شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستئناس بالذئب الذي لم يأكل يوسف في متاهات "نسيان ما لم يحدث": الجزء الثاني من ثلاثية قراءة "نسيان ما لم يحدث" .. بقلم: أحمد حسب الله الحاج
نشر في سودانيل يوم 01 - 04 - 2021

"وعوى الذئب فاستأنست بالذئب الذي عوى ..." الأحيمر السعدي
(1)
كنت قد كتبت في مفدمة مقالتي التي حملت عنوان "البحث عن الذئب الذي لم يأكل يوسف في متاهات نسيان ما لم يحدث" أنه من بين أصدق وأبلغ الأحكام النقدية في الأدب العربي ما صدر عن جرير حول الأخطل: "أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركت له نابين لأكلني." وأقرب أكثر في الزمان والمكان أجد من أجمل وأصدق الأحكام النقدية في الأدب السوداني ما سمعته من الأستاذ محمد علي عمارة، صادراً من زعيم وشاعر المرغوماب الشيخ عبد الله ود حمد ود شوراني وهو يستدعي صولاته وجولاته مع أنداده من فحول شعراء البطانة الذين كانت له معهم مجادعات ومساجلات. فقد عرف أنه من حين إلى آخر يلتقي فرسان الفعل وسادة الكلم فيتباطنوا بسياط الفصاحة، إذ يبدأ أحدهم شاديا برباعية من الدوبيت ويصبح لزاماً على الآخرين مجاراته دون تمهل على ذات الوزن وكامل القافية وتمام الروي. وتعتبر النفس الرعوية المرهفة، التي تسمع قبل أن ترى، الذي يعجز عن المجاراة خاسراً، ولكنها لن تصرخ بذلك، بل ولن تصرح، وغاية ما تفعله هو التلميح لأنها تعي تماماً قواعد اللعبة التي من شأنها أن تجعل من مغلوب اليوم غالباً في الغد. ويحكي عمارة أنه سأل ود شوراني، وفي باله الصادق ود آمنة وأحمد عوض الكريم أبو سن: "أشعركم منو؟" ويضيف عمارة: أطرق ود شوراني قليلاً، ثم قال: "أنا، إن بديت!" ورغم مرور السنين لا زلت مأخوذاً ببلاغة الاختزال وهو يجزل، وبروعة الادعاء وهو يجمع في رسن واحد كلمات تعير عن قيم الفخر والصدق، والزهو والزهد، والمباهاة والتواضع. فمن جهة يمتلئ الرد بثقة الشيخ الشاعرفي نفسه، ومن جهة أخرى يعكس وعي الشاعر الشيخ بالمعطيات الموضوعية التي تمنح الأفضلية للذي يبتدر المجادعة، لأنه يكون بالضرورة قد أعد عدته لها، وتهيأ لها بتوخي القافية الحرون أو سهلة القياد، والفكرة المستعصية أوالطيعة، وما يحيط بكل ذلك من مفردات ومعان قواف وجميع ما يعينه على أن يقول شيئاً يلامس ذرى المساديرالتي كان الحردلو يتغنى بها جاعلا النجوم تخر من شاهق وهي تطارد شياطين الشعر في مشارق البطانة ومغاربها.
(2)
من جهتي لم أستطع أن أسأل عيس الحلو يوماً ما سأله عمارة لود شوراني لعلمي أنه لن يكون بمقدوره أن يرد بما قاله ود شوراني، ليس لأنه أكثر تواضعاً أو اي شيئ آخر مقارنة بالشيخ الشاعر، ولكن لأن المجال الذي أصدر فيه ود شوراني حكمه لا يتيح نفسه في ساحات القصة والرواية والنقد. ومع هذا كلما استحضرت مسهامات عيسى الحلو الفذة أجدني استعيد كلمات ود شوراني في وصف جمله العنافي وقد حاز قصب السبق في أحد مضامير البطانة. كنت استرجع تلك الأبيات وكأني اقولها لعيسى الحلو:
يا اللَّخَدَرْ عَنانيِف الجَري النُدَّارْ
وجَنْ وراك دايرات خلاس التارْ
وكتين جَرنْ مَيسْ العِنادْ الحَارْ
جِيتْ وشك خلا وضهرك وراهُ كُتَّارْ
نعم في ساحة الأدب السوداني التي تزدحم بعنانيف القصة والرواية والنقد يأتي عيسى الحلو كل مرة "ووشه خلا وضهره وراه كتار."
