الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي" .. بقلم: أ.د. أحمد محمد احمد الجلي
نشر في سودانيل يوم 19 - 03 - 2021


بسم الله الرحمن الرحيم
المؤلف: الدكتور / محمد مختار الشنقيطي (3/3)
بقلم: أ.د. أحمد محمد احمد الجلي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هذه محاولة لعرض كتاب " الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى الى ثورات الربيع العربي"،,للدكتور /محمد مختار الشنقيطي.على أمل مشاركة القراء في الإطلاع على ما ورد فيه من أفكار وآراء، أحسب أنَّها تستحق الإهتمام والمناقشة، وتبادل الآراء، وإجراء الحوار حولها.
تناول القسم الاول من الكتاب-كما استعرضناه في المقال الأول ::قيم البناء السياسي وقيم الأداء السياسي، في الإسلام ،ومكونات ذلك البناء وألياته. ويتناول القسم الثاني من الكتاب-كما عرضناه في المقال الثاني : مسار ذلك البناء في التاريخ، الذي مرت به الدولة الإسلامية،منذ بذرتها الأولى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وخلفائه الراشدين، وما واجهته الدولة الناشئة من عقبات عطلت مسيرتها او أعاقت نموها الطبيعي، وانحرفت بها عن تلك القيم. وشرح باستفاضة الأسباب التاريخية التي كانت وراء الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية .
اما المقال الثالث من هذه السلسلة من المقالات فيعرض للقسم الثالث من الكتاب،حيث حاول الكاتب رسم الخطوط العريضة للمسارات التي يتعين سلوكها من أجل إخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية من خلال التركيز على مسارين للخروج: مسار الإنتقال من الفتنة الى الثورة، ومسار الإنتقال من القيم الى الإجراءات.
عنون الكاتب لهذا القسم من دراسته ب: الخروج من فقه الضرورات، إمكان الزمان الجديد. وصدره بعبارة للشيخ رشيد رضا وردت في كتابه "الخلافة"، يقول فيها،" إنَّ ما فات المسلمين في القرون الوسطى ،لا ينبغي أن يفوتهم في هذا العصر الذي عرفت فيه البشرية من سنن الله تعالى في الإجتماع البشري ،ومن فوائد النظام وأحكامه ،ما لم يكونوا يعرفون " ،وفي الفصل الخامس الذي عنون له :من الفتنة الى الثورة ،علق على عبارة الشيخ رضا، بالقول:" ليست عبارة تفاؤل ساذج أو آمال مجردة،بل هي تعبير عن وعي بالإمكان الإسلامي ،وعن ادراك لفرص اللحظة التاريخية أمام القيم السياسية الإسلامية" .(ص: 408).
وتحت عنون مواريث الفتنة الكبرى: أكد الكاتب -مرة أخرى- على مركزية الفتنة الكبرى،التي سبق ان فصلها في القسم الثاني من الكتاب- وأثرها التأسيسي في التاريخ السياسي الإسلامي،وانها أهم حدث صاغ مسار الحضارة الإسلامية وحدد مصائرها السياسية،فهي الحدث التأسيسي الذي زرع الخوف في قلوب المسلمين من إنهيار دولتهم، وإندثار أمتهم ودفعهم الى القبول بالإستبداد. ثم عرَّج على الثورات الحجازية والعراقية الموءودة في القرن الأول الهجري،أو ما أطلق عليه "ثورات استرجاع الشورى"،التي انطلقت من الحجاز حيث عاش أهله التجربة النبوية والراشدة ،وأصبحوا أكثر الناس إدراكاً للفرق بين الخلافة على منهاج النبوة التي تتأسس على قيم الإسلام السياسية التعاقدية ،والملك على منهاج قيصر وكسرى الذي تأسس على الأثرة والجبر والقهر والوراثة . وذكر من تلك الثورات: "ثورة الحسين بن علي"، على يزيد بن معاوية، غضباً للدين وقياماً للحق،كما وصفها بعض المؤرخين. ومنها "ثورة أهل المدينة"، الذين قاموا لله. واكبر تلك الثورات "ثورة عبد الله بن الزبير"، الذي نجح في جمع السواد الأعظم من الأمة الى جانبه،واجمعت الأنصار على بيعته، وكان يرى الأمر شورى .وكانت ثورة المدينة وثورة مكة وثورة المدينة تحمل مشروعاً سياسياً مناقضاً لمشروع الملك الجبري والتسلط القهري.وانتهت تلك الثورات الثلاث بفاجعة بسبب ما شابها من الفوضى وسوء الإعداد ،فكانت فاجعة كربلاء نهاية ثورة الحسين،وكانت إستباحة المدينة المنورة في وقعة الحرة،نهاية ثورة أهل المدينة،وكانت استباحة مكة وحرق الكعبة ،نهاية ثورة ابن الزبير.
ومن تلك الثورات المبكرة "ثورة التوابين" في العراق بقيادة الصحابي سليمان بن صرد، ضد يزيد بن معاوية وعامله على العراق عبيد الله بن زياد. و"ثورة الفقهاء" ،بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث ضد ظلم الحجاج بن يوسف وعسفه. وانتهت ثورة التوابين بمذبحة في موقعة عين الوردة،وانتهت ثورة الفقهاء( ابن الأشعث)،بمعارك دير الجماجم.وكانت هذه الثورات جميعاً ذات رسالة أخلاقية واضحة ،وكانت تسعى الى إحياء القيم السياسية الإسلامية ،خصوصاً قيمة الشورى التي هي أهم قيم البناء السياسي، ومنبع الشرعية في الإسلام ،كما وردت الإشارة الى ذلك من قبل.( ص:412-415)
وتحت عنوان :صفين والتشاؤم الدفين: بين الكاتب أن فشل تلك الثورات،التي اعقبت وقعة صفين، وما صاحبَها من تقتيل وتنكيل، أدَّى إلى زرع تشاؤم دفين في الضمير المسلم،ودفع الى اليأس من أي مسعىً سياسي إصلاحي مهما يكن واجباً، ومن أي ثورة على الظلم السياسي مهما تكن متعينة.وتحكمت هواجس الخوف من الفتنة، والهلع من الثورات السياسية ،التي قد تتحول بعد فشلها الى حروب عبثية تمزق الأمة وتكشف ظهرها أمام أعدائها. ونتيجة لذلك الخوف قرأ عدد من الفقهاء والمؤرخين المسلمين،تلك الثورات قراءةً سلبية وأطلقوا عليها اسم الفتن، فثورة ابن الزبير اطلق عليها" فتنة ابن الزبير"،رغم إنضواء غالبية الأمة تحت رايته ،ومبايعتهم اياه اختياراً. وثورة ابن الأشعث سميت "فتنة ابن الأشعث"،رغم اشتراك عدد وافر من علماء الأمة وصلحائها فيها. وجاء هذا التشاؤم من الإصلاح السياسي أحياناً في شكل عزلة أو إعتزال وإبتعاد عن مخالطة أهل السلطة بدل السعي الى إصلاحهم ومواجهة ظلمهم بالإنكار. ولقد كان من حكمة فقهاء الإسلام أن رفضوا الفوضى العدمية والحرب الدائمة التي لا تحقق العدل،بل تستنزف الأمة في غير طائل. بينما أنَّ الفتنة في الإصطلاح القرآني هي " ايذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه حقاً،او من الإستمرار عليه. فدفع المظلوم لجور الظالم ليس فتنة،وقتال الشعوب للحكام الذين يقتلونها ليس فتنة، والثورة ليست فتنة بل هي وقاية من الفتنة،والقتال المشروع لدفع الظلم ونصرة المظلوم هو العاصم من الفتنة،الساد لأبوابها طبقاً لصريح النص القرآني:" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة "، ولكن أمراء الجور-كما يقول المؤلف- وجدوا في هذا التشاؤم واليأس من الإصلاح السياسي،فرصة للتوسع في تعريف الفتنة حتى أصبحت تشمل كل موقف ناقد وناصح يرفض السير في ركاب الظلمة،ويستبشع ظلمهم. ( ص: 417- 432).
