هالاند مهاجم سيتي يتخطى دروغبا وروني بعد التهام مانشستر يونايتد    ركابي حسن يعقوب يكتب: ماذا يعني تنصيب حميدتي رئيساً للحكومة الموازية؟    غرق 51 سودانيًا    السودان يردّ على عقوبات الخزانة الأمريكية    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    سِيكَافا وفَن التّزحلق عَلَى الحَنِين    يوفنتوس يقتلع الفوز من الإنتر    الهلال يختم استعداداته لنهائي البطولة أمام سينغيدا بلاك استارز التنزاني    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالفيديو.. الناشطة المثيرة للجدل "زارا" التي وقع الفنان شريف الفحيل في غرامها تعترف بحبها الشديد للمال وتصدم المطرب: (أرغب في الزواج من رجل يملك أكثر من مليون دولار)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفتح النار على المطربة إيمان الشريف: (المجهود البتعملي عشان تطبلي لطرف تاني قدميه لزوجك لأنك مقصرة معه ولا تعطيه إهتمام)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    رونالدو يتسلّم جائزة الحذاء الذهبي للدوري السعودي 2024-2025    وزير الداخلية يتفقد سجن سوبا ويقف على عمليات الصيانة و التأهيل بالسجن    محمد صلاح يضرب شباك بيرنلى ويُحلق ب"ليفربول" على قمة البريميرليج    د. كامل إدريس يلتقي المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للسودان    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    لامين يامال: هكذا سأحتفل إذا فزت بالكرة الذهبية    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    ترامب يلوح بفرض عقوبات كبيرة على روسيا    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    أرميكا علي حافة الهاوية    الرئيس الرواندي يصل الدوحة    انتقادات عربية وأممية.. مجلس الأمن يدين الضربات في قطر    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني تستعرض جمالها بإرتداء الثوب أمام الجميع وترد على المعلقين: (شكرا لكل من مروا من هنا كالنسمة في عز الصيف اما ناس الغيرة و الروح الشريرة اتخارجوا من هنا)    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    هذا الهجوم خرق كل قواعد الإلتزامات السياسية لقطر مع دولة الكيان الصهيوني    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    ضبط (91) كيلو ذهب وعملات أجنبية في عملية نوعية بولاية نهر النيل    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفتاح ثنائية العلمانية والدينية: وجهة نظر مغايرة لخلاصة البروفيسور عبد الله علي ابراهيم .. بقلم: سمير محمد علي حمد
نشر في سودانيل يوم 01 - 04 - 2021

في مقالين [1] و[2]، بصحيفة سودانايل الالكترونية، خلص المفكر والمؤرخ البروفيسور عبد الله علي ابراهيم الى ان د. حسن الترابي "جاءنا بتركيب لتجاوز الاطروحة (الدولة الدينية) والاطروحة النقيضة (الدولة العلمانية)"، وذلك باعتباره: " اضاف الدولة كركن من اركان الاجتهاد في الشريعة وجعل الشريعة مصدراً للتشريع (من مصادر اخرى معروفة) على ان تتنزل عن طريق برلماني يجسد ارادة الامة. اضافة الا انه جرد طبقة الفقهاء ورجال الدين من سلطاتها كما وقف بقوة ضد قيام المجمع الفقهي بالخرطوم، الذي لم يقم - والحديث هنا لبروفيسور عبد الله علي ابراهيم - الا بعد خسران الترابي في مفاصلة الحركة الاسلامية المعروف في 1999م" [1] و[2].
وما يصدر عن مفكر واكاديمي موسوعي مثل البروفيسور عبد الله علي ابراهيم يصبح لدى المتلقي والباحث الاكاديمي على وجه الخصوص حكماً مرجعياً فور نشره، ومن ثم يصبح حقيقة لها تأثيرها في تشكيل الراي العام وحجة يستشهد بها. وهذا المقال يأتي في سياق تفاعل كاتبه مع ما جاء بالمقالين[1] و[2] من وجهة نظر مختلفة تقدم حجتها للمتلقي في مواجهة وجه النظر الأخرى مع احترام من اصدرها.