(3)
كما كنت قد ذكرت في الجزء الأول من هذه الثلاثية التي أحاولها ساعياً لاستجلاء كنه بعض العلاقات المتداخلة بين السرد والخطاب في "نسيان ما لم يحدث" عدة أشياء مررت عليها مروراً عابراً، وأعود إليها هنا معتقداً أنني قد تجاوزت مرحلة "البحث عن الذئب الذي لم يأكل يوسف" ووصلت إلى مرحلة "العثور" عليه، والذي قلت أنه قد يكون أمراً ممكناً إذا أحكم المرء التأمل وأجاد الكتابة وأحسن الإصغاء. وأظنني قد حاولت، ولا أدعي أكثر من ذلك. كما كنت قد حاولت تبرئة ساحة عيسى الحلو مما أرى أنه آفة النقد السوداني وهو الابتسار الذي له أعراضه وظواهره وخباياه التي تتخفى مرات في سره وتتبدى مرات أخرى في علانيته. وعيسى الحلو ينسل كما تنسل السبيبة من بين عجين الابتسار المكون من طحين اللغو ممزوجاً بمرق الملق.
(4)
وعيسى الحلو يستخدم في مساهماته النقدية لغة على مستوى عالٍ من الجاذبية والتعاطف والبصيرة والحساسية. هذا على مستوى الإفصاح والتعبير. أما على مستوى التقنيات والأهداف والغايات فهو لا يلوك الاجترار، ولا يحرص على إعادة التدوير، ويتجنب تهنئة الذات. ولا يرتاح متكئاً على العمومية Generic التي تصطنع الخصوصية تمويهاً باعتماد حيلة اختيار مقتبسات نقدية يمكن أن تلصق بأي نص دون مسوغٍ أو مبرر لتطبق عليه "البروكرستية"، والتي هي القولبة الجبرية، وإيجاد التطابق المتعسف، وفرض الأحكام المبيتة التي قد تنطبق على نص بعينه كما يمكن أن تنطبق على سواه. ومدلول هذه الممارسة مأخوذ من اسم بروكرست الذي هو شخصية من الميثولوجيا الإغريقية حيث كان حداداً وقاطع طريق من أثيكا يهاجم الناس ويقوم بمط أجسادهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوال أجسامهم مع سريره الحديدي. وكما يفر عيسى الحلو من االبروكسرتية كما يفر من الأسد، فإنه يفر أيضاً من الكرونولجية والتي هي ممارسة يستعيد فيها كامل تاريخ الرواية السودانية كلما تحدث عن عمل روائي، فيتحدث عن ملكة الدار محمد عبد الله، ويشير إلى عثمان محمد هاشم ويتوقف عند خليل عبد الله الحاج وغيره قبل أن يصل أخيراً ومتأخراً إلى النص الذي هو بصدد الحديث عنه.
