الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي رئيسة منظمة الطوارئ الإيطالية    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي" (2/3) .. بقلم: أ.د. أحمد محمد احمد الجلي
نشر في سودانيل يوم 10 - 03 - 2021


بسم الله الرحمن الرجيم
المؤلف: الدكتور / محمد مختار الشنقيطي
2/ 3
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هذه محاولة لعرض كتاب " الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي"،,للدكتور /محمد مختار الشنقيطي.على أمل مشاركة القراء في الإطلاع على ما ورد فيه من أفكار وآراء، احسب أنها تستحق الإهتمام والمناقشة،وتبادل الآراء وإجراء الحوار حولها.
تناول القسم الاول من الكتاب-كما استعرضناه من قبل :قيم البناء السياسي في الإسلام وقيم الأداء السياسي ،ومكونات ذلك البناء وألياته.ويتناول هذا القسم من الكتاب : مسار ذلك البناء في التاريخ، الذي مرت به الدولة الإسلامية،منذ بذرتها الأولى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام،وخلفائه الراشدين،وما واجهته الدولة الناشئة من عقبات عطلت مسيرتها او أعاقت نموها الطبيعي، وانحرفت بها عن تلك القيم.وهو ما يتناوله المؤلف في القسم الثاني من هذه الدراسىة ، وخصص له الفصل الثالث والرابع من الكتاب.
وقد خصص المؤلف القسم الثاني من الكتاب، لما سماه "التأمر من غير إمرة: أعباء الزمان والمكان"،وسعى من خلاله لتحليل الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية ،والأسباب التي أدت الى تلك الأزمة . وقد لاحظ المؤلف أنَّ السياق التاريخي الذي ولد فيه الإسلام اتسم "بسمتين محوريتين، أدتا الى وجود تلك الأزمة ،هما: الفراغ السياسي السائد في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام، والنموذج الإمبراطوري المحيط بالجزيرة العربية آنذاك" (ص: 261).
وقد اطلق على الفصل الثالث من الكتاب :فراغ على تخوم الإمبراطوريات: مبيناً كيف كانت الدولة النبوية تجسيداً لأمهات القيم السياسية الإسلامية التي تمثلت في تلك الدولة ، وما تلاها في الخلافة الراشدة،إذ تقلد كل من الخلفاء الأربعة السلطة بالتراضي لا بالوراثة ولا بالغلبة،وكانت الأمة هي التي تتحكم في حكامها طبقاً لمبدأ "التأمر في الأمير". وحينما جنحت السلطة الى الإستئثار بالثروة والسلطة في آخر أيام عثمان ،كان ذلك بذرة للفتنة السياسية التي عصفت بتجربة الخلافة الراشدة كلها،وقادت الأمة الى مسار آخر هو: " التأمر من غير إمرة".ثم يشرح السياق التاريخي في الجزيرة العربية قبيل الإسلام ،وكيف ساق ذلك السياق مسيرة الحضارة الاسلامية الى مسار التأمر عن غير إمرة،وحرمها من التمسك بمسار التأمر في الأمير.
الفراغ السياسي :ويريد الكاتب بالفراغ السياسي أنَّ الجزيرة العربية لم تشهد قبيل ظهور الإسلام أي نظام سياسي مستقر،يقوم على أسس دستورية ،بل كان العرب في حالة فوضى سياسية،ولما ولدت الدولة النبوية "وعداً"، من خلال بيعة العقبة الأولى والثانية،وتأسست "عقداً"، عبر دستور المدينة الشهير،وتوسعت "عهداً"، بإنضمام جماعات عربية غير مسلمة اليها،كيهود المدينة ،ونصارى نجران، ومجوس هجر. ففي الحالات الثلاث-الوعد والعقد والعهد-كانت فكرة التعاقد هي محور العلاقة السياسية وأساس الدولة. ومن حيث الأداء السياسي ساد في دولة المدينة الفصل بين المجال العام والمجال الخاص، والفصل بين المال العام والمال الخاص، وكان المنصب العام أمانة لا وراثة ،أو ملكاً شخصياً . ونفس هذه القيم تجسدت في الخلافة الراشدة،ولكن جنحت السلطة الى الإستئثار بالثروة والسلطة في أواخر عهد عثمان ،وكان ذلك بذرة للفتن السياسية التي عصفت بتجربة الخلافة الراشدة كلها،وقادت الأمة في مسار آخر هو ما عبر عنه "بالتأمر من غير إمرة" .
المباديء والبيئة الصالحة: وتحت عنوان المباديء والبيئة الصالحة،شرح الكاتب كيف تحتاج القيم الكبرى الى بيئة صالحة،لتغرس في الأرض قوية ثابتة،وتغير حياة البشر الى الأفضل والأجمل،ولعل ذلك من حكمة الله تعالى في اختيار جزيرة العرب لتكون الحاضنة الأولى لمباديء الإسلام،والصفحة البيضاء التي ترتسم عليها قيمه ابتداءً ،غير ملتبسة بمواريث العبودية السياسية السائدة في العالم آنذاك (ص: 295)
فسياق الجزيرة العربية الذي ولد فيه الإسلام كان مواتياً من الناحيتين الإعتقادية والثقافية -وهما الأهم - في تقديم منظور جديد الى العقول، وزرع منظومة قيم جديدة في الضمائر ،وكان موائماً أيضاً من حيث ترسيخ فكرة الحرية وفطرة العزة فيه.وكانت تلك الحرية الفائضة، أشد حضوراً ورسوخاً في أرض الحجاز التي ظهر فيها الإسلام اول ما ظهر... وقد أفاد الأسلام من هذه الخصائص الإجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في جزيرة العرب ،فلم يكن شعب مؤهل لتلقي الرسالة الاسلامية يومها أكثر من الشعب العربي،و" اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ "
ولكن رغم ذلك ،لم تكن البيئة العربية صالحة لنمو المباديء السياسية الإسلامية،واستمرارها والحفاظ عليها،اذ أن مجتمع العرب قبل الإسلام كان مجتمعاً طليقاً ،يتمتع بحرية فائضة لا تعرف الإنتظام في مؤسسات سياسية أو قانونية، ويأنف ابناؤه من أي خضوع للملوك والسلاطين،وكان ذلك السياق العربي عصياً على فكرة الدولة التعاقدية التي سنَّتها النصوص الإسلامية، وبذر بذرتها النبي صلى الله عليه وسلم، وسار على نهجه خلفاؤه الراشدون .فكان المجتمع العربي في حاجة الى ترويض شديد ليتقبل فكرة الدولة والنظام والقانون ،ورغم ثراء النص الإسلامي في القيم السياسية،وعظمة التجربة النبوية الراشدية ،فإن السياق التاريخي في القرن السابع الميلادي ،لم يسمح بتفتق القيم الاسلامية وتحولها الى مؤسسات راسخة وإجراءات ثابتة،تضبط الحياة. (ص: 261).