وتحت عنوان جدلية الواجب والواقع،حاول المؤلف تحليل موقف الفقهاء والمؤرخين ،وإيجاد العذر لهم في موقفهم السلبي من تلك الثورات، فقال: " ليس من الإنصاف الأخلاقي فضلاً عن الوعي التاريخي،اتهام أهل الفقه والحديث في التاريخ الإسلامي ،بأنهم قبلوا الإستبداد جزافاً،او سوغوه تسويغاً أخلاقياً،فأغلب الفقهاء والمحدثين المسلمين،لم يسوغوا الإستبداد،ولكنهم رجحوا كفة الوحدة على كفة الشرعية،اتباعاً لنهج انتهجه الصحابة في ختام الفتنة الكبرى.ومثل الصحابة، قبل الفقهاء والمحدثون الملك بعقولهم ضرورة مصلحية ،لكنهم لم يقبلوه بقلوبهم مبدأً شرعياً.فقد ظلت ضمائرهم الأخلاقية تحت ضغط النص الشرعي ،متمسكة بالمثال السياسي الأول الذي جسدته دولة النبوة والخلافة الراشدة. واستعرض المؤلف ،آراء القاضي أبو يعلى،وأبو حامد الغزالي ،وابن تيمية وأورد العديد من النصوص التي استدلوا بها لتبرير مواقفهم،من الثورات التي دارت. (ص: 423- وما بعدها).
وادرك أولئك الفقهاء الفجوة الهائلة بين الواجب الشرعي والواقع السياسي في عصرهم، كما ادركوا أنَّ تغيير المنكر السياسي لا تكفي فيه الإستطاعة ،بل يجب أن يحقق المصلحة الشرعية من ورائه ايضاً،وأن لا يؤدي الى مفسدة أكبر منه.ولكنهم أساءوا التعبير عن الرخصة فصاغوها بلغة العزيمة،واستحال فقه الضرورة -في كلامهم-كأنه هو الأصل والمبدأ. وضحوا بالشرعية في سبيل الحفاظ على وحدة الدولة وتمزقها وإنهيارها. (ص427 -428).وحتى ابن تيمية لم يكن أقل حرصاً على وحدة الأمة من فقهاء السياسة الآخرين ،ولا كان أقل منهم فهماً لضرورة وجود السلطة السياسية في المجتمع حتى ولو كانت سلطة غير شرعية تجنباً للهرج الدائم وحرب الكل على الكل.ولكن الفقهاء الذين عبرو عن الرخصة بلغة العزيمة ،لم يتنازلوا عن المبدأ في غالب الأحيان، لذلك نجدهم يقررون صراحة أنَّ الأمة صاحبة الحق الأصيل ،رغم اقرارهم بسلطة المتغلب اضطراراً.( ص: 429).
لكن بعض علماء المسلمين ومفكريهم كانوا أعمق إدراكاً للعلاقة بين السبب والنتيجة هنا،ففهموا أن الإستبداد والحيف السياسي هما أصل الفتن السياسية ومصدرها ،وأن الوقوف في وجه الظلم السياسي قبل استفحاله هو الذي يحصن المجتمع من الفتن السياسية.( ص: 431).
مخارج فقهية شيعية: رغم أن التشيع والتسنن وليدان لنفس الأزمة الدستورية،وانهما اتبعا طريقة ذهنية للتكيف معها، فإنَّ الفكر السياسي الشيعي القديم وقع في مأزق التوفيق بين الواجب والواقع،كما حدث مع نظيره السني، وانه عبر عن الرخصة بلغة العزيمة أحياناً كثيرة، كما عبر عنها الفكر السياسي السني،ولكن اختلف موقف الشيعة في تكيف مذهبهم مع الظلم السياسي، فالشيعة نقلوا القضية السياسية الإسلامية من مجال القيم العملية الى مجال العقائد الإيمانية ، فبينما ظل جمهور المسلمين من أهل السنة متشبثين نظرياً على الأقل بمبدأ الشورى القرآني ،وبأنَّ الخليفة يجب ان يختاره الناس عبر الشورى والتراضي الحر،ذهب الشيعة الى أن تعيين الإمام يكون بالنص على إمامته،ومن ثم قالوا بامامة علي وذريته من بعده بالنص الإلهي، وليس للأمة دخل في إختيارهم. وترتب على هذا الموقف الشيعي ،أن أضفى الشيعة على ائمتهم صفة شبه قدسية،,إذ قالوا بعصمتهم كالأنبياء ،ومنحوهم ولاية مطلقة تتيح لهم التصرف في مصائر البلاد والعباد.وقالوا بغيبة الأمام الثاني عشر، ورجعته قبل يوم القيامة، الى غير ذلك من أصول المذهب الشيعي .وقد انتقد المؤلف موقف الشيعة هذا وبين ضعف ما استند اليه من أدلة.وان هذا المنظور المغالي في الأئمة يناقض ما جاء به الوحي الإسلامي من نبذ الوثنية السياسية،ومن هدم الهرمية الفرعونية،فضلاً عن مناقضته أمهات القيم الإسلامية الأخرى. وتجاوزا للواقع العملي ،لجأ الشيعة الى القول بمبدأ التقية،وفسروا بها التعارض بين الواقع والواجب. وبهذا أصبح الفقه الشيعي أكثر مرونة من علم الكلام السياسي الشيعي،إذ تغلبت الروح العملية في المنطق الفقهي ،على التجريدات النظرية في علم الكلام لديهم.وقد بدأ هذا المسار التكيفي في الفقه السياسي الشيعي مع الجدل حول العمل مع السلطة الجائرة في زمن غيبة الإمام. وقد لخص الكاتب الشيعي توفيق السيف مراحل التكيف مع عصر الغيبة في الفقه السياسي الشيعي في أطوار ثلاثة:الأول في اطار مسألة العمل مع السلطان، ثم ابتكار نظرية النيابة عن الإمام ، وصولاً الى الولاية المستقلة للفقيه".