(5)
هذا ما ظل يفعله عيسى الحلو مع الآخرين، ولكن هل هذا هو ما يفعله الآخرون معه؟ ودون طويل تفكير يمكن القول إن ما يفعله معه الآخرون لا يوازي ما يفعله هو مع الآخرين، ولكن ليست هنالك جدوى في الشكوى من ذلك. فالذي يأتي منهم خيول مُهداة. وكما تقول النصيحة الإنجليزية القديمة Don't look a gift horse in the mouth أي لا تنظر إلى فم الحصان المُهدى إليك. ذلك أنها كانت عادة قديمة لهم فتح فم الحصان لمعاينة طول أسنانه لتقدير سنوات عمره قبل شرائه. فحسبما كانوا يرون تزداد أسنان الحصان طولاً مع تقدمه في السن. هذا مع أن أسنان الحصان لا تطول، ولكن لثته هي التي تتقلص مع مرور السنين لتبدو الأسنان وكأنها صارت أكثر طولاً. ومع وجود قليل النقد الذي يشفي الغليل يمكن الزعم أن كثيراً مما يأتي المبدع من النقاد إما بضاعة مُزجاة لا يليق ردها، وإما خيول مُهداة لا فائدة تُرجى من النظر إلى أسنانها. ولا أدل على ذلك أكثر من أن معظم الذين تناولوا الرواية قدموها على أنها "نسيان مالم يحدث"، دون أن يعبأوا بالفصل بين ما ولم. ومن بين الذين فعلوا ذلك من المنافذ الإعلامية وهم لا يخشون في الفتك باللغة لومة لائم: "الراكوبة" و"كليك برس" و"آفاق نيوز" و"الشاهد" و"البيان" و"إذاعة جمهورية السودان"، وسلمت من ذلك "السياسي و"وكالة سونا للأنباء"، وإن لم تسلما من تقديم الحلو على أنه "القاص والروائي المعروف". وفي هذا الإطارلا أتخيل للحظة أن الصحافة الإنجليزية ستتحدث عن صدور رواية "للروائي المعروف" سلمان رشدي، أو أن تتحدث الصحافة المصرية عن صدور رواية "أولاد حارتنا" "للقاص والروائي المعروف نجيب محفوظ". والتحية هنا لنشرة "مداميك" التي حاولت شيئاً مختلفاً عندما أضافت:
" يقول ناشر الرواية على غلافها الأخير: "هذه الرواية تشتغل في فضاء التجريب. في محاولة لتجاوز تقنيات وأشكال الكتابة الروائية التقليدية الراسخة، واكتشاف طرائق سردية جديدة عن طريق الاختراع والمغامرة في المجهول. وذلك لاكتشاف نص لديه قدرة أكبر في التعرف على الراهن والكشف عن الأزمنة القديمة والجديدة. كتابة تتجاوز تسجيل الواقع وتفض غلاف الممكن والمحتمل لتكشف الطريق السردي الذي يعبر عن عصرنا الراهن."
(6)
وفي الحديث عن عيسى الحلو الناقد اعترف أنني أجده يقول أحياناً أشياء لا أدرى تماماً ماذا أصنع بها. وأنا لا استنكر عليه ذلك، ولكني أنتظر أن أتحدث معه مرة عنها. ولكن إن استوعبت أو لم أستوعب، وإن قبلت أو رفضت فالرأي عندي أنه يأخذ الأدب مذهب الجد، والأدب ينبغي أن يؤخذ كذلك. فهو يدرك أن في قلب ذلك الكيان الهائل، وبين وجيب خافقه ووسط خلجات أنفاسه تكمن الرواية التي ولدت مع الإنسان "في صبيحة يوم الخليقة" وفقاً لتعبير شينوا أشيبي، وإن لم تولد معه في تلك الصبيحة فقد ولدت، كما يقول غابرائيل غارسيا ماركيز "... في ذلك اليوم الذي عاد فيه يونس إلى البيت وأخبر زوجته أنه تأخر لثلاثة أيام لأنه كان في بطن الحوت." وعلى صعيد مواز ليس هنالك دليل أكبر على أهمية كتابة الرواية وقراءتها من أن جورج لوكاش نشر "نظرية الرواية" في 1915، أي في ذات الفترة التي شهدت صدور عدد من الكتابات الكبرى مثل "رسائل سبارتاكوس" لروزا لوكسمبورغ، و"الإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية" للينين، و"سقوط الغرب" لإشبنغلر، و"روح الطوباوية" لإرنست بلوخ. وقد تفاعل لوكاش وهو يبحث "نظرية الرواية" مع المساهمات الرائعة لكبار المفكرين من أمثال كانط وهيغل ونوفاليس وماركس وكيركيغارد وشيمل وويبر وهوسرل. وخرج من ذلك التفاعل بمفهوم "الواقعية النقدية" كمساهمة فذة يرى الكثيرون أنها تضاهي في عمقها وتوازي في تأثيرها ما أحدثته تلك الأطروحات الكبرى من تأثير في ساحة الفكر والوعي والإدراك.
