بسم الله الرحمن الرحيم ! بقلم الكاتب الصحفى والباحث الأكاديمى عثمان الطاهر المجمر طه / باريس [ ربى زدنى علما } [ ربى أشرح لى صدرى ويسر لى أمرى وأحلل عقدة من لسانى يفقه قولى ] بدأ التيار القومى العربى يتحسس خطاه فى الساحة السودانية مطلع الستينات متأثرا بتجربة الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر ، وكان ظهوره أول الأمر فى الوسط الطلابى أثناء حكم الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود ، وكان التيار البعثى آنذاك جزءا من التيار القومى الناصرى إذ بقيت العلاقات ودية للغاية بين الجانبين حتى بعد إنهيار الوحدة بين مصر ، وسوريا فيما سمى الجمهورية العربية المتحدة . وفى نحو العام 1960أو 1961م بدأت الخلية الأولى فى تنظيم البعثيين السودانيين البحث عن صيغة تنظيمية فاعلة وكان الأستاذ بدر الدين مدثر يتزعم ذلك النشاط محاطا بزملائه شوقى ملاس { يقيم فى لندن } ، والمرحوم محمد سليمان الخليفة ، وهو حفيد رئيس الدولة المهدوية التى قضى عليهاالغزو البريطانى سنة 1898م إلى جانب قيادات أخرى منهم عبد العزيز حسين الصاوى ، ومحمد على جادين ، والمحامى { الصادق الشامى } رحمة الله عليه ، وغيرهم غير إن بداية البعث السودانى كان محكوما عليها بالبطء إذ أن الجوالفكرى الذى يسود البلاد لم يكن عروبيا بوجه خاص . كما أن نفوذ الحزب الشيوعى السودانى ، وتنظيم الأخوان المسلمين كان يهيمن على الساحة العقائدية خصوصا الوسط الطلابى وهكذا إضطر البعثيون الأوائل إلى إطالة أمد زيجتهم مع الناصريين التى عرفت بتجربة { الإشتراكيين العرب } وأمكن ذلك بفضل التوازن بين البعثيين ، والناصريين مما أتاح إستمرار هذا التحالف حتى إندلاع ثورة تشرين الأول { إكتوبر }1964م التى أطاحت بالفريق عبود . بدأت الحركة البعثية تكتسب شكلا جديدا بعد التغيير السياسى الذى حصل فى البلاد خصوصا أن معظم عناصرها التأسيسية تخرجت فى جامعتى الخرطوم ، والقاهرة { فرع الخرطوم } وبدات تلج سلك الحياة الوظيفية ، وبدأت هذه المجموعة الصغيرة تصدر نشرة سرية عنوانها { وعى الطليعة } كانت توزع على نطاق ضيق لمعالجة القضايا الخاصة بالبعثيين . وفى 1965م عقدت الحركة أول مؤتمر تنظيمى لها تلاه مؤتمرها الذى عقد سنة1968م ، وإستمر صدور { وعى الطليعة } حتى العام 1975م ، وشيئا فشيئا بدأت النواة البعثية فى السودان تبحث عن أداة عمل منظم قادرة على إستخدام مقدرات أيدولوجية تتيح للبعثيين مناطحة التيارات الأخرى والصمود فى وجهها . وكان الفكر الناصرى يفتقر إلى الإيدولوجيات على رغم الشعبية الهائلة لزعيمه فى معظم الدول العربية لذلك لم يشأ البعثيون البحث عن صيغة جديدة لتعزيز تحالفهم مع الناصريين كما أن ترددهم وخوفهم كمواطنيين سودانيين من اليد المصرية وراء التنظيم الناصرى قادهم إلى أن صيغة { حزب البعث } هى الأقرب إلى تلبية حاجتهم ، وهكذا بدأ التنظيم الوليد يقوى ، ويكبر حتى صدر أول بيان بإسمه سنة1975م ، وهو البيان الذى يرى المؤرخون السياسيون فى الخرطوم إنه كان إيذانا ب { تبعيث } حركة الإشتراكيين العرب . ومع أن عملية التبعييث إرتبطت بإختيار البعثيين السودانيين الإنحياز إلى القيادة المؤسسة للحزب { الأب } التى إنتقلت من سوريا إلى العراق إلا أنهم لم ينتبهوا منذ البداية إلى ضرورة معالجة مسألة إستقلال القرار { البعثى } السودانى عن { القيادة القومية } وفضلوا فى غمرة صعوبات التأسيس أن يتجاهلوا أيضا تحديد موقفهم فيما يتعلق بهوية السودان . لا يمكن إلقاء تبعة تأجيل بث هاتين المسألتين على مؤسسى { البعث السودانى } فهما لم تكونا أشد إلحاحا من قضايا أخرى كما أن تجاهلهما لم يحدث تأثيرات عكسية فى الحال بسبب الإنهماك فى النشاط السرى ، والنضال السياسى ، وطبقا لقيادات سودانية ساهمت فى تأسيس النشاط البعثى السودانى فإن مشكلة التمويل ، وتأثيرها فى إستقلال القرار القطرى لم تكن قد نشأت أثناء سنوات البداية بل كان بعثيو السودان يقومون بتحويل مبالغ مالية فى الستينات إلى أعضاء القيادة القومية أثناء إنقسامها الحاد. ويقول قيادى بارز