حلف الفوضى والطغيان:لقد زاحمت كل من فوضى الجزيرة العربية،وطغيان الأباطرة المحيط بها قيم الإسلام السياسية في مهدها، ويريد بالفوضى حالة المجتع العربي قبل الإسلام، التي لم تكن متقيدة بنظام أو تخضع لدولة أو قانون،أما الطغيان السياسي فيراد به حالة الإمبراطوريات المحيطة بالجزيرة العربية،الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية ،وتأثير ثقافاتها على مجتمع الجزيرة العربية . وباجتماع هذين العاملين، لم يسمح للتجربة النبوية أن تنمو نمواً طبيعياً. ولم تكن الحضارة الإسلامية اول اجتماع انساني تنازعه الفوضى والطغيان ،بل ان هذا التنازع- كان ولا يزال- يهدد كل اجتماع انساني (ص: 261 ) .فالطغيان السياسي يضغط على البناء الإجتماعي من أعلى حتى يتصدع ،ثم يتسع التصدع على مر الزمان فيتحول شرخاً واسعاً ينتهي بإنهيار المجتمع،أما الفوضي فتعصف بالإجتماع السياسي من قواعده فينهار بنيان الدولة تماماً،ويرجع الناس الى الإحتماءبالولاءات الضيقة ، صيانة لأرواحهم وأموالهم ، ويفقد المجتمع الإرادة المشتركة الضرورية لكل بناء إجتماعي سليم. لأنًّ الفوضي -كما يقول ابن خلدون- مهلكة للبشر مفسدة للعمران".لذا يحتاج الإجتماع الإنساني الى الجمع بين القانون والحرية،فأهم ركائز الإجتماع السياسي ركيزتان هما :اخضاع السلطة الناسَ للقانون ،وخضوعها هي نفسها للقانون.وحينما تخير الشعوب بين الإستبداد والفوضى،تميل غالباً الى اختيار الإستبداد،باعتباره اخف الضررين وخير الشرين،وهذا هو الإختبار الذي ساد في التراث السياسي الإسلامي.
لفد اتسم السياق التاريخي الذي ولد فيه الإسلام بسمتين محوريتين،هما الفراغ السياسي السائد في الجزيرة العربية آنذاك،والسياق الامبراطوري المحيط بالجزيرة العربية .وقد اثمر كلا الأمرين ثمرتين متناقضتين:
فالفراغ السياسي العربي أفاد الإسلام من حيث سهل عليه تأسيس قيم جديدة في السياسة لم تعرف البشرية مثيلاً لها من قبل ،لكنه أضر بالإسلام كثيراً حيث أنَّه سهل انفجار الفتن السياسية العاصفة في صدر الإسلام، فهدم النموذج السياسي الذي أسسه قبل ان يصلب ويشتد عوده.
اما السياق الإمبراطوري المحيط بالجزيرة العربية، فقد أفاد المسلمين الأوائل من العرب في الإستمداد من نماذج دول قائمة ،ووراثة بيئتها الإدارية ،ورسومها السياسية،فاختصر عليهم طريق بناء دولة كبرى في فترة وجيزة وما كانت تقاليد العرب السياسية الضحلة لتسعفهم في بناء تلك الدولة الا بعد تراكم قرون عدة.لكن هذا السياق الامبراطوري اثر تأثيرا سيئا من حيث مزاحمته القيم السياسية الإسلامية،بمنظومة قيم سياسية مناقضة تماماً لما شرعه الإسلام في عالم السياسية من قيم وأحكام.(ص: 261). فالإجتماع السياسي يقوم على دعامتين هما: الحرية والنظام،فالحرية تضمن إنسانية الإنسان،والنظام هو الذي يحفظ للمجتمع الإرادة المشتركة،التي بدونها لن تكون دولة،وفي المقابل يتحلل الإجتماع السياسي بطريقتين تتناقضان مع الحرية والنظام،هما: الطغيان والفوضى ،فالطغيان قتل صامت لروح الأمة،والفوضى قتل صاخب لها,ولم يكن النظام الإسلامي وإنهياره بعيد عن هذين السببين اللذين يؤديان الى إنهيار الإجتماع السياسي في كل عصر.
وأمرهم فوضى بينهم: كان العرب قبيل الإسلام أهل فطرة سليمة جاهزة لتشرب عقيدة التوحيد،دون غبش كثيف من مواريث الوثنية، كما كانوا أهل عزة وإباء غير متلوثين بعبودية الإمبراطوريات العتيقة، كما كانوا جيشاً قتالياً مشحوناً بحب القتال والنزال ،لكن ذلك الجيش لم يكن يحمل رسالة أخلاقية ،أو إنسانية ،فتحولت روحه القتالية استنزافاً للذات ونزعة عدمية .وقد غير الإسلام البنية الإجتماعية العربية،كما غير مكانتهم في التاريخ حين صنع منهم أمة، جديدة فالإسلام حول قبائل الجزيرة العربية من أعراب الى عرب،.
واذا كان الإسلام قد سنَّ للمسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم،فإنَّ أحسن توصيف لما كان عليه العرب قبل الإسلام -كما يقول الكاتب-هو أن أمرهم كان فوضى بينهم.وقد كان هذا النزع الفوضوي او التوحش كما قال ابن خلدون،راسخاً في حياة العرب حتى صار لهم خلقاً وجبلة،وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم،وعدم الإنقياد للسياسة. ( ص: 266-267).
وقد كان لهذين العاملين دور أساسي في الإنحدار السياسي الذي وقعت فيه الحضارة الإسلامية.فأما بالنسبة للعامل الأول المتعلق بالفراغ السياسي في الجزيرة العربية، بسبب غياب سلطة مركزية، وفشل كل المحاولات التي تمت فيها من أجل إقامة دولة، فقد جعل هذا الفراغ الوضع في الجزيرة العربية قائماً على الفوضى، و"متفلتاً من أي ضابط سياسي، عصياً على فكرة الدولة التعاقدية التي سنتها النصوص الإسلامية، وبذر بذرتها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون" (ص: 261).
اما قلب الجزيرة العربية ،فقد شهد قبل الإسلام محاولتين لبناء دولة هما مملكة كندة في نجد ، التي لم تكن مملكة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت عبارة عن تجمع لبعض القبائل في نجد، وامتد نفوذها في بعض الأحايين الى بادية الحجاز.وقد انتهت المملكة حينما قتل آخر ملوكها ،وحاول ابنه الشاعر المشهور أمرؤ القيس استعادة ملك ابيه، واستنجد بقيصر ولكنه لم يفلح فعاد خائباً ،وسجل تلك المحاولة في ابيات شعر مشهورة.أما المحاولة الثانية فكانت سعي عثمان بن الحويرث أحد اعيان مكة ، الى تنصيب نفسه ملكاً على أهل مكة. ورغم إغراء عثمان ابن الحويرث، لقيصر وتزيين إقامة مملكة له، تكون توسعاً لإمبراطوريته ،ومصدرا لقوته على الفرس،وترهيب أهل مكة وتخويفهم من غضب القيصر وحرمانهم من سبل تجارتهم،لم تفلح محاولته. وقد لخصت نتيجة المحاولة ،عبارة أهل مكة التي عنون بها الكاتب مبحثه في معالجة هذه الظاهرة " ما كان في تهامة ملك". وهكذا لم تكن المحاولتين بعيدتين عن التأثير الخارجي ايضاً،وكانت إحداهما قصيرة العمر ،وماتت الثانية قبل أن تولد. ( ص: 270-275).
اما اطراف الجزيرة فقد قامت ممالك اطلق عليها المؤلف عبارة ممالك التشكل الكاذب، العبارة التي استمدها من الفيسلوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنغلر ( 1880 1936م)، ويراد بالتشكل الكاذب، النمو المشوه للمجتمعات الضعيفة على ضفاف الحضارات القوية،ويتمثل ذلك في الممالك التي تكونت على أطراف الجزيرة العربية، كمملكة الحيرة،في الشمال الشرقي، ومملكة سبأ في اليمن، ومملكة الغساسنة في الشام، وامارة كندة في نجد .( ص:270-273) ولم تنمو تلك الممالك نمواً طبيعياً نابعاً من داخل الجزيرة العربية ،بل كانت امتداداً للإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، بالجزيرة العربية،فكان امتداداً من خارج الجزيرة العربية الى داخلها ومن اطرافها الى قلبها.
