( 1 ) أتابع بحكم مهنتي التي امتهنت، سنين عددا في وزارة الخارجية السودانية، أحوال السياسة الداخلية في البلاد، وأتفاعل مع قضايا البلاد وقد تصدتْ وانبرت لها، كيانات وأحزاب سياسية، قديمة ومحدثة، طرحت في مسيراتها شتى الحلول والبرامج، قصد الخروج بالبلاد إلى آفاق النماء والرقي والرفاهية. من بين هذه الأحزاب يقف حزب البعث مميزاً تجربته، بحسبانها التجربة الأولى التي تعاملت مع قضية الوحدة العربية، بجدية وصرامة وقوة شكيمة. هو الحزب الذي تمدّد في نشوئه بعد الحرب العالمية الثانية، على صعيدين، لا ينكر واقع الوطن العربي المقسم إلى أقطار مستقلة، فأقام قيادات على مستوى هذه الأقطار منفردة، ثم هو الحزب الذي طرح شعار الوحدة العربية على الصعيد القومي ، فكانت له قيادة قومية، لها من التطلعات والصلاحيات ما يفوق تلك التي للقيادات القطرية . ما قصدت هنا أن أخوض في سيرة الحزب القطري الذي عندنا في السودان . فهو الحزب الذي له من النشاط ما جرّ عليه حسد أحزاب أخرى في الساحة السودانية، خاصة في سنوات الستينيات ، كما له من العثرات والانتكاسات ما شهد بها تاريخ قريب، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في السودان. عن الشهيد محمد سليمان التعايشي، أول أمين لحزب البعث في السودان، يكون حديثي هذه المرة. ( 2 ) كنت على سنوات إقامتي في لبنان ، ألاقي العديد من القيادات البعثية التاريخية، شيبها وشبابها ، بينهم مفكرون كبار، مثل الأستاذ معن بشور المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية، وهي كيان عروبي لا يساوم ويقف سنداً للمقاومة العربية، كما فيهم الوزير اللبناني السابق وأحد معاضدي جمعية الإخوة اللبنانية السودانية، السيد بشارة مرهج، وهو أيضا حفيد لمرهج الشهير صاحب توكيلات السيارات البريطانية في السودان لزمان طويل. ضمن هذه القيادات الشابة في ذلك الزمان، الأستاذ إيلي فرزلي القيادي السابق في حزب البعث – لبنان، وقد رأس تحرير صحيفة "الأحرار"، صوت البعث القومي من بيروت، في منتصف الستينات من القرن الماضي، ثم شقيقه الاستاذ نقولا فرزلي والذي وصل إلى القيادة القومية عضواً فاعلاً فيها في سنوات السبعينات من القرن الماضي. تلك الفترة شهدت صراعات البعث في العراق وفي سوريا، وكان انقلاب 1966 حاسماً، حيث جرى إقصاء القيادة القومية، واضطرت للنزوح إلى بيروت.. هم ناشطون كعهد قياداتهم التي أسست الحركة البعثية ، وإن رفعوا رايات جديدة وشعارات مستحدثة، ولكن نواجذهم تعضّ لاتزال على انتمائهم الراسخ، وايمانهم القويّ بوحدة المصيرالعربي. تجدهم هذه الآونة، في الصفوف الأمامية يؤازرون المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية التي تقودها كتائب حزب الله في لبنان وحماس في غزة. تجدهم في طليعة المبادرين لكسر الحصار المفروض على غزة، قبل وبعد حرب اسرائيل على هذا القطاع الباسل. لكن ساقني القدر لأتعرف إلى قيادي ودبلوماسي لبناني قديم، سبعيني إسمه جهاد كرم . الرجل سفير متقاعد منذ سنوات ولكنه شعلة من النشاط ، والحرص على متابعة أحوال الساحة اللبنانية والعربية . كنت أعرف أنه سفير سابق، ولكن لم يخطر ببالي أنه كان سفيراً للعراق في البرازيل ثم الهند من بعد . سفير