واذا تجاوزنا الجدل الكلامي حول الإمامة ،والتخريجات العملية التي تكيف بها فقهاء الشيعة مع السلطة غير الشرعية ، ونظرنا الى الموضوع من منظور فلسفة التاريخ ،سنجد في الفقه السياسي الشيعي نفس التوتر بين الواقع والواجب ،والتعبير بالرخصة بلغة العزيمة. وبينما المنطق السني تكيف مع مايراه سلب الأمة حقها ،بهدف الحفاظ على كيان الأمة من الإنهيار،نجد أن المنطق الشيعي تكيف مع ما يراه سلب الأئمة حقهم،وهدفه الحفاظ على كيان الطائفة من الإندثار. ثم عرض المؤلف لرأي الفقيه الشيعي الإصلاحي محمد حسن النائيني،الذي جمع بين المنظورين السُنِّي والشيعي في تركيب واحد ،اذ ذهب الى أن الحاكم المتغلب غاصب لحق الإمام ،كما أنه متعد على حقوق الأمة بسلوكه السياسي الجائر،فإذا أمكن التخفيف من ظلمه للأمة ،ولو مع بقاء ظلمه للإمام ،يتعين ذلك،ويمكن قبوله.
ثم أورد المؤلف الرأي الشيعي الذي قسم المنظور الشيعي المعاصر لمسألة المشروعية السياسية الى مدارس ثلاث: المشروعية الدينية ويمثلها الخميني بقوله بولاية الفقيه ونيابته العامة عن الإمام الغائب ،والمشروعية المزدوجة ويمثلها محمد مهدي شمس الدين في قوله ،بولاية الأمة على نفسها،والمشروعية الشعبية، التي تقول بأنّ الأمة التي تحرَّرت من سلطة وسلطنة الطاغوت، تنتقل اليها الخلافة ،وتمارس دورها في القيادة السياسية والإجتماعية ، وتطبق الشريعة الإسلامية من موقع الإستخلاف في الأرض. ويمثل هذا التوجه، محمد باقر الصدر. وبين المؤلف أن التشيع العربي يجد صعوبة في استيعاب نظرية ولاية الفقيه النائب عن الإمام. ففي العراق لم تدعي المرجعية الشيعية لنفسها أي وضع دستوري يشبه وضع المرشد الأعلى الإيراني،وانما تمارس المرجعية نفوذها الواسع بإعتبارها مؤسسة أهلية لا مؤسسة دستورية،ولعل الأمر يعود -حسب راي المؤلف-الى الإختلاف التاريخي بين الثقافتين : العربية ذات الجذور العربية الطليقة،والفارسية ذات الجذور الامبراطورية العتيقة.( ص: 436)
ويبدو أن الفقه السياسي الشيعي المعاصر ،اقترب من المنظور السُنَّي في مسألة الشرعية السياسية،من خلال تسليمه الصريح او الضمني بولاية الأمة على نفسها،بدلا ًمن ولاية الأئمة أو نوابهم عليها بالتفويض الإلهي،ويأتي هذا في صيغتين: أولاهما: التمييز بين مرحلة الأئمة باعتبارها حقبة الدولة الإلهية التي كانت الإمامة فيها نصية،وتنتهي بالغيبة الكبرى،ومرحلة ما بعد الأئمة بإعتبارها مرحلة الدولة الدنيوية"، وقد اصبحت الإمامة في المرحلة الاخيرة، حقاً للأمة بسبب غياب الأئمة،وهذا هو المنحى الذي اتبعه المرجع الشيعي اللبناني محمد مهدي شمس الدين.اما الصيغة الثانية فهي أكثر عمقاً وإثارة ،وهي تسعى للبرهنة على أن فكرة الإمامة المعصومة- التي تستمد شرعيتها السياسية من الخالق لا من الخلق-بدعة سياسية.وأن الأصل في التشيع هو حكم الشورى ،لا الإمامة المتوارثة المعصومة.وهذا المسار هو الذي سلكه المفكر العراقي احمد الكاتب،وهو مسار أكثر أصالة، وأقرب الى روح الوحي الإسلامي ،والى التحرر من أعباء التاريخ .
ووفقاً للمؤلف ،إذا كان من تلاق بين الشيعة وجمهور المسلمين في مسألة النظرية السياسية مستقبلاً ،فلن يكون ذلك عبر نظرية الخمينى في ولاية الفقيه،بل سيكون عبر التخريجات الفقهية والنظريات السياسية التي صاغها النايئني،ومحمد مهدي شمس الدين،والتأصيلات الشرعية التي تبناها احمد الكاتب،والمراجعات الفكرية الساعية الى الخروج من مأزق ولاية الفقيه التي كتبها توفيق السيف وغيره من المثقفين الشيعة.( ص:437-438).
وعن عاقبة التضحية بالشرعية،قرر المؤلف أنَّ التضحية بالشرعية في سبيل الحفاظ على وحدة الدولة والوقاية من تمزقها وإنهيارها،أصبح موقف كثير من الفقهاء والعلماء كالقاضي أبو يعلى ،وأبو حامد الغزالي، وحتى ابن تيمية الذي حرم الملك ،لكن السؤال هل حقاً حققت التضحية بالشرعية هذا الهدف ؟ .يجيب الكاتب على هذا بالقول:" قد كانت ثمرة إنفصال شرعية السلطة ثمن وحدة الأمة في صدر الإسلام ،وسعي خيار المسلمين لتحقيق الوحدة بالتنازل عن الشرعية ،هي ضياع الوحدة بعد تضييع الشرعية،لأنَّ إستقرار الوحدة وإستمرارها مستحيل مع التفريط في الشرعية السياسية،حتى في صيغتها الكسروية والقيصرية.واذا استقرأنا تاريخ المسلمين نجد أن الدولة الأموية -وعلى قوتها وعنفوانها الموروث من الإندفاعة الإسلامية الأولى – كانت في حالة حروب أهلية شبه دائمة طول عمرها الذي استمر تسعة عقود،وانتهت بالحرب الأهلية الكبرى المعروفة بالثورة العباسية. ولم يكن العباسيين الذين حكموا العالم الإسلامي أكثر من سبعة قرون ،افضل حظاً من الدولة الأموية في مجال الوحدة،بل كانت دولتهم أكثر رخاوةً وتضعضاً أمام نوازع الفرقة والفتن السياسية،فبدأ ظهور دول الأطراف منشقة عليها بُعَيْد تأسيسها ببضعة أعوام.واستعرض الكاتب ما وقعت فيه الدولة العباسية من تقسيم وتشظي،وتكون دويلات في المغرب الإسلامي،بدءاً بالدولة "الأموية" في الأندلس،و"دولة الأدراسة" في المغرب الأقصي،و"دولة الأغالبة" في تونس،والتي ظهرت في أول قرون الدولة العباسية. ثم توسعت ظاهرة التآكل في جسد الدولة العباسية،واتجهت مُشَرِّقة من مغرب العالم الإسلامي،الى مركزه العراق، فظهرت الدولة الطولونية،ثم ظهرت الدولة الفاطمية التي ولدت غرباً في القيروان أولاً ،ثم استولت على مصر فاتخذتها مركز قوتها، ثم أوشك خلفاؤها الإستيلاء على بغداد عاصمة العباسيين ،لولا ظهور السلاجقة كقوة صاعدة أوقفت زحف الفاطميين.