الإسلام والشخصية العربية : اعتمد الكاتب في هذا المبحث على ما اورده ابن خلدون من تحليل للشخصية العربية، وما لدى العربي من نزوع فوضوي طاغ على التقاليد السياسية العربية، وما انتبه اليه من ضرورة الدين للبناء السياسي العربي .وقد بين ابن خلدون أن طبيعة العربي العصية على سلطان الدولة لا يمكن تذليلها وترويضها الا بالدين ،لأنَّ وازع الدين ذاتي ،فهو قادر على اخضاع النفس العربية الأبية التي طالما عجزت السلطة السياسية عن إخضاعها .ولم يقصد ابن خلدون العرب دون الناس بهذه الطبائع ،بل إن هذا ينطبق على كل من ظهرت عليه معالم البداوة السياسية عموماً، ومن ثم ألحق في هذا المسمى الفوضوي كل الأمم ذات التقاليد القبلية العصية على منطق الدولة،وأدخل مع العرب قبائل البربر، وزناته بالمغرب،والأكراد والتركمان والترك في المشرق وغيرهم . ورغم ذلك فقد لاحظ ابن خلدون أن نفوس العرب الفطرية قريبة الى قبول الحق، خصوصأ إذا جاء في صيغة دعوة دينية. فالمفتاح السياسي للشخصية العربية ،في رأي ابن خلدون ،هو الدين .وملخص نظرية ابن خلدون عن العرب انهم ذو طبيعة مزدوجة جمعت بين صعوبة الإخضاع لسلطان الدولة، وسهولة الخضوع لسلطان الدين. ولفت المؤلف نظر العلمانيين الى التأمل في نظرة ابن خلدون هذه ،من أجل فهم مركزية الدين الإسلامي في صياغة الشخصية السياسية العربية، حيث انهزمت القبلية المتمردة على سلطان الدولة، أمام قيم التعاقد السياسي التي جاء بها الإسلام خلال العصر النبوي والخلافة الراشدة ،وسلمت بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم في يثرب بعد الهجرة مباشرة، رغم أن أغلبية سكانها من غير قبيلة قريش ،ثم التسليم بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة من بعده وكلهم كانوا من قريش" (ص: 373-378).فالشخصية العربية المتمردة على النظام، كان لها أثر كبير في اشاعة الفوضى الاجتماعية وعدم الاستقرار والنظام اللازمان لقيام الدولة وسيادة القانون.
ورغم أن الإسلام غيَّر المزاج الأخلاقي والثقافي العربي، إلا أن هذا المزاج سرعان ما عاد إلى طبيعته الفوضوية وتحكم الروح القبلية والعصبية فيه، ونتج عن ذلك إنحسار القيم السياسية الإسلامية في عصر مبكر من تاريخ الإسلام، أمام هذا النموذج القبلي الفوضوي ،والفراغ السياسي العربي، فثارت الفتن السياسية في قلب الجماعة المسلمة،وأدت الى اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، وعلي بن ابي طالب رضي الله عنهما،وانفجرت انفجاراً دموياً في حربي الجمل، وصفين، مما ادى الى تحول الخلافة الشورية الى ملك قهري. ( ص: 279).
من الأثرة الى الفتنة : فمنذ منتصف ولاية عثمان  بدأت معالم الإنحراف عن القيم السياسية الإسلامية،فقد كان عثمان  خليفة راشداً تام الشرعية،وقد سار على نهج الخليفتين الراشدين من قبله أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، شطر ولايته،ولكن في السنوات الست الأخيرة من خلافته،بدأ أقاربه من الأمويين يستحوذون على الولايات والأموال،ولم يكن عثمان  من القوة بحيث يسلك مسلك الإعتدال أو الإعتزال، ولا اتيحت له فرصة لذلك،فقد عمر عثمان طويلاً بمعايير عصره ،ومكث في السلطة طويلاً ،حتى ضعف ولم يعد صاحب القرار السياسي الفعلي في دولته الفسيحة الأرجاء الهشة البناء. ورغم استعداد عثمان لتصحيح الأخطاء والخطايا ،خاصة إيثاره أقاربه بالولايات والأموال،فإنَّ البطانة المحيطة به لم تكن مستعدة لأي تنازل وتصحيح. فقد وقع رضي الله عنه،في تقاطع النيران بين أقاربه المتشبثين بالسلطة والثروة،وقادة جماعات من الدهماء والغوغاء ،وانتهى الخلاف بين الفريقين، الى فوضى عارمة قتل فيها عثمان ،وانفتح مسار طويل من الفتن السياسية في تاريخ الإسلام.ثم ما زالت الفتن متصلة والحروب مترادفة كحرب الجمل وموقعة صفين والنهروان. وقد بين الباحث أن المخالفات التي وقعت في عهد عثمان، لم تكن مخالفات تأسيسية تمس قواعد بناء السلطة وشرعيتها السياسية،فقد كان عثمان خليفة شرعيأً ،وأنه لم يؤثر أقاربه بالأموال والولايات طمعاً أو حرصاً، وانما يعود ذلك بالأساس، الى عجز وضعف في شخصيته -بسبب تقدم سنه- استغلهما أقاربه.
وبعد مقتل عثمان بادر أهل المدينة الى بيعة علي بن أبي طالب ،سعياً الى ملء الفراغ السياسي ،وأملاً في استتباب الأمور ‘فكان علي هو الخليفة الشرعي الرابع. ولكن لم تُجْدِ البيعةُ لعليٍ ،وتوليه الخلافة في إخماد الفتنة، إذ اختلف الناس في أمره،كما يقول الأشعري، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته،بل تطورت الأحداث والتقى المسلمون بسيوفهم، وتقاتلوا في موقعتي (الجمل) و (صفين).وكانت معركة الأولى (الجمل)، بين من استعجل القصاص من قتلة عثمان،ومن بين هؤلاء طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم،وبين علي ومن معه، الذين رأوا أنَّه لا بد من توطيد دعائم السلطة، وتثبيت أركان الدولة حتي يمكن القصاص من القتلة المجرمين.بينما كانت المعركة الثانية( صفين) بين بعض أقارب عثمان الذين سعوا الى إبقاء قبضتهم على السلطة وتأييد حكمهم بأي ثمن،وغالبية الصحابة الذين كانوا مؤمنين بالشورى وحق الأمة في اختيار قادتها.
وبعد معركة صفين، أسفرت الفتنة عن وجهها الآخر وبرز الصراع بين منطوقين أخلاقيين ،ونموذجين مختلفين للسلطة السياسية،نموذج الخلافة القائم على الشورى والتراضي والتعاقد،ونموذج الملك القائم على الغلبة والقهر والأثرة.إذ بويع معاوية خليفة للمسلمين بعد تنازل الحسن عن الخلافة . وسمي هذا الصلح بأنه عام الجماعة، لكن ما فعله معاوية بعد الفتنة من توريث السلطة لإبنه يزيد، بالترغيب والترهيب، كان أسوأ ،لأنه مثل انحرافاً عن القيم السياسية الإسلامية،القائمة على الشورى والتعاقد بالتراضي.وبذلك انقلبت القيم، وانتصرت القوة على الحق ،والبغي على العدل، والملك على الخلافة.وخروج ثقل الأمة الإسلامية من منظومة قيم سياسية تتأسس على التراضي والتعقاد السياسي،الى منظومة سياسية تتأسس على سلطة القهر وقوة الاعتياد.وهكذا كانت نهاية حرب صفين بين علي ومعاوية، مثالاً على انتصار القوة على الأمانة، والقدرة العملية على العظمة الأخلاقية .( ص:297-301) .