فما جاء في المقالين [1] و[2] فيما يتعلق بمعالجة د. الترابي لمسألة الدين والعلمانية، لا تتسق مع المشروع الفكري له والذي قضى جانب كبير من حياته للتبشير به وتنزيله على ارض الواقع بكل الوسائل ولا زال تلاميذه يقتفون اثره. فالمقال يصور الامر وكأنما د. الترابي فتح الباب لمعالجة صراع الدولة الدينية ضد الدولة والعلمانية، وهذا – من وجهة نظر كاتب هذا المقال- لا يتسق مع ما سجلته وقائع الأحداث منذ الستينات وحتى الان، ولا مع ما صدر عن د. الترابي من آراء وكتابات. فالتقرير بان د. الترابي قد تجاوز ثنائية الديني/العلماني، مربك وعصي على الفهم بالنسبة لكاتب هذا المقال وربما للكثيرين، ويحتاج لمزيد من الايضاح. وما جاء في المقالين [1] و[2] لا يكفي للتدليل على ما خلصا اليه، كما ان بعض الوقائع التي أُعتُمد عليها في الوصول الي الخلاصة تحتاج الى تدقيق من الناحية الزمنية. فعلى سبيل المثال فقد جاء في [1] ان المجمع الفقهي لم يقم الا بعد خسران الترابي في المفاصلة المعروفة والتي كانت في ديسمبر 1999م، بينما اجيز مجمع الفقه الاسلامي وصدر قانونه في 24 نوفمبر من العام 1998م أي قبل المفاصلة بأكثر من سنة وكان الترابي حينها رئيساً للبرلمان، وهذه مسالة مربكة. ويري كاتب هذا المقال ان مجمع الفقه كان قد قام بالفعل تحت سمع وبصر د. الترابي منذ العام 1982م حينما كان عضوا بالاتحاد الاشتراكي ونائبا عاما، تحت مسمي "مجلس الإفتاء الشرعي"، والذي اُخرِجت بمقتضاه مهام الفتوى الدينية من المؤسسية والانضباط القضائي (حيث كانت الفتوي من مهام السلطة القضائية تحت ادارة قاضي يسمي مفتي الجمهورية منذ 1956م الي 1982م)، الي فوضي فقهاء السلطان والتي وصلت مداها ابّان فترة الحكم الاسلاموي في السودان بتحويل "مجلس الإفتاء الشرعي" الي "مجمع الفقه الاسلامي" وتوسيع صلاحياته بقانون خاص به.
فهل فعلاً اوجد الترابي حلاً لتجاوز ثنائية الديني/العلماني؟ كما ذهب الى ذلك البروفيسور عبد الله علي ابراهيم. للإجابة عن هذا السؤال لابد ان نقترب من مشروع دكتور الترابي الفكري السياسي، وهو مشروع كبير مر بعدة مراحل مختلفة، يمكن تقسيمها في نظر كاتب المقال الى اربعة مراحل متمايزة عن بعضها:
1- المرحلة الاولي 1964م – 1977م: وهي مرحلة خروج الحركة الاسلاموية السودانية من عباءة الاخوان المصرية الدعوية الي النشاط السياسي الواسع، وانتصار جماعة مدرسة السياسية على جماعة مدرسة التربية داخل الحركة والتي عملت على الانفتاح الجماهيري للحركة، كما اهتمت بالعمل الاجتماعي اضافة الى السياسي والثقافي. وفي هذه الفترة انقسمت الحركة الاسلاموية الي حركتين احدهما بقيادة الصادق عبد الله عبد الماجد وتمثل مدرسة التربية والأخرى بقيادة د. حسن الترابي وتمثل مدرسة السياسة. وتميزت الحركة في هذه المرحلة بعداءها الشديد مع اليسار والرفض التام لكل ما هو علماني ونادت مع الجماعات الاسلامية الأخرى بالدستور الاسلامي والذي رفضته غالبية القوي السياسية في تلك الفترة. كما شاركت في الحركة المسلحة التي فشلت في قلب نظام الحكم في 1976م والتي سماها د. الترابي بالانتفاضة الجهادية. كما تورطت مع القوي السياسية الكبرى في مؤامرة طرد الحزب الشيوعي من البرلمان مستقلة العاطفة الدينية. وفي هذه الفترة لا يمكن الزعم ان للترابي أي محاولات لتجسير الهوة بين الديني والعلماني، بل كانت جماعته في عداء سافر مع كل ما هو علماني.