هو للعراق وليس للبنان . دهشتي زالت حين أهداني كتابه "حديث الذكريات:في السياسة والدبلوماسية والمرأة"، صدر عن دار رياض الريس للنشر في بيروت عام 2009، يحوي سيرته الذاتية، وتفاصيل طريفة عن انتمائه لحزب البعث ونشاطه الواسع فيه، وعن اختياره من قبل القيادة القومية لحزب البعث، وهي التي اتخذت بيروت مقراً لسنوات خلت، ليكون سفيراً للعراق في البرازيل والهند. في كتاب جهاد كرم وجدت إشارة تقدير والتفاتة وفاء من الكاتب لرجل سوداني هو الشهيد محمد سليمان الخليفة عبد الله التعايشي، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي. . ( 3 ) يذكر جهاد كرم في كتابه أن المؤتمر القومي التاسع للحزب انعقد ببيروت بعيد حرب يونيو 1967 ، وأنه وقعت خلافات خلال هذا المؤتمر، كان أحد أسبابها انقلاب سوريا في 1966 وإقصاء مؤسس الحزب ميشال عفلق. يحكي السفير كرم تفاصيل كثيرة عن دور لجنة تحضيرية جرى تكوينها في بيروت، أوكل لها مهمة التنسيق في ظل الظروف الصعبة التي عاشتها قيادة البعث بعد حركة 1966 في سوريا، مشيراً لدور بارز قام به القيادي البعثي اللبناني، نقولا فرزلي في إطار عمل هذه اللجنة وقتذاك. فيما بعد هاجر الأستاذ ميشال عفلق أمين عام ومؤسس حزب البعث إلى البرازيل، نأياً بنفسه عن الصراعات الفكرية المهلكة بين بعث العراق وبعث سوريا. يقول جهاد كرم أن أمين الحافظ لم يكن يقبل بمعالجات وسطية تنهي الخلاف بين دمشق وبغداد ، ويقول إن اجتماعات المؤتمر القومي العاشر شهدت خلافات عاصفة، إذ لم يكن العراقيون ميالون لمعالجات عسكرية عاجلة ضد دمشق وفق ما يريد أمين الحافظ، بل أن قيادة البعث بأكثريتها أرادت له دوراً وسطاً يحفظ التوازن. جرت ملاسنات ومشادات في اجتماعات بيروت والمؤسس عفلق مقيم فيها، وقد أسيء خلالها لشخصيات قيادية، من بينها الأستاذ محمد سليمان الخليفة، عضو القيادة القومية لحزب البعث (جهاد كرم ،2009 ص 144) . في أتون هذه الصراعات، رأى جهاد كرم ان يبتعد عن الساحة حتى لا تحترق أصابعه بنيرانها. ويبرر الأستاذ جهاد تحوله للدبلوماسية بقوله في صفحة 180 من كتابه "حديث الذكريات": ((أراد الرفاق العراقيون أن يسجلوا بادرة قومية باعطاء مضمون عملي لأفكارهم، فأدخلوا في مؤسساتهم المدنية والعسكرية عدداً من البعثيين المقيمين في العراق. ومن بين هؤلاء سمّوا الدكتور عبد لكريم الكراسنة من الأردن سفيراً في ديوان وزارة الخارجية العراقية، ومنه اختير سفيراً في الجزائر. طرح الرفيق محمد سليمان خليفة بالتنسيق مع الرفيق نقولا الفرزلي، في القيادة القومية، أمر انتدابي إلى وزارة الخارجية العراقية وتعييني سفيرا فيها .)) إذاً فإن الرفيق السوداني الشاب، كان يملك صلاحيات واسعة بصفته عضواً فاعلاً في القيادة القومية لحزب البعث في بغداد، وله رأي نافذ في تعيين سفراء قوميين للبعث في بعض السفارات الأجنبية . وإنها لتجربة فريدة في ترجمة شعارات الوحدة إلى واقع ملموس. تسترجع ذاكرتي توجّهات سادت منتصف السبعينات المايوية في السودان، للتنسيق بين سفارات مصر والسودان في اطار تجربة التكامل بين البلدين، وإن لم تمتد إلى الاكتفاء بسفير واحد للبلدين في سفاراتهما بالخارج. تجربة البعثيين في ذلك الزمان، والتي كان الراحل محمد سليمان أحد رموزها، هي تجربة تستحق الوقوف عندها لدلالاتها المهمة والوطن العربي يخوض مواجهات عسكرية ودبلوماسية في الأعوام التي تلت هزيمة يونيو1967 ، يبحث عما يجمع ويوحد لا ما يبقي الوطن شتاتا ممزقا.. ( 4 ) ماذا يقول السفير الرفيق جهاد كرم عن استشهاد الرفيق محمد سليمان ..؟ محمد سليمان الخليفة عبد الله التعايشي ، هذا السياسي الجسور الذي رأى بثاقب نظره ذلك الخيط الذي يربط بين الثورة المهدية والثورة العربية المعاصرة، هو الذي يقول عنه بيان صدر في عام 2009، عن حزبه في ذكرى رحيله، أنه الذي (( تنسّم عبق الثورة المهدية من مصادرها الأولى فإستجاب بعفويةٍ لنداء الجذور العميقة الضاربة في أرض اللغة والتاريخ ولرسالته الدينية التي تجمع بين شقي الزمن والجغرافيا، وبين أعظم تجليات الحركة الوطنية السودانية، كما جسّدتها حركة البعث في مواجهة الرموز السلبية الداعية إلى تفريغ ثورته من دلالاتها الوطنية بإسم الإستقلالية الزائفة وإنكار دلالاتها العربية بإسم الإسلامية المجردة قسراً عن حاملها القومي. راح الفتى المهدوي يتخلق رمزاً إيجابياً منذ تفتح وعيه، عندما إنحاز إلى مسؤولية التراث بدلاً من جاه الوراثة، وغربة التراث المهدوي المتجمد عمداً رصيداً للتخلف والإستقلال لتتكشف أمام بصيرته وعود المستقبل ..)). هو حديث حمل من الموضوعية شيئاً، ومن الحميمية الثورية شيئاً كثيرا. بعد حركة الرائد هاشم العطا الانقلابية في عام 1971، قضى القيادي محمد سليمان نحبه في حادث سقوط طائرة عراقية خاصة، كانت تحمله وعدد من رفاقه من بغداد إلى الخرطوم. لكن دعني أورد لك فيما يلي رواية الرفيق كرم في الأسطر التالية نقلا أميناً من صفحة 150من كتابه "حديث الذكريات"، (بيروت،2009): (( كان الحزب ومن خلال فرعه في السودان ووجود محمد سليمان، عضو القيادة القومية، ممثلاً له في العراق، قد شارك في محاولةانقلاب ضد حكم النميري بالاشتراك مع الحزب الشيوعي السوداني وقوى مدنية وعسكرية ، من بينها فاروق حمد الله. المعلومات الأولية أكدت نجاح الانقلاب، فأراد محمد سليمان أن يستغل ذلك، فأقنع الرفاق في العراق، وهم لم يكونوا بحاجة الى إقناع، بأن تذهب طائرة تحمل بعض العناصر من أجل إمداد رفاقنا في السودان ببعض الخبرة. فاتخذ القرار بتسرع ودون تفكير وروية، وتهيأت مجموعة من العناصر، بالاضافة الى محمد سليمان، منهم صلاح صالح عضو المكتب العسكري، وسمير عزيز النجم عضو القيادة، وحمودي العزاوي من الأمن وآخرين، للذهاب إلى السودان للاستطلاع وتقديم النصح ومحاولة تحسين شروط الحزب في هذه الثورة. اختيرت الطائرة وأكد طيارها آنذاك أنه متعب ولم ينم منذ ثلاثة أيام. وكان الجواب لا تكترث فنحن سنذهب ولا نحتاج الى العودة السريعة. أقلعت الطائرة وعندما وصلت أجواء السودان ، لم يسمح لها بالهبوط. ويبدو أن المحاولة قد فشلت واستعاد النميري السيطرة على الوضع. وفي طريق العودة وعند الهبوط في جدة تعرضت الطائرة لحادث بسبب تكاثر الضباب، فقتل معظم الركاب ومنهم محمد سليمان وصلاح صالح وحمودي العزاوي ولم ينجُ إلا سمير عزيز النجم الذي ذهب الى مقصورة الطائرة ليتباحث مع الطيار ولم يشأ ازعاج محمد سليمان بايقاظه ! )) انتهت رواية الرفيق جهاد