فلم تكن الفتنة الكبرى التي وقعت في عهد عثمان  ،اذن، إلا "أثرا من آثار البداوة السياسية المتوارثة في المجتمع العربي قبل الإسلام، وثمرة من ثمار الفوضى السياسية التي اعتادها العرب في القرون السالفة على الإسلام" (ص: 301).
من الفتنة الى الصلح : قد وضعت الفتنة الكبري الأمة الإسلامية الوليدة في مأزق الإختيار بين الخنوع للقهر السياسي او الإندثار في الحروب الأهلية،وانتهت الحرب بصفقة "عام الجماعة" ،التي أسست للتضحية بشرعية السلطة مؤقتاً ،أملاً في تحقيق وحدة الأمة القريب ،ثم استعادة الشرعية السياسية على المدى البعيد .لكن معادلة التضحية بالشرعية لمصلحة وحدة الأمة تحكمت في الثقافة السياسية الإسلامية بعد ذلك، ولم تستطع الخروج منها إلى اليوم" (ص: 285).
ويؤكد المؤلف أن صفقة عام الجماعة – التي ضحت بالشرعية السياسية لمصلحة وحدة الأمة –كان حدثاً تاريخياً في التاريخ السياسي الاسلامي،وفي الفقه السياسي الإسلامي ،وكانت مدخلاً للانتقال من منظومة أخلاقية هي قيم التعاقد السياسي الإسلامي، إلى منظومة مغايرة تماماً هي قيم التملك والقهر" (ص: 286.)
وكان الدرس المرير من بذرة الفتنة السياسية التي بدأت في ختام عهد عثمان،هي أن الحاكم إذا أبى الإعتزال أو الإعتدال معاً،أو منعته بطانته المتواطئة من ذلك،أو دخلت على الخط قوى فوضوية ،انفتحت أبواب الحروب الأهلية .,وهكذا فتحت فاجعة مقتل عثمان أبواب الفتن السياسية في قلب المجتمع الإسلامي ،وكان اخطر نتائج ذلك الإنشقاق،خروج الأمر السياسي من أيدي نخبة الصحابة المنضبطة بضوابط الشرع،وانتقاله الى أيدي الغوغاء من الأعراب ،وهذا ما مهد لخروج الأمر من أيدي الأمة الى أيدي السلطة الملكية القيصرية -كما يقول المؤلف- التي أسسها معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص.
من الصلح الى الملك. حمَّل الكاتب معاوية بن أبي سفيان  المسؤلية عن كل الأحداث التي وقعت في عهد عثمان،وما تبعها من مخالفات سياسية ،وانتقض بسببها أساس الشرعية في الإسلام. وقرر بداية أنَّ حرب (الجمل)، كانت خلافاً بين الصحابة حول القصاص من قتلة عثمان، بين من رأى القصاص من القتلة فوراً،كعائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم، ومن رأى ضرورة تأجيل الإقتصاص منهم الى حين اجتماع كلمة الأمة واستقرار السلطة السياسية كما رأى علي ومن معه.وهذا خلاف عملي وليس صراعاً مبدئياً على القيم السياسية،ولا صراعاً على السلطة إذ لم يدعي احد ممن خرج طلبا للقصاص،أنَّ له الحق في أن تكون الخلافة له.ولم يكن أحد منهم ساعياً لقتال ،رغم سخطهم من بقاء قتلة عثمان طلقاء دون عقوبة،وانما كان العامة الدهماء الذين قتلوا عثمان هم السبب في فاجعة المواجهة غير المقصودة في حرب الجمل دون علم ولا ارادة عائشة او علي او طلحة او الزبير.ومن ثم فإن القتال الذي دار من غير علم الفريقين ،بل بتدبير طرف ثالث،إنًّما هو فتنة، رغم أن الحق من ناحية شرعية وسياسية ،كان مع علي ،لأنَّ تمييز القتلة والإقتصاص منهم يحتاج إقامة سلطة شرعية مستقرة أولا ،وكان الثلاثة ( عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم)، مخطيئين شرعاً وسياسة،لأنَّ القصاص في الإسلام لا يجوز أن يتولاه أفراد، أو جماعات خارج نطاق سلطة الدولة.( ص: 287).
اما الحرب الثانية( صفين) فقد كان فيها عنصر البداوة السياسية العربية حاضراً، في مطالبة معاوية بدم عثمان بالقتال دون تقاض ولا اقامة أدلة ،على طريقة أخذ الثار في الجاهلية ،وسببها الحقيقي سعي بعض أقارب عثمان الى إبقاء قبضتهم على السلطة وتأييد حكمهم بأي ثمن،على خلاف ما يؤمن به غالبية الصحابة من الشورى وحق الأمة في اختيار قادتها.وقد قاد مروان بن الحكم ،وهو ابن عم عثمان وكاتبه،هذا المسعي الى خلط الأمور من وراء ستار واستغلال الخلاف بين كبار الصحابة في شأن مقتل الخليفة،والتسلل تحت غبار المعركة لتحقيق هدفه من البقاء في السلطة مهما كانت كلفته،ثم تصدر معاوية هذا المسعى فيما بعد،ولم ينتهي ما عرف ب"التحكيم" الى حل ،ولم يحسم الحكمان،أبو موسى الأشعري ممثلاً لعلي،وعمرو بن العاص ممثلاً لمعاوية، الخلاف ،بعد اجتماعهما في "دومة الجندل".وقد كان يمكن أن ينتهي التحكيم الى إنهاء الحرب الأهلية،وإرجاع أمر الأمة إليها ،والإبقاء على نظام الشورى الذي سنه الإسلام ،وهو ما أقترحه أبو موسى الأشعري ،ورشح عبد الله بن عمر، ليكون خليفة للمسلمين،ولكن مطامع معاوية -كما يذهب الكاتب -كانت أسرع وأمضى ،فقد كان معاوية مصراً على فرض سلطته بحد السيف وشراء الضمائر ،ولم يكن ممثله عمرو بن العاص ساعياً في سبيل صلح يحرمه وموكله ثمرات الملك.
وبهذا شهدت صفين لحظة إنقلاب القيم ،وانتصرت فيها القوة على الحق ،والبغي على العدل،والملك على الخلافة،ووضعت تلك الحرب أمة الإسلام على حافة الإنهيار والإندثار. وعارض الكاتب ما ذهب اليه إبن تيمية وتابعه بعض المعاصرين،بأنَّ معاوية لم يسع الى السلطة قبل حادثة التحكيم،ولا نازع علياً الخلافة قبلها،وإنَّما كان يقاتل علياً طلباً بدم عثمان،خلافاً لذلك، يرى الكاتب أنَّ الدلائل التاريخية الموثقة بمعايير أهل الحديث لا تسعف هذه الدعوى ،بل تدل على أن معاوية سعى منذ اندلاع الفتنة الى أن يبتز الأمة أمرها،وينقلها من نظام الشورى الى نظام ملك قهري ،ولدحض رأي ابن تيمية ومن سار على رأيه أورد أدلة أربعة تدل على أن معاوية سعى سعياً حثيثاً الى أن يتولى الخلافة: أولها سعي معاوية لشراء ولاء أبو موسى الاشعري-ممثل علي في التحكيم- بالمناصب.والثاني :سعيه لشراء بيعة عبد الله بن عمر بالمال.والثالث :تطاوله على عبد الله بن عمر وتعريضه به يوم دومة الجندل، حين أحس انه مرشح للخلافة،والرابع تغافله عن قتلة عثمان حين استقر له الملك.( ص: 293-296).