فى التيار البعثى السودانى : كنا ننظر إلى التنظيم فى بغداد بإعتباره حزبا ، ولم يكن يهمنا العراق كدولة كان هناك فصل تام بين العمل الشعبى ، والرسمى وهو مبدأ بقى ساريا منذ الفترة التى سبقت إستلام الحزب للسلطة فى العراق ! غير أن الحزب ظل على صلة وثيقة بالقيادة القومية فى سوريا والعراق ، وأتاح تماسكه ، وإستناده إلى خلايا صغيرة ‘ وفرق وشعب بقاء التنظيم من دون أن يتأثر بالشقاق الذى حصل بين دمشق ، وبغداد بل أتاح ذلك قيام البعثيين السودانيين بدور فى مساعدة القيادة القومية على حسم مشكلات تنظيمية فى أقطار أخرى . ويذكر فى هذا السياق الدور الذى قام به القيادى البعثى الراحل محمد سليمان خليفة فى تأمين القيادة القطرية للحزب ومقاومة الإنقلاب العام 1966م فى دمشق ، وهى الأحداث التى قتل فيها الطالب السودانى حسنى أبو زيد ، وبعد إستتباب الأوضاع إختير محمد سليمان الخليفة فى1968م عضوا فى القيادة القطرية القومية لحزب البعث ، وتم تهريبه من سوريا إلى لبنان حيث حضر مؤتمر القيادة الذى عقد عامذاك فى بيروت ، ويذكر أن الخليفة ، وهوحفيد الخليفة عبد الله التعايشى الذى حكم السودان من 1886م إلى 1898م لقى مصرعه فى ظروف غامضه عام 1971م عندما تحطمت طائرة عراقية ذكر أنها كانت محملة بالأسلحة فى طريقها من بغداد إلى الخرطوم لدعم الإنقلاب الشيوعى الذى تزعمه الرائد هاشم العطا ، ولم يدم سوى ثلاثة أيام تمكن بعدها الرئيس جعفر نميرى من إستعادة سلطته ولم يكن موقف اليسار السودانى بوجه عام مطمئنا للبعثيين غير أنه كان عمليا أقرب التيارات إليهم كما أنهم على رغم سلسلة الإنقلابات العسكرية التى شهدها مهد البعث { سوريا و العراق } كانوا حذرين من فكرة تنفيذ إنقلاب فى السودان ، ومع هذا فهم لم يتخذوا موقفا مناوئا لنميرى ، وحاولت جماعة منهم تأييده علنا غير أن بقيت الجماعة تحفظت عن ذلك ، وبذلك دب الخلاف سريعا بين نظام نميرى ، والبعثيين خصوصا فى الفترةالمبكرة من عمر النظام حين بدأ متحمسا للعروبة ، والقومية كانت عروبته ناصرية شديدة الإلتصاق بالقاهرة ، وسرعان ما إنعكس الخلاف بين مصر الناصرية والعراق البعثى على العلاقات بين الشيوعيين ، والناصريين السودانيين ، وبين البعثيين ، ويعتقد مراقبون أن قرار البعث السودانى إبداء معارضته لنظام أيار { مايو } 1969م إثر تلك الخلافات أتاح له أن يتحول إلى حركة سودانية فاعلة تأت لها الإنتشار فى الأرياف والتمدد فى قطاعات القوى الحديثة والعمال . وهكذا أمكن لهذه المنظومة العقائدية الصغيرة أن تقوم بدور مؤثر فى تأجيج المعارضة ضدنظام النميرى حتى سقوطه فى عام1985م وعزز ذلك الدور بتحالفه مع الحزب الإتحادى الديمقراطى بزعامة المرحوم الشريف حسين يوسف الهندى ، وأتاحت تلك الخبرة البعثية بالنظام مساهمة بعثية فاعلة فى تصفية أثار عهد النميرى ، ومواجهة التيار الإسلامى الذى يعتبره البعثيون من مقومات تطور السياسى والإجتماعى فى البلاد ، ونجح البعثيون أثناء العقد الأخير من عمر نظام نميرى فى دفع ناشطيهم للإلتحاق بالقوات المسلحة ، ونقابة السكة حديد التى كانت حكرا للشيوعيين وحدهم . وإستغل البعثيون تلك السنوات فى بسط عضويتهم فى مناطق غرب السودان حيث تتعايش قبائل عربية ، وزنجية ، وعلى رغم غلبة السحنة الزنجية على القبائل الغربية فإن المحللين يرون أن نجاح البعث فى إستقطاب تأييد هنالك يٌعزى إلى وجود العنصر العربى بشكل فاعل ، ومؤثر كما أن غالبية سكان الغرب السودانى موالون أصلا لحزب الأمة الذى يتزعمه آل المهدى ، وهم معادون تأريخيا للناصرية فوجدوا أن الفكر البعثى أقرب إليهم من قومية عبد الناصر وحين أٌجريت أول إنتخابات نزيهة فى عام 1986م بعد 16 عاما من الحكم العسكرى أخفق حزب البعث فى الحصول على الأصوات الكافية لدخول أى من مرشحيه الجمعية التأسيسة { البرلمان } برغم الأموال الطائلة التى أنفقها البعثيون على حملاتهم الإنتخابية فقد بدأ واضحا أنهم كانوا أحرص على إشهار الحزب ، وتعزيز نشاطه من الفوز بمقاعد نيابية . بقلم الكاتب الصحفى والباحث الأكاديمى عثمان الطاهر المجمر طه / باريس