(7)
وعلى خُطى لوكاش وباختين ولورنس، وحتى إليوت، يمضى عيسى الحلو متابعاً مشواره النقدي في مثابرة وأناة وجلد. ومع كامل الإدراك والانتباه للإنجازات الروائية العالمية المتعددة التي تمثل إلهاماً وتجسد هاجساً يتقدم في مشروعه الإبداعي ليضع الرواية - وبخاصة في "نسيان ما لم يحدث" - على مرتبة تقف فيها جنباً إلى جنب مع الأنظمة الفكرية الأخرى بما في ذلك التاريخ، والأسطورة، والدين، والقانون، والعلوم. ذلك مع احتفاظه لها بما تتمتع به من خصائص كشكل رمزي متفرد له حساسيته وله جماله وجمالياته وانعتاقه وانفلاته. وكما يقول دي إتش لورنس "إذا حاولت تثبيت كل شيى في الرواية على الأرض بالمسامير، فإما أنك ستقتل الرواية، وإما أن تنهض الرواية وتمضي مبتعدة بما علق بها من مسامير." وأنت تقرأ "نسيان ما لم يحدث" لن تشعر للحظة واحدة أن عيسى الحلو دق عليها مسماراً واحداً لتثبيتها على أرض المألوف أو المتوقع.
(8)
وقد أقول أنا، وربما يقول غيري ما نستطيع قوله عن "نسيان ما لم يحدث"، وفي هذا قد نصيب وقد نخطئ. ولكن حتى إن أصبنا فلا أظن أن أحدنا سيصيب في وصفها كما أصاب في وصفها صاحبها. فالسرد يقول عنها أنها "تتأرجح بين الخيال والواقع وتتأرجح بين التجريد والتجسيد" (ص13). لذلك عندما يقول عيسى الحلو في الرواية ":
"هي جيوب الهزائم في التأريخ والذاكرة العربية التي كانت هي الخطوط الصادة لهجمات محاولات الفكر الكلونيالي في أوئل القرن. وهو مشروع إحتجاجي .. لكنه وحشي .. شابه التزييف والحقد والاستبداد والظلامية !! واندلعت هذه الحرب التي لم تستطع التمييز بين العدو والصليح! .. حرب غبية بلا وعي .. اشتعلت في كل مكان .. بدأت في أزمنة قديمة.. صليبية ذات وجه سافر .. استعمارية في شكل وثوب متجدد.." (ص 14).
يكون عندها الحلو في حوار جاد مع "التجريد" الذي يُعلي من شأن الرواية كخطاب فكري وجهد عقلي، والحلو يفعل ذلك كثيراً.
ولكنه عندما يعود ليقول:
"وهكذا بدأت روجينا مشوارها الشاق. والذي يعتمد على طاقة الروح وقدرتها على التحمل، وطاقة الجسد في الاضطراب بين الفوضى والتماسك. والتوازن الضروري بين التذكر والنسيان. فلم يتبق شيئاً لروجينا ليذكرها بذاتها أو بهويتها .. فأصبحت لحماً وعظماً من نبض العروق والنسيان. وكان النسيان يشمل البنت كلها من الرأس إلى القدم. وكانت تسأل نفسها .. روجينا من؟ من تكو ن؟ وكانت ترد على السؤال هامسة .. روجينا.. لا شيئ .. روجينا لا أحد! وكان النسيان يسوف كل شيئ .. ما حدث .. وما لم يحدث." (ص 39).