ويقول الكاتب: "لو نظرنا الى الفتنة من منظور إجتماعي لوجدنا أنَّ الفوضى الضاربة أطنابها في الثقافة السياسية يومذاك،والمتمثلة في خروج الغوغاء على عثمان ومقتله،وما أعقب ذلك من حروب عبثية،كانت أعظم عون لمعاوية على هدم نظام الشورى الذي كان سائداً في الخلافة الراشدة،واحلال نظام القهر والجبر محله.فثقافة الفوضى هي التي ادت الى مقتل عثمان وفتح باب الفتن السياسية في الأمة،ولو كانت ثقافة القانون والنظام راسخة في مجتمع الجزيرة العربية يومذاك لأمكن تصحيح التجاوزات التي حدثت أواخر عهد عثمان ،دون ارتكاب جريمة قتله،وثقافة الفوضى هي التي فرقت الصحابة وزرعت الصراع بينهم بشأن القصاص من قتلة عثمان،ولو كانت ثقافة القانون والنظام راسخة في المجتمع ،لأمكن الإقتصاص من الذين باشروا مقتل عثمان-وهم أفراد قلائل-ضمن ما سنه الإسلام من إجراءات ولاية الدم،وإقامة الدعوى،وتقديم البينات،والحكم على المجرمين،ثم إنفاذ الحكم فيهم،ولتجنبت الأمة الفتنة وسفك الدماء. (ص: 296-297).
القوة في وجه الأمانة:
رغم مسلك معاوية المناقض للقيم الإسلامية بمعايير النص الإسلامي،فقد كان بحق رجلا سياسياً ، من بناة الدول،اذ يتسم بأهم مقومات القدرة السياسية بمعايير الثقافة الملكية السائدة في عصره.وهي الدهاء والعطاء والخبرة والتجربة،وقد لاحظ هذه الصفات التي تميز بها معاوية،بعض القدماءكالذهبي،وبعض المعاصرين كالعقاد،ووصفوه بأنه شخصية ذات قدرات عالية ، ولكن ليس شخصية عظيمة بأي حال،ويذهب المؤلف، الى أن هذا الوصف ليس وصفاً لشخصيتي معاوية وعمرو بن العاص فحسب، بل هو وصف دقيق لمرحلة الإنتقال من نظام سياسي تعاقدي الى نظام سياسي قهري. و في الفتنة الكبرى وما تلاها من ثورات ، انتصرت القدرة على العظمة.،والقوة على الحق، ،ولكن مثل هذا الإنتصار ،يظل بالمعايير الإسلامية والإنسانية،هزيمةً في جوهره وليس نصراً حقيقياً.( ص:297-301)
الفوضى في وجه القانون:
بينما جاء الإسلام بمبدأ سيادة القانون الشرعي،وتعاليه على الحاكم والمحكوم معاً،والزم المسلمين بالرد الى الله والرسول في أمور الخلاف ،كانت ثقافة البداوة والطلاقة السياسية التي اعتادها العرب تدفعهم الى التحاكم الى القوة دون تقاضي ،أو استعانة بالسلطة الشرعية،والمسارعة الى القتال في صف عشيرتهم،والأخذ بثار قتيلهم دون فحص للبينات ،ولا تقص للحقائق.وهذا يمثل الفرق بين منطق الإسلام الذي أقام دولة مطاعة على أساس الشورى والتعاقد،وسن قانوناً ملزماً للحاكم والمحكوم،وأوجب التقاضي وأخذ الحق في الدماء والأموال والأعراض عبر المحاكم،ومنطق الجاهلية الذي يقضي بالمسارعة الى حمل السلاح،وأخذ الثار من غير تحقيق في الجريمة،او تقاض نزيه بشأنها. ( 301-302 )
معالم الردة السياسية:
لقد انتصر المجتمع الإسلامي الأول على الردة الإعتقادية التي ثارت على أطرافه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم،ولكنه أنهزم أمام الردة السياسية التي نبعت من قلبه بعد اغتيال عثمان. فانتقال الخلافة الى ملك لا يمكن وصفه إلا بأنَّه ردة سياسية مكتملة الأركان.
وتحت عنوان الخلافة والملك ،حلل الكاتب المصطلحين من ناحية الدلالة اللغوية ومن ناحية عامة،وبعد التمييز بين المصطلحين استعرض بعض المؤلفات لدى القدماء والمعاصرين لمصطلحي الخلافة والملك،ومن بين هؤلاء: ابن تيمية وابن خلدون من القدماء،والمودودي وعبد السلام ياسين من المعاصرين:
فابن تيمية تحدث عن ثلاث مراتب من السلطة السياسية حسب قربها من روح النص الإسلامي:خلافة على منهاج النبوة،وملك ممزوج بالخلافة،وملك محض.وبينما رفض الأخير( الملك المحض)، واعتبره خروجاً كاملا ًعن قيم الإسلام السياسية وعن سُنَّة الخلفاء الراشدين،وذهب الى أنَّ النموذج الثاني، أو شوب الخلافة بالملك، غير جائز في شريعة الإسلام،والنموذج الثالث ( الخلافة على منهاج النبوة وسيرة الخلفاء الراشدين)، التي لا يشوبها أي مظهر من مظاهر الملك فهي واجبة ينبغي القيام بها والتمسك بها ،و اعتبر الملك كلياً او جزئيا -من البدع المحدثات في الدين . واورد الكاتب ما ساقه ابن تيمية من ادلة على ما ذهب إليه.
وحاصل كلام ابن تيمية أنَّ الخلافة على منهاج النبوة واجبةً شرعاً ويجب التمسك بها،وأنِّ الملك حرام في ملة الإسلام ،لأنَّه خروج على منهاج النبوة والخلافة الراشدة،وأن ما اضطر اليه المسلمون من القبول بالملك، يدخل في باب الرخص الإستثنائية-والضرورات التي تبيح المحظورات،لا من أصل الأمر الشرعي-والضرورة تقدر بقدرها.( ص: 315-319)
رؤية ابن خلدون: أما ابن خلدون، فقد عاش بعد عصر ابن تيمية بقليل ،وسار على نهج ابن تيمية في التمييز بين الخلافة والملك تمييزاً فكرياً واخلاقياً دقيقاً . ووصل من خلال تأمله في الأنظمة السياسية المتعاقبة في تاريخ الإسلام، الى حكم عام وهو أنَّ أكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب،إذ العدل المحض إنَّما هو في الخلافة الشرعية"،وادرك بحسه التاريخي والإجتماعي،مسار الأحداث في التاريخ السياسي الإسلامي،حيث انتقل من الخلافة الشرعية على منهاج النبوة، الى مزيج من الخلافة والملك،ثم الى الملك الخالص،وقد لاحظ أنَّ الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً،ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم إنفرد الملك حيث افترقت عصبيته عن عصبية الخلافة ". وهذا شبيه- كما يقول المؤلف- بما ذهب اليه ابن تيمية من قبل، وتمييزه بين الخلافة الراشدة، والخلافة المشوبة بالملك،ثم الملك. ( ص: 319-320).