وفي الجناح الشرقي من الخلافة العباسية،ظهرت دول شتى في فارس، وما وراء النهر، والهند: منها الدولة الطاهرية في خراسان،والدولة الصفارية في بلاد فارس،والدولة السامانية في بلاد ما وراء النهر، والدولة الغزنوية في افغانستان والهند. وقد نجحت الدولتان البويهية الشيعية، والسلجوقية السُنِّية في بلاد فارس ( 320ه/ 932م) و(429ه/1037م) على التوالي-فيما لم تنجح فيه الدولة الفاطمية من السيطرة على الخلافة العباسية ببغداد فترة طويلة،ثم ظهرت الدولة الأيوبية في مصر والشام،ثم ورثتها الدولة المملوكية.
فهذا التاريخ الطويل من التفتت والتشتت السياسي في العالم الإسلامي يدل على أنَّ عام الجماعة لم يصمد أمام حركة الزمان ،ويكشف عجز الأمة عن ضمان استمرار الوحدة السياسية للمسلمين ،رغم تضحيتها بالشرعية السياسية. وهذا يدل على أنَّ الإستبداد ليس أخف الضررين ،ولا خير الشرين،بل هو أصل الفتنة وجذرها والسبب المفضي اليها. (ص: 438-441) .
تراكم الصلابة المؤسسية" : لم تكن أعراض تمزق الأمة الإسلامية في التاريخ السياسي الإسلامي ، منحصرة في سقوط دول وصعود أخرى ،بل كانت ظاهرة في الصراعات على السلطة داخل كل دولة من هذه الدول،وهذه "الهشاشة المؤسسية"،كما أطلق عليها الكاتب ، ترجع الى بيئة الجزيرة العربية التي ولدت فيها بذور دولة النبوة والخلافة الراشدة. التي استمرت مع مسار الأمة وحركة تاريخها، الى عهد القائد صلاح الدين الذي لم يستطع التغلب على هذه الهشاشة المؤسسية رغم هزيمته للصليبيين. فقد كان جيشه غير متماسك وكانت دولته هشة،فتفككت بُعَيْد وفاته بمدة وجيزة. ولكن في فترة متأخرة من التاريخ الإسلامي بدأ يظهر نوع من الصلابة المؤسسية،لا سيما بعد سيطرة الأتراك على قلب الدولة،ابتداءً من دولة المماليك وانتهاءً بالدولة العثمانية،فقد استطاع الأتراك ان يبنو دولة حقيقية ذات بيروقراطية مركزية وجيش محترف.
وقد ورثت الدولة العثمانية تلك البذرة المؤسسية المملوكية،وتحررت من كثير من جوانب الضعف الهيكلي والهشاشة المؤسسية الني اتسمت بها الإمبراطوريات الإسلامية السابقة عليها،فكانت دولة متماسكة صلبة البناء. ( ص:444) .لكن كلاً من دولة المماليك والدولة العثمانية، عانت من مشكلة طغيان المؤسسية على حساب المجتمع،ففي دولة المماليك في مصر تضخمت السلطة العسكرية حتى كان الجيش في الواقع هو الدولة،وتلك معضلة لا تزال الدولة المصرية المعاصرة تعاني منها،كما وضح يزيد الصائغ،في كتابه: " جمهورية الضباط في مصر" ،والذي أكد فيه أنَّ الجيش لا يزال هو الدولة في مصر المعاصرة،وانتهى الى أنه لن تولد الجمهورية الثانية في مصر، الا عندما تفكك جمهورية الضباط"
اما الدولة العثمانية،فكانت تعاني من تضخم المؤسسية على حساب المجتمع ،اذ جمعت الدولة العثمانية بين المركزية القوية،ولاعبين إجتماعيين ضعاف نسبياً ،وغير منظمين خارج أُطر الدولة كما قال فوكوياما. ولذلك حينما ظهرت قوى اجتماعية منظمة في الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين،وظهرت الدعوة الى إصلاح النظام السياسي العثماني،لم تستوعب القيادة هذه التحديات المعاصرة ،وخضعوا لهواجس الخوف من الفتنة التي ظلت تتحكم في ثقافة المسلمين عبر القرون،ولعل السلطان عبد الحميد الثاني كان آخر مُعَبٍّر عن هذا الفقه السلطاني العتيق ،فرفض دعوات الإصلاح السياسي بذريعة الخوف من الفوضى،وضحي بالحرية والشرعية لمصلحة، وحدة الأمة ،فخسرهما معاً،كما يقول المؤلف.
ولم تكن نقطة الضعف الأساسية لدى العثمانيين مشكلة المؤسسية-كما يقول الكاتب-،بل كانت عجزهم عن التكيف مع عصر الشعوب وتقصيرهم في التوفيق بين وحدة الأمة التي نجحوا فيها نجاحاً باهراً -وشرعية السلطة في عصر الجماهير التي فشلوا فيها فشلاً ذريعاً.ويمكن القول بأنَّ ذلك التراث المؤسسي لدى العثمانيين، لم يذهب سدى ،فالجمهورية التركية -التي ورثت العثمانيين،نجدها اليوم متقدمة على بقية دول العالم الإسلامي،خصوصاً العربي منها-من الناحية المؤسسية ،ولعل ذلك النجاح يرجع جزئياً الى هذا التراث المؤسسي الموروث عن المماليك والعثمانيين"( ص: 441-446)
خروج على ميراث صفين:ذكر المؤلف ثورات الشعوب الإسلامية ضد الإستعمار خلال القرن العشرين ،وان ثورات تلك الشعوب كانت هزيلة ،اذ كانت الحصيلة منها، حفنة من الجنرالات الفاسدين يتحكمون في رقاب الناس، أو فوضى عارمة يتقاتل فيها إخوة السلاح على فتات غنائم الإستقلال،والسبب في ذلك أنَّ تلك الشعوب كانت ترى الظلم الخارجي بوضوح،ولكن لم تر الظلم الداخلي بوضوح مماثل ،ولا يمكن فصل هذه الظاهرة عن ثقافة الخوف من الفتنة ،التي عودت المسلمين على الصبر على الظلم السياسي مادام مقترفه ينتمي الى الإسلام.لكن هذه الظاهرة شهدت انقلاباً مفاجئاً في ختام العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ،اذ تفجرت المجتمعات العربية ، واندلعت ثورات سياسية عارمة ومتوازية في العالم العربي من مشرقه الى مغربه بعد حادثة البوعزيزي الشاب التونسي، وقرر الشباب العربي الثورة على الواقع وتغييره. والدلالة التاريخية لثورات الربيع العربي هي انقلاب المعادلة التي كانت سائدة خلال القرون ،اذ أدركت الشعوب أخيراً أنَّ سيف الأمة المشهور على رقابها لن يعود الى غمده إلا اذا سلت الأمة سيفها على رقاب حكام الجور والإستبداد. ووفقاً للكاتب، قد جاءت تلك الثورات سعياً للمصالحة مع الذات من خلال بناء الدولة المنسجمة-بتعبير هيجل-التي تتحد فيها إرادة الحاكم وارادة المحكوم،وتحقق النظام السياسي والعدل الإجتماعي،وتعبر عن هوية المجتمع ووجدانه الديني والأخلاقي، بعيداً عن حداثة القشور التي تتبناها نخب علمانية منبتة من عمقها الإجتماعي( ص: 447..).