فإنه يستنشق هنا رَوح "التجسيد". ويراود الحكاية عن نفسها، يغريها ويغري بها، ويستدرجها ليوقع بها، ثم يشبعها شماً وضماً ولثماً، فتنقاد له مسلمة له قيادها. وهذه الحيوية المضمخة بعبق الغواية لا تترك لك كبير خيار عندما تحاول المفاضلة واختيار أي المنهجين قد آثر، وأي الجانبين قد آزر. فنظرة سريعة، حتى قبل بلوغك نهاية أطروحته الروائية، تريك أنه يضع ثقله إلى جانب "التجسيد"، إلى جانب ما يدعو إليه دي إتش لورنس واصفاً إياه بأنه "ديني العظيم (والذي) هو الإيمان بالدم، اللحم، لأنه أكثر حكمة من الفكر. يمكننا أن نخطئ في عقولنا ولكن ما نشعر به في دمنا وما نؤمن به ونقوله، هو الصحيح دائماً. فالعقل ليس أكثر من شكيمة ولجام."
(9)
ومع هذا، وربما بسببه، كلما جلست ورأيت أمامي "نسيان ما لم يحدث" ومددت يدي أتصفحها أتأرجح بين شعورين متناقضين. أولهما الفرح بأن الرواية قد خرجت في 132 صفحة وما يترواح بين 22 ألف كلمة و24 ألف كلمة. والثاني هو الأسى لأن الرواية خرجت في 132 صفحة وما يترواح بين 22 ألف كلمة و24 ألف كلمة. وذلك أولاً لأن كل عمل روائي يخرج في زمن الكورونا والتضخم هو إنجاز في حد ذاته. وثانياً أن الذي يتضمنه السرد من مكونات لم يبلغ بها المؤلف غاياتها القصوى والممكنة يورث النفس ذلك الأسى الذي أشرت إليه. ففي ظني واعتقادي كان من الممكن "لنسيان ما لم يحدث" أن تكون "البحث عن الزمن الضائع" الرواية العربية أو السودانية على الأقل. ذلك لو كان هنالك شخص واحد قادر على فعل ذلك فهو عيسى الحلو بما يملكه من خيال جامح وبراعة لغوية لا حدود لها. ولكن بدلاً عن ذلك اختار عيسى الحلو لروايته أن لا تكون كذلك. إن "البحث عن الزمن الضائع" هي الثامنة من حيث الطول بين روايات الأدب العالمي، ولكنها بصفحاتها التي تتجاوز الثلاثة آلاف صفحة تعتبر أشهر "المطولات" على ألإطلاق. كما أنها من أشهر النماذج "كلاسيكية" وفق تعريف مارك توين الساخر للكلاسيكي على أنه "العمل الذي يتمنى كل شخص لو أنه قد قرأه، ولكن لا أحد يريد قراءته." ولكن غايتي هنا ليست التركيز على التباين الواضح بين العملين من ناحية الحجم، وإنما التنويه إلى ما يكمن في لب العملين، وهو التذكر والنسيان. ولكن التذكر والنسيان في رائعة مارسيل بروست يأتيان وهما يسترجعان ما حدث. أما في "نسيان ما لم يحدث" فإنهما يراودان ويريدان الإيقاع بما لم يحدث. وليس هنالك ضرر في أن نذكر هنا أن أكثر ما يتذكره القراء ويسترجعونه من "البحث عن الزمن الضائع" هو حادثة تذوق قطعة الكيك مغموسة في الشاي وكيف تسبب ذلك الفعل البسيط في تدفق ذكريات الطفولة والتي نتج عنها واحداً من أعظم الأعمال الروائية في تاريخ الأدب.
