .( ص: 253 )
.ويختم المؤلف الفصل بالإشارة الى أن الثمرة الاجتماعية للقيم السياسية الإسلامية بفرعيها: قيم البناء وقيم الأداء،هي تحقيق العدل ،وأن ثمرتها السياسية هي بناء الدولة المنسجمة،وليس معنى الإنسجام هنا، الإنسجام الفكري والعقدي،فذلك أمر مستحيل في المجتمعات البشرية،فليس من الضروري لقوة الدولة أن يؤمن الناس جميعا بالعقيدة ذاتها،او ينتمون الى العرق ذاته،لكن من الضروري أن تتحد إرادة الحاكم والمحكوم، في إنسجام تعقادي طوعي على أساس من العدل والحرية. ( ص:254).
ويؤكد المؤلف أن "ترتيب القيم السياسية الإسلامية ضمن صنفي البناء والأداء ترتيبا ثنائياً – دون اعتبارها كتلة واحدة – يدل على أن الشورى تتصدر قيم البناء، و"الرد إلى الله والرسول" – بمعناه القانوني المرجعي – يتصدر قيم الأداء. فمن دون شرط الشورية لا ينبني النظام السياسي على ركن ركين من البداية، ومن دون شرط المرجعية يفقد النظام هويته الإسلامية" (ص: 528).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.