ثم تناول تلك الثورات( التي وصفت بثورات الربيع العربي)، بالتحليل والتقييم، وبداية عرف مصطلح الثورة معناها ومبناها، وفسر ماهيتها، واسباب نشوبها ،ومعايير نجاحها ، لعل ذلك يعين على فهم افضل لمسار خروج الحضارة الاسلامية من ازمتها الدستورية.
تشريح الثورات العربية : استعار المؤلف من هذا العنوان من كتاب تشريح الثورة للمؤرخ الامريكي كرين بيرنتون ، وسعى الى تطبيقه على ثورات الربيع العربي ،من حيث الماهية والامتداد في الزمان ،والتجذر في المكان ليستعين بذلك على فهم افضل لخروج مسار الحضارة الاسلامية من ازمتها الدستورية ،لأنه كما يقول بقدر ما توضع هذه الثورات في سياقها الصحيح يمكن التنبوء بمسار هذه الازمة الدستورية ومالآتها . ثم استخلص من رؤي الدارسين خمسة تفاسير لثورات الربيع العربي:
1- فهناك من فسر الثورات بانها انفجار اجتماعي يعكس التطور الديمغرافي والحضاري في البلاد العربية.
2- ومنهم من ذهب الى أن الثورات حدثت نتيجة بحث عن العزة وانتصاراً للكرامة الجريحة.
3- ومنهم من فسرها بأنها ترجمة لتحول فكري ،وثمرة لنضج سياسي ودليلاً على توسع مساحة الوعي لدى الشعوب.
4- ومنهم من اعتبرها امتدادا لحروب التحرر الوطني ورفضاً للإستعمار السياسي الذي ورث الإستعمار العسكري.
5- ومنهم من فسر الظاهرة تفسيرا جديداً ، فذهب الى أنها أثر جانبي من آثار الإعلام الجديد ،خصوصاً مواقع التواصل الإجتماعي.
وكل من هذه التفسيرات له قيمة وقبول ، ولكنها تفسيرات جزئية،وانتهى المؤلف، الى أن جوهر الربيع العربي هو طموح الإرادة الإنسانية الى العدل والحرية ،وسعي من الشعوب الى اثبات الذات ،وتحمل المسؤلية والتخلص من عقدة الضحية ،وإمساك مصائرها بأيديها ( ص: 448-449).
وقد مال البعض الى ربط الثورات العربية بالموجات الديمقراطية التي شهدها العالم خلال القرن العشرين في بعض دول أوروبا وآسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية،لكن عالم الإجتماع والسياسة الأمريكي فرانسيس فوكوياما -حسب رأي الكاتب- كان أعمق قراءة لتلك الثورات ،اذ ذهب الى أن فهم الربيع العربي ،ومآلاته ،ينبغي قياسه على الثورات الأوربية منتصف القرن التاسع عشر،اذ توجد متشابهات عدة بين العالم العربي المعاصر قبل قرن من الزمان،وبين الثورات الأوربية. "ورغم سداد هذا الرأي ،فكان ينبغي على فوكوياما أن يمد بصره-كما يقول الكاتب-فيما قبل ثورات القرن التاسع عشر،والرجوع الى بدايات الثورة السياسية الأوربية في القرن السابع عشر،ثم التعريج بعد ذلك على عصر الثورة الأوربي ( الحقبة الفاصلة ما بين عامي 1789-1848م)،ثم ثورات منتصف القرن التاسع عشر.فثورات الربيع العربي اشبه ما تكون بثورات القرن السابع عشر في انكلترا، والثامن عشر في أمريكا وفرنسا،رغم انها حدثت في القرن الواحد وعشرين.( ص: 449-450).
الثورة معناها ومبناها: رغم وجود شبه بين الثورات الأوربية وثورات الربيع العربي ،فقد آثر المؤلف تفصيل هذا الأمر والتدقيق فيه ،ومن ثم بدأ بتحليل كلمة ثورة من ناحية لغوية،ومدلولها الإصطلاحي في التراث العربي،وفي الحضارة الغربية ،وانتهى بعد جولة طويلة في المعاجم اللغوية والشعر العربي ،وتتبع كلمة ثورة ومدلولها لدى علماء الاجتماع كابن خلدون من المسلمين،و أستاذ التاريخ الأوربي الحديث مايكل رتشاردز،من الغربيين ، الى تعريف للثورة:" بأنها حركة مغالبة سياسية قوية،ذات عمق إجتماعي كثيف، تسعى لتغيير نمط الحكم من أجل تحرير إرادة المجتمع ،وتأسيس فضاء سياسي يحقق العدل والحرية،وينقل التنافس السياسي من منطق القهر والتسلط الى منطق التراضي والتعاقد، وأن الثورات العربية هي التي تسعى الى تحقيق مبدأ التأمر في الأمير ،بتحرير إرادة الشعوب من قبضة المستبدين ،واسناد أمرها اليها بلا وصاية"(ص: 451-454) .
فغاية الثورة بهذا المعنى المعياري -ليست استبدال حكام بآخرين ،بل التأسيس لقيم جديدة في الحكم تجعل الحياة السياسية أعدل وأنبل ،وبناء فضاء سياسي مفتوح يملك آليات التصحيح الذاتي سلمياً .وغاية الثورات السياسية بالمعنى المعياري هي تحرير الشعوب لا حكمها ،وذلك ما يميز الثورة عن مظاهر الإنتقال السياسي العنيفة الأخرى مثل الإنقلابات العسكرية. ( ص: 454)
وهذا المعني المعياري في تعريف الثورة يعين على وضع معايير لنجاح الثورة ،وقد اختار المؤلف المعايير الثلاثة التي ساقها ،مايكل د. ريتشاردز ،وهي :تحقيق حرية الفرد ،وبناء نظام سياسي مرن ومفتوح،وتحسين ظروف حياة الناس،واتفق المؤلف مع ريتشاردز، في المعيارين الأولين ،أما تحسين ظروف حياة الناس، فهو في رأيه، مظهر عرضي من مظاهر الثورة،لا سيما اذا أريد به الجانب المادي،لأنَّ حياة الناس قد تسوء،وتتعقد حياتهم نتيجة لما تعاني منه الثورة والثوار من معيقات ،لكن مع تحسن حياتهم المعنوية من حيث توفير الحرية والكرامة وتحرير الإمكان الإنساني الذي يقيده الإستبداد،فقد يؤدي هذا الى تحسن مادي على المدى البعيد.