(10)
وقد آن الأوان لكي أقف قليلاً هنا عن مغزى رجحون الذي يوجد ولا يوجد. إن رجحون الذي يعوي في متاهات "نسيان ما لم يحدث" هو الذاكرة، والتي تؤكد الرواية أنها هي ما نحن عليه. فنحن،وفقا لمنطق الرواية، تشكلنا ذاكراتنا التي تحدد كيف نتصرف وكيف نتفاعل وكيف نفكر. ولمصلحة الذين لم يقرأوا الجزء الأول من هذا التعاطي مع الرواية، أعيد ما أورده عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب "الحيوان" سارداً: "ًقال أبو علقمة كان اسم الذَّئب الذي أكل يوسف رجحون! فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ: (وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ)، فقال أبو علقمة: فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف." وفي متاهات "نسيان ما لم يحدث" يعوي رجحون مذكراً أن الذاكرات:
"تهب كما الهواء وتهبط فتسري كما يهبط الليل ويسرس. فعمل الذاكرة عفوي يتأتى فجأة وبلا تدبير.. وكلما حاول القصد أن يتحكم فيه كلما تكاد الذاكرة أن تتوقف عن العمل.. إن ديناميكية الذاكرة كامنة في طبيعتها التلقائية.. فكأنك تريد النسيان إن حاولت استدعاء تذكر الذاكرة.. هي تعمل وفق ميكانيكية الترابط أو التفكيك.." (ص 57)
(11)
ورجحون، الذي يذكر بالذاكرات ليس هو فقط الذاكرة، وإنما أيضاً معها، ومع ما يستثيرها، وكذلك ما يترتب عنها. وفي متاهات الرواية لا يكف رجحون عن العواء مُتيحاً للسرد أن يستأنس به حاكياً ضمن ما يحكي: "تخربت الذاكرة! .. تتقدم إلى الأمام في بطء .. تنراجع للوراء .. وهي تسرع في تفكيك صلات الوصل .. لا شيئ يربط بين هذا وذاك! .. وأحاول أن أتذكر كلما كان قد حدث فلا أجد إلّا الفراغ .. هذه المساحة البيضاء .. هذا الورق الأبيض والذي يخلو من أي حرف مكتوب ..!!" (6 – 7). ونستأنس أيضاً بالذئب وهو يعوي :
"هذا التعارض قد يلهب الذاكرة ويدفعها لحماسة أكبر وأكثر دفعة للذات لأن تختار المعلومات الضرورية التي تشكل البناء الإدراكي التصوري والذي يكون الهيكل العام للخيال الذي يقوم برسم الصور للأفعال التي تصنع الموضوع المراد تحقيقه. أن الذات عبر هذا الإدراك الذي يقوم به الوعي تسعى لأن تتحقق كإرادة نابعة من الحرية التي تستشعرها هذه الذات لكي تكون هي هي متحققة بتمامها في الخارج (خارج قضبان الجسد).. وهي بالطبع تريد أن تتحقق بالكامل ولكنها هيهات .. إذ لا تستطيع أن تحصل إلا على البعض من ذاتها. الذات تنشد الكمال فلا تجد سوى النقصان .. وهكذا تحاول المرة تلو المرة! وما الحياة إلا هذا التكرار للأفعال في لعبة الحياة .. الكمال والنقصان!!" (ص 53)
(12)
ونستأنس بعواء رجحون مرة أخرى: "وتجيء كرري بكل ثقلها! وتضطرب الذاكرات .. من يستطيع أن بقول أن الذاكرة تعمل بسلاسة ودقة باستمرار، دون أن تتوقف. هل تستطيع الذاكرة أن تتوقف ولو للحظات قصار .. تتوقف وسط الفراغ!" (ص 40). ومرة أخرى نستأنس به: "أمواج سوداء .. ضخام تتقدم وتتراجع واحداث تجئ وتتراجع لتسكن في الذاكرة الجماعية بعد أن حذفتها الأحزان والشكوك والمخاوف ودفنتها الذاكرات الشفاهية شأنها شأن كل الثقافة الوطنية التي لم يشملها التدوين فسجلتها الذاكرة الجمعية بناء على طبيعة المشافهة تلك التي تحذف شيئاً أو تضيف شيئا..." (ص 41).