رؤية المودودي :ركز المودودي على خصائص الخلافة الراشدة ،وأجملها في ست خصائص هي : 1- إنها خلافة إنتخابية.2- حكومة شورية.3-تجسد روح الديمقراطية . 4-سيادة القانون .5- أمانة بيت المال .6- إنها حكومة بلا عصبية من الناحية الإجتماعية.
كما رصد أهم التغيرات التي طرأت، بعد أن تحولت الخلافة الى ملك، فوجدها تتمثل في ثمانية تغيرات هي:
1- التغير في قانون تنصيب الخليفة حيث لم تكن البيعة( زمن الراشدين) حصاد السلطة ،بل كانت البيعة مانحة السلطة وسببها،وأصبح العكس هو الواقع في زمن الملوك.
2- التغير في طريقة عيش الخلفاء ،من الحياة البسيطة القريبة من الناس الى أسلوب عيش كسرى وقيصر.
3- التغير في وضع بيت المال ،من التصرف فيه بإعتباره أمانة،الى تملكه من طرف الحاكم وأسرته.
4- زوال حرية الرأي ،حيث حبست الضمائر بأقفال غلاظ، وربطت الألسنة بأربطة متينة ،بعد أن كان الناس على عهد الراشدين أحراراً في نقد الحاكم دون خوف.
5- زوال حرية القضاء.
6- انتهاء حكومة الشورى .
7- ظهور العصبيات القومية.
8- زوال سيادة القانون.
واجمل المودودي معالم التراجع الأخلاقي بعد نهاية عصرالراشدين في العناوين الكبرى التالية:
البيعة الجبرية، الملك الوراثي، طراز عيش كسرى وقيصر، احتجاب الرعاة، انعدام المسؤولية والمساءلة فيما يتعلق ببيت المال، والتحرر من اتباع الشريعة في السياسة ،وحرمان المسلمين من حقهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزوال الشورى".
رؤية عبد السلام ياسين: وعلى خطى ابن تيمية وابن خلدون، والمودودي، سار عبد السلام ياسين في كتابه :" الخلافة والملك" ،الذي هو عبارة عن محاججة أخلاقية ضد الملك ،تضمنت نظرات مهمة عن الفارق الأخلاقي بين الخلافة والملك، بالمعنى الشرعي المعياري لكلا المفهومين، وبعض النظرات التحليلية في تاريخ الإنحراف عن أهم القيم السياسية الإسلامية،والذي نتج عنه الإنكسار التاريخي الذي حدث بانتقال الخلافة الى ملك بعد معركة صفين.و دعا ياسين الى دراسة الفتنة الكبرى دراسة اعتبار ،وأوضح الآثار الأخلاقية والإنسانية الخطيرة التي ترتبت على التطور الذي أخضع للسيف رقاباً كانت حرة ،وأرغم أُنوفا كانت بعزة الإسلام شامخة " حسب عبارته.
وقد ادرك ياسين تورط فقهاء السياسة الشرعية بتبرريهم إمامة المتغلب ،وفتواهم بقبولها ،سعياً الى جمع شتات الأمة والحفاظ على وحدتها. فالفقهاء في رأيه ارتكبوا أخف الضررين ،حفاظاً على وحدة الأمة، ولكن وصفهم بقصر النظر في اختيارهم، الذي يضحى بالشرعية السياسية ،وعدم إدراكهم لسوء عاقبة ذلك الأختيار على المدى البعيد.فهم استنكروا الملك بضمائرهم ،ولكنهم خضعوا له بعقولهم خوفاً على الأمة من التلاشي.
وانتهى المؤلف الى أن جهود العلماء قدامى ومعاصرين، ،وادراكهم لأبعاد الردة السياسية ، وما يترتب عليها من تحول الخلافة الى ملك، يدل على أن القيم السياسية لم تمت في الضمير المسلم،بل ظلت بذرة حية تنتظر الموسم لتكبر وتزهر،وافقاً تاريخيا يبحث عن فرص التحقيق في الواقع ويأبى النسيان على مر الزمان .( ص: 312-323)
اما العامل الثاني الذي أدى إلى الإنحراف عن القيم السياسية الإسلامية،فقد تمثل في الإمبراطوريات التي كانت تحيط بالجزيرة العربية. ويذكر المؤلف -في هذا الصدد- أن الثقافة الإمبراطورية الرومانية والفارسية مثلت عامل تحد للقيم السياسية الإسلامية. ففي ظل الدولة الأموية لم يكن الأثر الفارسي قائماً بل كان الأثر الاكبر للثقافة الإمبراطورية البيزنطية، التي ورثها معاوية في الشام، وعمرو بن العاص في مصر،وكان لتلك الثقافة أثر في انضباط المد القبلي العربي ،وفي إعانة الدولة الأموية على ترسيخ أركانها ،وهي دولة مزجت بين روح القبلية العربية، وروح الإمبراطورية البيزنطية،لكنها لم تكن دولة مستقرة بسبب ما كان يتصارع في احشائها من صراعات قبلية وسياسية ظاهرة ومكتومة. ولكن كان هناك نموذجاً استبدادياً آخر أشد وطأة من النموذج البيزنطي،كان على وشك أن يجتاح الثقافة الإسلامية ،وهو النموذج الامبراطوري الفارسي الذي هزم العرب دولته ،وورثوا أنظمته المادية والفكرية،وكان له أثر كبير في التاريخ السياسي والفكر السياسي الإسلامي.
إن التراث الساساني ترك أثراً مزدوجاً في التاريخ السياسي، والفكر السياسي الإسلامي،: أثر إيجابي تمثل في تزويد الدولة الإسلامية بعدد من الأنماط الإدراية والبنى البيروقراطية، التي كانت تحتاجها في مرحلة نشوئها،كما أستعار المسلمون بعض التقاليد الساسانية العملية منذ العصر النبوي( كحفر الخندق) .وبالإضافة الى هذا الأثر الإيجابي، ترك التراث الساساني اثراً سلبياً في منظومة القيم السياسية الإسلامية،وأفرغها من مضمونها الى حد كبير. وتمثل ذلك الأثر السلبي في مزاحمة التراث الساساني للقيم السياسية الإسلامية ،فأسهم بذلك في سقوط الخلافة وحلول نظام ملكي قهري محلها. إضافة الى أنَّه زود الدولة الأموية ونظام حكمها القهري "بوسائل التسويغ الفكري والأخلاقي الضامن لإستقراره واستمراره؛ لأنَّ ذلك التراث كان حصاد تقاليد إمبراطورية عتيقة، تتأسس على عبادة الملوك واستعباد الرعية" (ص: 327). ورغم أن الطابع العربي الغالب على الدولة الاموية كان حاجزاً دون استيعاب الفرس ضمن قاعدتها الإجتماعية،فإن الثورة العباسية غيرت تلك المعادلة ،واكتسب الإسلام كمعتقد دخول النخب والجماهير الفارسية في الإسلام،وكان من ثمرات ذلك اصطباغ السلطة بصبغة ايرانية،على أن اللغة والثقافة والدين كانت عربية،ونُقِلتْ كثير من السنن والتقاليد ونظم الحكم الساساني ،وكان في ذلك فائدة عظيمة لبنية الدولة العباسية،وضرر عظيم لحق بالقيم الإسلامية التي اصطبغت بالروح الكسروية ،وما صاحبها من وثنية فارسية.