كرم هنا ولم يشأ هو أن يفصح لنا بمصدر روايته عن الحادث، وإن كان ممكناً وبقليل نظرٍ إلى القرائن، أن ندرك أن مصدره هو رجل الأمن سمير عزيز نجم ، الوحيد الذي نجا في الحادث. نعرف شائعات كثيرة دارت حول استشهاد الرفيق محمد سليمان الخليفة، ولكن رواية الرفيق السفيركرم هذه تلغي جميع نظريات المؤامرة حول حادث الطائرة التي قضى نحبه فيها في يوليو 1971، وبعيد ساعات من عودة الرئيس نميري، واستعادته السيطرة على الأمور في الخرطوم، بعد فشل انقلاب الرائد هاشم العطا في يوليو 1971 . تؤكد هذه الرواية أن لحزب البعث – السودان يد في الإنقلاب الذي دبره الحزب الشيوعي ضد حكم جعفر نميري آنذاك. ( 5 ) أعادنا كتاب الرفيق السفير جهاد كرم المشوّق، إلى أيامٍ صعبة في السنوات التي تلت هزيمة يونيو 1967 ، والوطن العربي يعتصر حزناً كبيراً بعد الخسارة الفادحة . بعد تلكم الأيام رحل الزعيم الرمز جمال عبد الناصر، وتوزّع الهمّ البعثي شرقاً وغربا. لدمشق همّها الدائر حول الجولان المحتلة، والعراق في بوابته الشرقية، يتأهب لمنازلة ايران لحسم نزاعاته التاريخية في "قادسية" جديدة. حزب البعث بقيادتيه القطرية في البلدين، وقيادته القومية التي تأثرت بتشققات السياسة والتباساتها، دفع ثمناً في تجاوز محن هذه الفترة الحرجة ، وكان انقلاب السودان في يوليو 1971 همّاً إضافياً. رحيل الشهيد الرفيق محمد سليمان الخليفة(1940-1971)، أمين سر حزب البعث في السودان وعضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، على هذا النحو المأساوي، كان ثمناً غالياً وقاسياً على حزبٍ شكل حضوراً لافتاً في الساحة السياسية السودانية والعربية. برغم رحيله المأساوي، شاباً تجاوز الثلاثين بقليل، ستظل ذكراه حية، تذكّر بدورٍ كان لنا يوماً ما في ساحات السياسة في الوطن العربي. يتذكر دوره عرب في لبنان والعراق، ولكن نتوق هنا لأن نقرأ سيرته ونتعرف على دور لعبه في قيادة حزب كان له بالغ التأثير في المنطقة وفي الوطن العربي. الخرطوم- 20 أبريل 2010 عضو القيادة القومية وأمين سر حزب البعث العربي الإشتراكي قطر السودان من موقع مكتب طلاب البعث - السودان ولد الشهيد في يوم الإثنين الموافق 14/ 9 / 1940م، بحي الأمراء بأم درمان في ذات المنزل الذي قضى فيه جده لأمه، الأمير يونس ود الدكيم ، السنوات المتبقية تحت الإقامة الجبرية التي فرضها عليه الإنكليز. المراحل الدراسية للشهيد:- دخل مدرسة الراهبات وكان عمره 3 سنوات ونصف وتعلم مبادئ اللغة العربية والإنكليزية. وإلتحق بكمبوني الخرطوم وكان عمره 6 سنوات ، وفيها تفتحت ميولة للثقافة أكثر. عندما كان عمره 9 سنوات كان رئيساً للجمعية الأدبية، وكان إهتمامه بالقراءة والإطلاع كبيراً جداً، وكما كان له إهتمام بلعب التنس. وإلتحق بمدرسة الفاروق ( القبطية حالياً ) وعمره 12 عاماً ، وقد حاز على شهادة تقديرية منها نتيجة تفوقه في منافسات التنس. إرتبط بحزب البعث منذ إرهاصاته في أوائل الستينيات وهو طالب في جامعة القاهرة فرع الخرطوم ( النيلين حالياً ) . انتقل لجامعة دمشق عام 1964م حيث اضطر لقطع دراسته لتفرغه للعمل الحزبي السري في دمشق بعد إنقلاب عام 1966م ضد سلطة الحزب. jamal ibrahim [[email protected]]