(13)
وتشتمل الرواية أيضاً، من منظور"صناعة الذاكرة" الفردية والجمعية والثقافية، بل والحضارية، الكثيرمما قد يُحظى بالقبول، ومما قد يثير حوله الجدل. وعيسى الحلو كروائي وكمفكر يدرك ذلك تماماً ولا يتهيبه:
"ما الذي يدور داخل هذه الفيلا .. داخل قصر المريا الذي يقع في الريف الجنوبي لمدينة أمدرمان,,, أحقائق هي أم أوهام وخيال؟ أهو زمان عام؟ أم زمان تاريخي خاص؟ .. وما هي الذاكرة التي تروي هذا التاريخ .. أهي ذاكرة فردية؟ أم هي ذاكرة جماعية .. لا تعبر عن خيال خاص .. بل هو خيال جماعي .. يتحول في وقائعه وفي معانيه عبر التاريخ والأزمنة .. الأفكار هي مخلوقات طبيعية تتحول وتتبدل ويعتريها التطور..." (ص 32)
(14).
من الممكن لقارئ "نسيان ما لم يحدث" أن يستخلص منها الكثير. ولا أريد هنا أن يُسقط استشهادي بشطر من بيتي الأحيمر السعدي (عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ- يرى اللهُ إنّي للأنيسِ ِلكاره وتبغضهم لي مقلة ٌ وضميرُ) ظلالاً غير مقصودة أو منشودة، وذلك لأن في الرواية ما يكفي من تبعات الفجيعة وأوجاع الهزيمة. إضافة إلى هذا يبدو أن الروايات التي تعنى بأمر الذاكرة، على عكس ما قد يتوقعه القارئ، رويات ترزح تحت وطأة سوداوية مضنية. ومن الروايات التي عنيت بالذاكرة "1984" التي كتبها جورج أورويل في 1948عن الذاكرة الجماعية وفقدانها. فنجد فيها ونستون اسميث الموظف في وزارة الحقيقة، يفحص الصحف وغيرها من الوثائق وفقا لتوجيهات "الأخ الأكبر" والحزب، ويدمر النسخ القديمة بإسقاطها في "ثقب الذاكرة". وتقدم رؤية أورويل في شكل مرعب ولكنه مألوف بالنسبة لنا نحن الذين تذوقنا "رعب وحمى" الرقابات المتعسفة وأجهزة الأمن المتسلطة التي تُمارس السيطرة السياسية والفكرية من خلال التحكم في المعلومات، بما في ذلك التحكم في الذاكرة. وقد جاء أورويل فيها بالمقولة التي اكتسبت شهرة وذيوعا والتي تزعم أن "من يتحكم في الماضي، يتحكم في المستقبل. ومن يتحكم في الحاضر، يتحكم في الماضي."
(15)
ومن الأعمال التي تاثرت برواية أورويل عن الغلاقة بين القهر والذاكرة والذكريات، رائعة يوكو أوقاوا "شرطة الذاكرة" (1994) التي تنشغل فيها الشرطة بتدميرالذكريات عن الأشياء التي لا تروق النظام ويريد لها أن تختفي. ولو كتب أحدهم، وربما قد يكون من الأفضل إحداهن يوماً، عملا روائيا عن مظاهر قانون النظام العام الذي طبقه الرجال الطواويس في سودان الإنقاذ لخرج بصورة سريالية سيقرأها الناس لسنين في شتى أنحاء العالم بمزيج من الرعب والدهشة.