وبناء على هذا المعنى المعياري للثورة ،توجد ثلاثة أنماط من الثورات: ثورات ناجحة مثل الثورة الإنكليزية، والأمريكية، والفرنسية، وثورات فاشلة مثل: الثورة البلشفية، والمكسيكية، والإيرانية.وثورات زائفة مثل العدد الوافر من الأنقلابات العسكرية التي أطلقت عليها مسمى ثورات في القرن العشرين.( ص: 455)
اما أسباب نشوب الثورات: فقد قدم عدد من فلاسفة السياسة وعلماء الإجتماع المعاصرين تفسيرات لأسباب نشوب الثورات،واختار المؤلف منها تفسيرات عالم الاجتماع السياسي كرين برينتون ،وتتمثل فيما يلي:
1. تفسير تاريخي : يدل عليه استقراء التاريخ البشري بشكل عام، فالبشر -كما يقول كرين- يزداد وعيهم بالحرية باطراد "حتى يصبح التعايش مع الإستبداد مستحيلاً بمقتضى الوعي البشري ذاته".
2. تفسير نخبوي ،وذلك أن تهميش النخب المتعلمة ،وعدم استيعابها سلمياً في الحياة العامة ،يفتح ابواب الثورة على نفسها ،ولا وقاية من الثورة حينئذ ،الا بمرونة السلطة السياسية ،وتكيفها مع مطامع النخب المتعلمة التي هي شرارة كل ثورة ورائدها،وحاديها.
3. تفسير مؤسسي ،وخلاصته أن الدول باعتبارها مؤسسات اجتماعية اذا ضاقت عن استيعاب ما يمور في احشاء المجتمع من تغيرات فكرية وبنيوية،فإنها تنفجر تحت ضغط الديناميكية الإجتماعية،وعلى مؤسسات الدولة ان تكون مواكبة للحركية الإجتماعية.وإذ تفشل المؤسسات في التغير،قد ينشأ عدم توازن نسبي،وينشب ما نطلق عليه ثورة".
ولكل من هذه النظريات في اسباب الثورات قيمة ثمينة،لكن الثورة بوصفها ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية مركبة ،لا يمكن تفسيرها بنظرية واحدة من هذه النظريات ،واذا كان لابد من التبسيط فالأولى صياغة هذه النظريات في نسيج واحد يشكل نظرية جامعة لتفسير ظاهرة الثورة,وقد مال الكاتب الى سبب واحد يجمع ذلك ,هو تخلف الدولة عن المجتمع.فهذا هو الحد الجامع الذي تلتقي عنده النظريات جميعها،و،وقد عبرت كل من النظريات السابقة عن فكرة تخلف الدولة عن المجتمع،وصاغها منظرون بلغة فلسفة التاريخ ،وصاغها آخرون بلغة السياسة او الإقتصاد او الإجتماع،وعبر عنها آخرون بلغة الثقافة والقيم.ويؤدي تخلف الدولة عن المجتمع الى تآكل الشرعية السياسية للانظمة الحاكمة،فإذا اتسم حكام تلك الدول بالوعي التاريخي، وادركو المخاطر الناجمة عن البركان قبل ان ينفجر،وتبنوا إصلاحات وقائية توجه البركان نحوبناء مجتمعات اكثر عدلاً ورحمة،جنبوا أنفسهم وشعوبهم دفع ثمن الثورات من الدماء والأمول،وأما إن حدث العكس واتسم الحكام بالجهل وأخطأوا في قراءة الثورات وتلكؤوا في الإصلاح،وتمادوا في محاولة صده بثورة مضادة لمطامح الشعوب ،انتهى الأمر بانفجار البركان في وجوههم حمماً مدمرة،تحمل الخراب والدمار للحكام والمحكومين والدول والشعوب ( ص: 457-458).
منهج الإصلاح الوقائي:
إنَّ أهم الثورات بالمعنى المعياري ،وأعمقها أثراً في ما بعدها ثورات ثلاث هي : الثورة الإنكليزية ( 1642-1688م)، والثورة الأمريكية( 1774-1884م)، والثورة الفرنسية ( 1789-1870م) ،ومن ثم ينبغي ان يكون التركيز على عبرة هذه الثورات الثلاث للمجتمعات الإسلامية اليوم من أجل الخروج من أزمتها الدستورية.( ص: 458) فثورة انتهت بالتلاقي في منتصف الطريق بين الحاكم والمحكوم ،وهي الثورة الإنكليزية،وثورة انتصرت في وقت وجيز نسبياً،وبنت مؤسسات راسخة هي الثورة الأمريكية. وثورة سلكت مسالك دموية طويلة وأليمة وراديكالية،حتى بدت وكأنَّها محاولة للهروب من التاريخ،وهي الثورة الفرنسية،ثم شرع في تحليل كل واحدة من تلك الثورات :مسارها في التاريخ والأحداث التي مرت بها،والعقبات التي اعترضتها، وصراعها مع الثورة المضادة ونهاياتها. ( ص: 459-467).
كما حاول دارسة ظاهرة الثورات المضادة واستخراج العبر منها ،وقال :بدون دراسة الظاهرتين: الثورة والثورة المضادة، لن يتوصل الحكام والمحكومون في البلاد الإسلامية الى كلمة سواء ،ولن تستطيع القوى السياسية في هذه البلدان التواضع على سبيل للخروج من الأزمة السياسية العاصفة التي تمزق اجساد مجتماتها اليوم. ثم بدأ في درسة كل من الثورات الثلاثة:
فالثورة الإنكليزية بعد صراع طويل بين ملوكها الذي تعاقبوا على حكمها،وبين المستعمرات البريطانية في أمريكا،ركب الملك جورج الثالث رأسه،وبدلاً من البحث عن حل وسط يحفظ به وحدة امبراطوريته ويبقي بيدها المستعمرات الثرية في أمريكا الشمالية،اعلنها حرباً شعواء انتهت -بعد ثمانية اعوام من المواجهات الدموية - باعتراف بريطانيا راغمة باستقلال امريكا في معاهدة باريس عام 1783،وبهذا دفع الملك جورج الثالث بعناده وسوء حساباته الأمريكيين الى بناء هوية موحدة فيما بينهم ،والإنفصال عن الإمبراطورية البريطانية.
طريق استنزاف الذات ( الثورة الفرنسية).وتحت هذا العنوان حلل المؤلف مواقف الثورة المضادة في فرنسا ، التي حولت الثورة الفرنسية من مطالب إصلاحية تخدم الحاكم والمحكوم الى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.فقد قاوم ملك فرنسا الإصلاحات الدستورية،وخادع الثوار وهو يتظاهر بتلبية مطالبهم ،ثم حاول الهرب من البلاد من اجل الاستظهار بالقوى الاجنبية ضد الثورة،كما قاوم النبلاء ورجال الكنيسة مباديء الحرية والمساواة والاخاء التي اتخذتها الثورة شعارا لها،ولم يتنازلوا عن امتيازاتهم الا بعد فوات الاوان . ثم اجرى مقارنة بين مظاهر الثورة المضادة الفرنسية،والثورات المضادة في الثورات العربية.