وقد كان بداية ذلك الاختراق الساساني للقيم الإسلامية قبل عصر التدوين،فكان اختراق المواريث الساسانية المكتوبة ،لتلك القيم، سابقاً على تدوين المدونات التأسيسية في التفسير والحديث والفقه،التي كان يمكنها أن تنافس ذلك المصدر.وقد ساعد هذان الأمران الفراغ السياسي النظري لدى المسلمين،وأسبقية المدون الساساني زمنياً- على تمكن التراث الساساني من الوجدان المسلم .كانت بداية التأثر بالقيم الساسانية في خواتيم الدولة الأموية وبواكير الدولة العباسية ،واشار الكاتب الى ظهور عبد الحميد الكاتب وابن المقفع، كنماذج لذلك الأثر الساساني.(ص: 355 وما بعدها).وتحت دموع على اطلال دارسة،لسينية البحتري الشهيرة التي رثى فيها ايوان كسرى واصفا عظمة بنائه ،مما يدل على اثر التراث الفارسي انذاك.
واختار المؤلف من ذلك التراث الساساني، الذي كان له أثر عظيم في الثقافة الإسلامية،ما عرف ب (عهد أردشير) ،لأنه-وفقا لعبارته، هو الأصل و ما سواه تفرع عنه ،ومعظم نقلة التراث الساساني كانوا مطلعين على ذلك العهد .
وبداية عرف الكاتب بالملك أردشير بن بابك بن ساسان،الإمبراطور الفارسي، ( ولد عام 180م،ومات عام 242م)، وحكم خلال الأعوام ( 224-242) ، ويعتبر مؤسس الأمبراطورية الساسانية. وتناول بالتفصيل جهوده في توحيد بلاد فارس ،ومحو آثار الإحتلال اليوناني لها،ويحمد له حفاظه على تماسك الإمبراطورية الفارسية، وتوطيد دعائمها، بما اختطه من خطط،وما أنشأه من مدن ومؤسسات،وما حققه من إحياء الديانة الفارسية،بجمعه الناس على نص ديني واحد،وترتيبه للهيئات الدينية في هرم موحد. وقد أوكل أردشير الإشراف على هذه المهمة ،لكاهنه الوفي تُنسر،الذي قام بجمع جملة من النصوص الزرادشتيه المتداولة في أرجاء الإمبراطورية المكتوب منها ،والمتداول مشافهة،ثم صاغ منها نصاً مقدساً واحداً جمع الناس عليه.
وقد كان أردشير مولعاً بفكرة خلود آثاره ،مدركاً أهمية العمل التأسيسي الذي أنجزه،مصراً على أن يورث مجده لأبنائه وأحفاده من بعده ليسترشدوا به،وحتى لا تضيع ذكرى عمله ،فيسقط اسمه من سجل الخالدين،لذلك أوصى لبنيه وصية تتضمن خلاصة فلسفته السياسية وهي التي عرفت في المصادر العربية ب "عهد أردشير".
ثم عرف المؤلف بذلك العهد الذي هو عبارة عن وصية مكتوبة تركها الملك أردشير لأبنائه وأحفاده ،وضمنها خلاصة خبرته السياسية والعسكرية في شكل نصائح أخلاقية وعملية رأى أن اطلاع الأجيال عليها يحفظ الدولة من التفكك والإندثار( ص: 371). وذكر الكاتب، ابرز مظاهر تأثير ذلك العهد ومزاحمته للقيم السياسية الإسلامية ،والتي تمثلت في:
1-ترسيخ الوثنية السياسية:وفقاً لما جاء في عهد أردشير فإنَّ الملوك أبناء آلهة،والرعية مجرد بشر"،وان أردشير ملك الملوك الذي يرجع نسبه الى الآلهة.وبناء على ذلك فإن طاعة الملوك الساسانيين ليس طاعة تعاقد -كما هو الشأن في النصوص الإسلامية،وفي الفكر الديمقراطي عموماً،بل هي حق تلقائي مصدره قدسية الملوك ،وما هو مكنون فيهم من عنصر إلهي. وتحت تأثير اللغة الفارسية ،تسربت شوائب الوثنية السياسية الفارسية الى اللغة العربية, وبدت مظاهر تلك الثقافة الفارسية في الدولة البويهية،على يد جلال الدين البويهي الذي يقال أنه أول من حاول أن يتلقب بلقب ملك الملوك، إنسجاماً مع تراث أجداده ملوك فارس. وقد نجح في استصدار فتوى من فقهاء السلطة بجواز ذلك اللقب ،رغم مناقضته الصريحة للأحاديث النبوية ،التي نهت عن التسمية بملك الملوك او الأملاك،ومن ثم كان اول من خوطب بالملك شاهنشاه،في الإسلام.
2- استخدام الدين باسم خدمته:يختلف المنظور الساساني والمنظور الإسلامي في الربط بين الدين والدولة اختلافا جوهرياً،فالمنظور الإسلامي يجعل الدولة خادمة للدبن،والدين في هذا المنظور رسالة تغيير لا أداة تبرير. وقد تأسست الدولة في الإسلام ،ومنذ العصر النبوي لتكون خادمة للدبن بمدلوله الشعائري الخاص،وبوظيفته الاجتماعية العامة( لَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
اما المنظور الساساني فعكس ذلك تماماً ،إذ يجعل الدين خادماً للدولة ،ويحوله أداة تبرير لا رسالة تغيير.وقد سعى أردشير الى تأميم الدين كما عبر المؤلف ،وأوصى الملوك من بعده، وحذرهم من رجال الدبن ،وأوصاهم بالتظاهر بالتدين ،حتى لا يشكلوا قوة إجتماعية دينية ،خارج نطاق سلطة الدولة ، وقد وضع خطة لتقليص سلطة رجال الدين، والتخلص من خطرهم، تتلخص في أمور ثلاثة:
1- أن يتظاهر الحاكم بالغيرة على الدين ليقنع الرعية بأنه أشد حرصًا على الدين من كل المتدينين مهما أخلصوا.فيجرد أصحاب المناصب الدينية من هيبتهم في المجتمع.
2- منع أي حرية دينية خارج إطار السلطة، وأي نشاط ديني لا يكون إلا تحت عينها، كي لا يصبح ضدها.
3- اعتبار المتدينين المعارضين لشخص الحاكم "أعداء الدول وآفات الملوك". ويقترح أردشير سلاح التشهير باتهامهم بالكبر والرياء، وتلويثهم بتقريبهم من الدنيا، وإلا فسفك دمهم. ومن الواضح ان السياسة الدينية لعدد من خلفاء الدولة العباسية وغيرهم، كانت تستلهم عهد أردشير،ودلل الكاتب على ذلك، مشيراً الى محنة خلق القرآن وامتحان المأمون لعدد من العلماء،مبيناً أن المأمون كان من المعجبين بأردشير والمشيدين بما تضمنه عهده من قيم وتعاليم.(ص: 282-288 ).