(16)
وعندما يقول عيسى الحلو في المقابلة التي أجراها معه محمد نجيب محمد علي تحت عنوان "في الثمانين من عمره يكتب "نسيان ما لم يحدث": "هذه قد تكون آخر رواياتي السردية، سأشتغل على قضايا فكرية أخرت النظر فيها." يتوجب علينا أن ننر في جدية كاملة إلى احتمالات وإمكانات هذا المشروع المؤجل، وبخاصة عندما نقرأ له في الرواية:
"وفي أغلب الأحيان.. أو ربما هو دائماً يكون التذكر هو إحضار قسري للغياب ..فأنت تعيد إحضار الماضي من بئر النسيان .. تحضر الفعل المنسي أخضر .. طازجاً ونضراً .. كما لو كان قد صنع في التو! .. وهذا ما يفعله الأدب الروائي الجبد .. الرواية الأدبية تحضر بزهو فائق هذا الماضي كما لو انه يحدث في الحاضر والآن! .. هذه هي معجزة الأدب الروائي .. صناعة الماضي الضي ينهض بشكل باهر من موته الخاص ويدخل في دورلا الحياة من جديد ..الرواية بعث لهذا لهذا الجمال الخالد والذي لا يموت أبداً!! وتلك هي خدعة فن الرواية ومعجزتها الجمالية الفائقة .. وهذا ما يفعله الشعر العظيم .. إذ أصدق الشعر أكذبه. هذا ما قاله (أرسطو) في كتابه الشعر..." (ص
ومع اعتقادي أن "أصدق الشعر أكذبه" هذه قد وصلت عيسى الحلو من "مصدر غير موثوق به" لأن أرسطو يكاد أن يقدس الصدق، وأن أقرب ما قاله عن العلاقة بين الشعر والصدق والكذب، في حدود ما أعرف، هو"أن هوميروس، أكثر من غيره، هو الذي علم الشعراء الكذب بمهارة"، فأنا على يقين من أن عيسى الحلو، مع اهتمامه الواضح بالذاكرة والنسيان، لو كرّس وقتاً وجهداً في النظر إلى ذلك من منظور فلسفي لجاءنا بشيئ يشبه ما جاءنا به إرنست كاسيرار في بحثه عن الذاكرة الثقافية والأشكال الرمزية، ونيلسون قودمان في بحثه عن الذاكرة وصناعة العالم. وكاسيرار وقودمان فيلسوفان كبيران، وكذلك عيسى الحلو. وذلك ليس فقط على المستوى الذي يقصده البير كامو عندما يقول "الرواية ليست شيئاً آخر غير فلسفة يتم التعبير عنها من خلال الصور"، وإنما على المستوى الأكثر عمقا واتساعا الذي يبحث في أساسيات المعرفة والواقع والحقيقة والوجود. وإذا حاولت المزواجة بين نوعي الفلسفة الذين أشرت إليهما، يمكنني القول إن الرواية بشكل عام كثيراً ما تفصح عن مكنوناتها من منظورصناعة الذاكرة الفردية والجمعية والثقافية، بل والحضارية. وعيسى الحلو كروائي وكمفكر لا يدرك ذلك فحسب، وإنما يتفاعل معه أخذاً ورداً في "نسيان ما لم يحدث."
(17)
أخيراً، "نسيان ما لم يحدث" عمل يلقي بأضواء كشاف متحرك على قضايا الذاكرة فيضيئ حيناً عتمة المسالك التي تمتد لتصل بين ما يتم تذكره وما يتم إدراكه والروابط بينهما، ويلقي أحيانا أخرى بالمزيد من الظلال على تلك المسالك فيزيدها تعتيماً. وفي الحالين يظل عملاً فذاً يصعب المرور عليه مروراً عابراً. ولهذا سأعود مرة أخرى "لمطاردة الذئب الذي لم يأكل يوسف في متاهات "نسيان ما لم يحدث."
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.