وعقد المؤلف مقارنة بين ثورات الربيع العربي، وبين الثورات التي حدثت في أوروبا،خلال االقرون: السابع عشر ،والثامن عشر، والتاسع عشر: الثورة الإنجليزية ( 1642-1688) ، والثورة الأمريكية ( 1774-1884) ، والثورة الفرنسية ( 1789-1870). وبيَّن بالتفصيل مسار تلك الثورات،وكيف واجهت الحركات المضادة التي حاولت إعاقتها،واتخاذ العبرة منها للثورات في المجتمعات الإسلامية من أجل الخروج من أزمتها الدستورية،وقد انتهت كل من تلك الثورات نهايات مختلفة ،فالثورة الإنجليزية انتهت بالتلاقي في منتصف الطريق بين الحاكم والمحكوم ،والثورة الأمريكية ،انتصرت في وقت وجيز،وبنت مؤسساتها،اما الثورة الفرنسية فقد سلكت مسالك دموية طويلة واليمة وراديكالية،حتى بدت وكانها محاولة للخروج من التاريخ .(ص: 458) .
عبر الثورات الثلاث : يتحفنا تاريخ الثورات الكبرى في التاريخ المعاصر بثلاثة مناهج للتغيير الثوري :المنهج الفرنسي الراديكالي،او المنهج الإنجليزي الإصلاحي،والمنهج الأمريكي المركب من حرية الإنسان وتحرير الأوطان ،وربما يكون المنهج الأمريكي الذي جمع بين منطق حركة التحرير الوطني من الإستعمار ومنطق الثورة السياسية على الإستبداد هو الذي سيسود في العالم العربي.
ولو اريد تلخيص عبرة الماضي للحاضر من خلال تاريخ تلك الثورات، فسيخلص المتأمل في مسيرة الثورات المضادة أنَّها في الحالات الثلاث كانت رهاناً خاسراً واختياراً كارثياً على الحكام والشعوب والأوطان. وأول الثمرات المريرة للثورات المضادة في التاريخ البريطاني والأمريكي والفرنسي هي تضييع فرص الإصلاح السياسي السلمي ،والوقوع في مصائب عديدة كان يمكن اجتنابها،ورفع ثمن التغيير على الشعوب،دون ان تنجز الثورة المضادة مبتغاها في وأد الثورة وكبت أشواق الناس الى العدل والحرية ( ص:467-470).
وثمت ظاهرتان تتكرران في الثورات المضادة،هما: "اغتيال الإعتدال"، هو التحول في منهج الثورة من الدعوة الى الاصلاح الى التدمير والعنفي،وتحول الثوار من جماعة مسالمة الى دعاة الى العنف والتطرف،وهذا ما يلاحظ في الثورة الفرنسية والثورات العربية،والثانية هي "استيراد الثورة"، والمقصود به إنتقال عدوى الثورة الى الدول التي سعت قياداتها الى وأد الثورات في دول أخرى،وهذه ايضاً ظاهرة ملاحظة في الثورتين الفرنسية وثورات الربيع العربي.
وعرض المؤلف المحاور التي شكلت بها الثورة المضادة الفرنسية،وتلمس أوجه الشبه بينها وبين محاور الثورة المضادة في الثورات العربية،ومن ثم كان الحصاد في الحالين متشابهاً ومبرراً،فقد تحول الفعل الثوري بسبب الثورة المضادة،من مسعى إصلاحي منطقي الى غريزة انتقامية هوجاء وهو ما حدث للربيع العربي اليوم مع استحكام همجية الثورة المضادة وصعود السلفية الجهادية ،رداً على ذلك.
ومن الثمار المريرة للثورة المضادة الفرنسية انتقال زمام الثورة من أيدي قادتها الإصلاحيين ،الى قادتها الراديكاليين المتعصبين،وهو أمر يشبه أفاعيل بعض التنظيمات السلفية الجهادية،وتمسكها ببعض الآثار الدينية والتاريخية في الدول العربية ،بناء على تصوراتها الفقهية التي جمعت بين السذاجه والعنف،بل قد يتحول بعض القادة المعتدلين نتيجة للأثر السلبي الذي خلفته الثورة المضادة الى أناس متعصبين سفاكين للدماء ،وقد يفسر هذا أيضاً كيف تحول الشباب العربي من الإحتجاجات السلمية الى المفاصلة الجهادية .
ثم طرح المؤلف منظوره للتغيير ورؤيته للخروج من الأزمة، والتي تتمثل في مسألتين أساسيتين:
أولاهما: هي الخروج من فقه الضرورة المرهق، ومواريث الفتنة، إلى فقه النص الشرعي، واستلهام روح الثورات المباركة التي قام بها خيار الأمة في صدر الإسلام لإسترداد الشرعية الدستورية، ويؤكد المؤلف هنا أن "الإستبداد والحيف السياسي هما أصل الفتن السياسية ومصدرها، وأن الوقوف في وجه الظلم السياسي قبل استفحاله هو الذي يحصن المجتمع من الفتن السياسية" (ص: 431).
ويلفت المؤلف في هذا الصدد إلى التوتر الذي كان سائدا في مواقف الفقهاء من "جدلية الواجب والواقع"، مؤكداً أنَّ الفقهاء قبلوا "الملك بعقولهم ضرورة مصلحية، لكنهم لم يقبلوه بقلوبهم مبدأ شرعياً، فقد ظلت ضمائرهم الأخلاقية – تحت ضغط النص الإسلامي – متمسكة بالمثال السياسي الأول الذي جسدته دولة النبوة والخلافة الراشدة" (ص: 423).
ويناقش المؤلف بهذا الصدد انتفاضة الشعوب العربية في "الربيع العربي" باعتبارها ثورات لإسترداد الشرعية، وبداية لتلاشي هواجس الخوف من الفتنة التي خلفتها مواريث صفين، لتحل محلها "ظاهرة نفسية وثقافية جديدة، هي الوقوف في وجه الظلم السياسي، ومقاومته سلماً وحرباً" (ص: 446).
الكواكبي ومنطق الثورات:تحت هذا العنوان،تناول أصول العمل الثوري الناجح عند الكواكبي التي أجملها في ثلاثة أصول: أولها وضوح الغاية من الثورة في أذهان الثوار. تهيئة البديل السياسي عن المستبد قبل خوض الثورة ضده. الأصل الثاني: التوافق بين الطلائع المفجرة للثورة على خطة استراتيجية واضحة للعمل الثوري. الأصل الثالث: هو نشر الوعي بين جماهير الشعب بفضائل الثورة ومساوىء الأستبداد ،فلا يكفي توافق النخب السياسية على ضرورة الثورة،واعتبارها واجباً أخلاقياً،بل لا بد من اشهار ذلك وبثه بين جماهير الشعب واقناع عامة الناس به.(ص: 470-476).
ويرتب الكواكبي هذه الأصول ترتيباً تصاعدياً يبدأ ببناء الوعي العام من خلال تنبيه حس الأمة بالآم الإستبداد ،ويمر بالبناء النظري السياسي البديل عبر البحث في القواعد الأساسية المناسبة،وحينما تثمر هاتان المرحلتان ما يدل على نضج الظروف، فتلك علامة على أنَّ المجتمع أصبح في حالة ثورية،وحينها يصبح الوقت ملائماً لخوض المرحلة الثالثة،وهي المقاومة والمغالبة،اي مرحلة الفعل الثوري.