4- تثبيت الطبقية الإجتماعية يقر أردشير في عهده بالطبقية الإجتماعية التي سادت في التاريخ الفارسي قبل الإسلام ،ويراها حالة طبيعية وفضيلة يجب التشبث بها وترسيخها والمحافظة عليها ,ويوصي أردشير خلفاؤه بالحرص على الطبقية الإجتماعية،التي هي جزء من نظام هرمي يتربع الملك على رأسه ،وكل تغيير في ذلك النظام الهرمي يؤدي الى إنهياره ،واذا اصابه اختلال اختل نظام الدولة والدين،وانهار المجتمع بأسره. وهذا المنظور الطبقي في عهد أردشير وجد له صدىً أحيانا في الثقافة الإسلامية ،التي كانت ثقافة مساواة وهدر للمكانة الإجتماعية الموروثة ،اذا لم يصاحبها عمل صالح يحفظها ، ونرجيح لكفة الكسب الشخصي على الأنساب والأحساب ،كما هو منطوق الحديث النبوي :" من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
ولم يصل أمر الطبقية في المجتمعات المسلمة الى الحد الذي وصل اليه الفرس السياسيين ،فظلت تلك المجتمعات المسلمة أكثر انفتاحاً وعفوية من المجتمع الساساني ،لكن ترسخ فيها التمييز بين الخاصة والعامة ،تاثراً بالمواريث الساسانية.
ويرى بعض المؤرخين -كما يقول الكاتب-ان هذه الطبقية تسللت الى الفرس من الهند،وكانت في المجتمع الهندي من أعظم العوائق بين الهنود وبين دخولهم الإسلام الذي لا يقبل تمايز البشر على أساس طبقي ، ورغم ان ابن رشد لاحظ تاثر مجتمعات المسلمين بالطبقية الفارسية ،ونظام الإقطاع في المجتمع الفارسي،فلم يبلغ تأثر المسلمين الحد الذي وصل اليه لدى الساسانيين.( ص:388-391)
5- تسويغ العسف السياسي:بدأ اردشير ملكه بإبادة الأسرة الحاكمة قبله،إذ أقسم على إبادتهم جميعاً فبر بقسمه.ثم أباد اخوته رغم خضوعهم لسلطته.وأمر بقتل زوجته تخلصاً من غدرها،ثم قتل الأكراد الذين ظهروا باطراف البلاد ، وبذلك جاءت وصيته مسكونة بخوف مرضي على كرسيه ،وتسويق كل أنواع العسف ،وعدم التردد في الضرب بيد من حديد على من يخرج على سيطرتهم ،وابتدع طريقة لم يسبقه اليها أحد، لا وهي التكتم على من يلي العهد بعده ومن يخلفه حتى لا يدفعه الطمع في الملك لتعجيل موته، فالجامأ لأي طموح لدى ولي العهد الى استعجال الأمر،والتخلص منه ،عمد أردشير الى اخفاء اسم من يخلفه على العرش.
ويذهب المؤلف الى أن هذه المفاهيم انتقلت "من عهد أردشير وغيره من نصوص التراث السياسي الساساني إلى الثقافة الإسلامية عبر كتابات ابن المقفع، ومنها عبر كتاب الآداب السلطانية" (ص: 379).
وتحت عنوان صلابة الدرع التوحيدي ،بين الكاتب أنَّه رغم كل المساويء التي دخلت التراث السياسي الإسلامي من المصدر الفارسي ،ومن وثيقة عهد أردشير خصوصاً،فإن درع التوحيد في الاسلام حالت دون الخضوع التام لذلك المصدر،وخصوصاً في مجال الإعتقاد،وفي هذا السياق انتقد الكاتب آراء الجابري،ومبالغته في التضخيم من أثر عهد اردشير ،الذي تمثل حسب قوله: في تغلغل المماثلة بين الله والخليفة في اللاشعور السياسي عند المتكلمين،وتوصل الجابري الى تعميمات غريبة في هذا المضمار " إذ ذهب الى أن العقل السياسي العربي مسكون ببنية المماثلة بين الإله والأمير". وأتبعه كمال عبد اللطيف في هذا التعميم، فاعتبر المماثلة بين الإله والملك ،أصبحت قانوناً عاماً وشاملاً لمختلف تجليات العقل العربي،وهذا تعميم خاطيء وهو مبني على استقراء ناقص- كما يقول المؤلف- ومنهج انتقائي.صحيح إن الوثنية السياسية اصابت عددا من المتكلمين وكتاب الآداب السلطانية،لكنها لم تصبح ظاهرة عامة في العقل السياسي العربي ،أو العقل السياسي المسلم.( ص:399)
ونبه الى أنه لابد من التمييز بين مسارين في التراث السياسي الإسلامي:مسار قديم ترجع جذوره الى صفقة عام الجماعة ،وفيه التضحية بالشرعية لمصلحة الوحدة بمنطق الضرورة العملية،دون تسويق ذلك تسويقاً أخلاقيا كاملاً، أو تنازل عن قيم الإسلام السياسية تنازلا كاملاً،او يضفي القدسية على الحكام.وهو المسار الذي سلكه معظم الفقهاء والمحدثين.وهذا النمط من التنظير ثمرة من ثمار الفراغ السياسي العربي،والفتنة الكبرى التي نتجت عنه.وثمت مسار لاحق نشأ عن تشرب المسلمين للثقافة الإمبراطورية الساسانية،وهو مسار لم يكتفي بالتعايش مع القهر السياسي تعايشاً عملياً ظرفياً فحسب،بل اضفى على الإستبداد جبرية اعتقادية،وتسويقا أخلاقياً،وقدسية دينية،وهذا هو المسار الذي انتهجه بعض كتاب الآداب السلطانية ذات النفس الفارسي.( ص:298-299).
وأوضح ما يكون هذا الأثر في التراث الشيعي،حيث ظهرت مقالات بعض الشيعة في الأئمة والقول بولايتهم التكوينية فضلاً عن السياسية،التي تجعل للأئمة القدرة على التصرف في الخلق والرزق ،ولا يزال هذا الإنحراف موجود في هذا العصر.والسبب في عدم تغلغل تأليه القادة يعود الى حاجز التوحيد الذي رسخه الإسلام في النفوس،مما جعل استحالة اختراقه ،وما تم من اختراق له فهو حالات محدوده ( لدى بعض الخلفاء العباسيين،وملوك المغول الهنود،أو في تهويمات وردت على السنة بعض شعراء،او عقائد لدى بعض الأقليات ) ومن ثم لا ينبغي التعميم ،واطلاق الحكم على كل المتكلمين،أو على العقل العربي بشكل عام،وعلى كل فقد تصدى العلماء لهذه الحالات الشاذة والإنحرافات القليلة.
وخلاصة هذا القسم يمكن إجمالها في القول بأنَّ الفهم السديد للأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية يكمن في ملاحظة أمرين: أولهما الفراغ السياسي في جزيرة العرب التي وُلد فيها الإسلام. وان ضعف تقاليد السياسة والدولة والنظام في ثقافة العرب قبل الإسلام أثر تأثيراً سلبياً جداً في الطريقة التي تم بها تلقِّي القيم السياسية الإسلامية، وفي عجز المسلمين الأوائل عن المحافظة عليها لفترة طويلة، فاتسمت تجربتهم السياسية بالهشاشة المؤسسية، رغم عظمتها الأخلاقية.
وثانيهما :هو تأثير الإستبداد الإمبراطوري المحيط بالجزيرة العربية، والضاغط على القيم السياسية الإسلامية معنويا وبِنْيوياًّ. وهو ما أثمر صراعَ قيمٍ في أحشاء المجتمعات المسلمة، انحسرت فيه القيم السياسية الإسلامية ذات الطبيعة التعاقدية أمام القيَم الإمبراطورية ذات الطبيعة القهرية، في عصر كانت تسود فيه الروح الإمبراطورية العالم كلَّه.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.