ويؤكد الكواكبي على أهمية الأفكار للثوار،لأنَّ الثورات في حاجة الى أفكار واضحة تكون حاديها ودليلها.وأكد على إعطاء الوقت لنضج الأفكار،كما يحذر الكواكبي الثوار من إيقاظ المستبد، على خطرهم عليه قبل أن تنضج ظروف الثورة. كما نبه الى مخاطر وجود طامع أجنبي يغتنم فرصة الفوضى المصاحبة لكل الثورات،ويتخذها ذريعة لإحتلال البلاد واستعباد العباد.فالحالة المثلى للثورة في نظر الكواكبي تتألف من أمرين :نضج الظروف الذاتية في الأمة،وعدم وجود طامع أجنبي يغتال الثورة ويقتحم قلب الأمة وهي في حالة شقاق وقتال. ( ص: 470-476).
مسارات ثلاثة للتغيير:
وبعد تشريح عميق للثورات العربية ومآلاتها، يصل المؤلف إلى خلاصة مفادها أن هذه الثورات، أمامها مسارات ثلاثة:
–المسار الاول: استمرار الحرب المفتوحة بين الحكام والمحكومين لعقود. وهي حرب ستنهك المستبدين ،وتدمر الأوطان،وتُهَجِّر الشعوب.ولعل هذا هو المسار الغالب ،لا سيما في اليمن وسوريا والى حد ما في ليبيا.وعلى غير ما تمنى الكاتب،فإن امد الثورات العربية قد طال،وقد سعت جهات اقليمية ودولية، ولا زالت،الى طول زمن الثورات وازدياد معاناة الشعوب الثائرة . وقد احتفت بعض تلك الثورات بمرور عقد على قيامها،وبلهجة متفائلة يقول الكاتب:إن الثورة المضادة قد أفلست ،ولم يعد لديها ما تقدمه للشعوب ، ما يمكن أن ترضى به أو تسكت عليه ولو مؤقتاً. ومن ناحية أخرى فإن بقاء الحرب مفتوحة،أو رجوع الأمر الى ما كان عليه قبل عام 2020،أمران غير واردين بمنطق حركة التاريخ التي بدأت في قلب العالم الإسلامي.( ص:477).
–المسار الثاني: الإصلاح الوقائي، الذي بدأت بوادره في المملكة المغربية منذ بدايات الربيع العربي. وهذا المسار متاح امام الملكيات العربية،اكثر مما هو متاح أمام "الجمهوريات العسكرية"، فلا يزال لدى الملكيات العربية من الشرعية العرفية ما يمكنها تحويله الى شرعية دستورية،دون تحميل بلدانها الكثير من آلام الإنتقال،او المخاطرة بخسارة كل شيء،ويكون ذلك بتبنى عملية إصلاح وقائي طويل المدى،يبدأ بالتحول الى ملكية مختلطة-يشترك فيها الشعب مع الملوك والأمراء في حكم نفسه-وينتهي التحول الى ملكية دستورية كاملة ،أو جمهورية ملكية "كما دعاها بعض الباحثين.
– المسار الثالث: الإنقلاب العسكري الديمقراطي. ،وبيَّن أن الإنقلاب العسكري لن يكون حلاً للمشكل الا اذا تحققت ثلاثة شروط من السبعة التي وضعها الامريكي اوزان فارول، استاذ القانون، الذي نحت مصطلح "الانقلاب العسكري الديمقراطي" :أن يكون الإنقلاب موجهاً نحو سلطة متسلطة مستبدة لا ضد سلطة شرعية منتخبة،وأن يكون استجابة لحراك شعبي مطالب بالديمقراطية، وأن يتولى الجيش السلطة لفترة قصيرة محددة ،ثم يسلم السلطة لسلطة مدنية اختارها الشعب في انتخابات حرة ونزيهة. ( ص:478). ولكن نظرية فارول عن وسيلة الإنقلاب العسكري الديمقراطي، لم تثبت كثيرأ ،ولم تثبت صحة نبؤته بنجاح الديمقراطية في مصر بعد تدخل الجيش لازالة الرئيس مبارك،وقيام حكم ديمقراطي،إذ أعقب ذلك، كما هو معلوم، انقلاب ثان للجيش اطاح بالنظام الديمقراطي،ولما يمض عام عليه،وأدخل مصر في تجربة حكم عسكري ،نكل بالشعب والثوار وقضى على كل أمل في تحقيق الإستقرار والأمن والحياة الديمقراطية التي ينعم فيها المواطن بالحرية،والسلام والعدل الإجتماعي.
وخلافاً لكل التدخلات العسكرية في الثورات العربية التي انتهت الى مآسي بالنسبة للشعوب ،ولا تزال بعض الشعوب العربية تعاني من ويلاتها الى اليوم ،اشاد الكاتب بإعجاب بالإنقلاب العسكري الديمقراطي"، الذي قام به المشير عبد الرحمن سوار الذهب في أعقاب ثورة عام 1985م،واثنى على المشير الذي -وفق تعبيره -فتح باب الإنقلابات العسكرية الديمقراطية في التاريخ العربي الحديث ،وكشف من خلال انقلابه العسكري عن زهده في السلطة،ووفائه بوعده،فسلم الأمر للشعب عن طيب خاطر.
لقد اثمر الربيع العربي الآن خليطاً من الثمار السياسية المتضاربة ،فقد فشلت الثورة المضادة ،ولم تنجح الثورة بعد ،ويبدو المشهد العربي اليوم مركباً من إصلاح سياسي واعد، وفراغ سياسي مفتوح على كل الإحتمالات ،وانسداد دموي بسبب كثرة اللاعبين وتضارب أهوائهم ،ولكن المتأمل من وراء هذا التنوع،يرى مساراً واحداً صوب الحرية، ومسيرة واثقة لا رجعة معها للدكتاتورية. ويقول الكاتب- في نبرة مليئة بالتفاؤل- أنه مهما تفعل الثورة المضادة من تأجيل انتصار الثورات ورفع ثمنها على الشعوب ،فإنَّ عبرة التاريخ تدل على أنَّ الثورة الحقيقية النابضة من وجدان الناس وأعماق المجتمعات، قد تنحني وتتعثر ،لكنها لا تتلاشى ولا تنكسر.(ص: 477-481).
ويمثل قيام الثورة وانتصار الشعوب على الحكام-كما يقول المؤلف- ،الشق الأول من حل معضلة الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية،أما الشق الثاني فيتعلق بهوية هذا الإنتصار ومكانة الإسلام في البناء السياسي الذي يعقبه،والتركيز على القيم السياسية الإسلامية في السياق المعاصر،وهو ما يتناوله الفصل السادس والأخير من هذه الدراسة،والذي سنتناوله بالقراءة والتعقيب في الحلقة القادمة والأخيرة بإذن الله.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.