2- المرحلة الثانية 1977م – 1989م: وهي مرحلة البناء والعمل الاستراتيجي والبرغماتية السياسية والتمهيد للانقضاض علي السلطة. بعد فشل انقلاب الجبهة الوطنية على نظام نميري في العام 1976م، اتجه التنظيم الاسلاموي بقيادة د. الترابي الى المشاركة في نظام نميري عبر ما عرف بالمصالحة. وكانت المشاركة في نظام نميري احدي "تكتيكات" الحركة الاسلاموية البراغماتية والتي مكنتها من الانتشار في المجتمع بالاستفادة من وجودها داخل السلطة، يقول د. الترابي [3, p. 33]: "عندما دخلنا الى الاتحاد الاشتراكي كان مدخلنا كريها الى النفوس لذاته وما كنا لنقدم عليه لو لا انه كان جزء من خطتنا للوصول للمجتمع الواسع في الريف وفي الجنوب وفي التجمعات الشعبية والعمالية". يقول د. الترابي في استراتيجية الحركة خلال هذه المرحلة: "لم نحرص ان يكون التمكين للحركة اعتزالا لغيرها ولكن اردنا الحركة من بعد بديلاً اساسيا للقوي اليسارية والتقليدية جميعا واردنا ان تتقدم الحركة بمنهج الله نحو التمكين الكامل" [3, p. 31]. كان مشروع د. الترابي والذي اصبح يجهر به خلال هذه المرحلة هو تعريب واسلمة السودان واقامة الحياة الاسلامية الكاملة به وتقديم مشروعها كنموذج حضاري للعالم اجمع. ولعل قول د. الترابي في حوار له في 1984/1985م : "أن الصراع في أفريقيا صراع حضاري بين العروبة والإسلام من جهة، وبين الشرق والغرب من جهة أخرى، وإذا أصبح السودان عربيّاً مسلماً خالصاً، سيقلب موازين القوى في المنطقة" [4]، ثم ما جاء في خطابه امام المؤتمر الثاني للجبهة الاسلامية القومية في 1988م: "... ونريد نحن في الجبهة الاسلامية القومية ان نوافي هذا الوعد بمشروع احياء ديني لحسم خيارات التوجه المتنازعة ... واننا لماضون بإذن الله بعزيمة الصادقين وصبر المتوكلين المطمئنين بوعد الله واثقين ان سيتمكن الاسلام في السودان غير بعيد وان سيحوز وان سنعيد بسيرة الاسلام الاولي ..." .[5] توضح بجلاء معالم هذا المشروع وطموحه في اقامة حكم اسلاموي في سودان خالص العروبة! وفي هذه المرحلة كان مشروع د. الترابي قد تقدم كثيرا على اليسار خاصة بعد النجاح الذي حققته الجبهة الاسلامية في انتخابات 1986م، والظهور الضعيف لليسار فيها، وبالتالي لم يكن الترابي في حاجة للتفكير اصلاً في معالجة مسالة الدين والعلمانية لأنه كان قد قطع اشواط كبيرة في تثبيت اركان مشروعه مستفيدا من مشاركته في نظام النميري. وكانت تسيطر عليه حينها الفكرة الشمولية للإسلام (الاسلاموية) حيث لا ينفصل عنده الدين عن السياسة عن الحياة. ففي ورقة علمية له في 1984م يقول: "ولا مجال بالطبع في الاسلام لحكم شعبي منقطع عن معاني الايمان، لان الدين الاسلامي دين توحيدي يحيط بالحياة ويضفي عليها جميعاً معني العبادة وينظمها بشريعة شاملة، لا تفرق بين سياسة ودين او حياة عامة او خاصة" [6]، بل اعتبر د. الترابي ان خروج النظام الديمقراطي من اطار الدين الي الاطار السياسي البحت نوع من الشرك بالله حيث يقول في ورقته انفة الذكر: " فالخروج بالديمقراطية من الاطار الديني الي اطار سياسي بحت، ردة وضرب من الاشراك لأنه يشرك ارادة الشعب مع خالقه"[6]، وهذا وجه اخر لمفهوم "الحاكمية الالهية" شبيه برؤية سيد قطب والتي سياتي ذكرها في موضع اخر في هذا المقال. وعليه لا نري في افكار د. الترابي خلال الفترة من 1977م الي 1989م ما قد يؤدي الي ردم الهوة ما بين الديني والعلماني، بل على العكس تماما فقد كانت افكاره وما يدعو له تنطلق من المبادئ الاسلاموية، وفي موضع النقيض تماماً من العلمانية.
3- المرحلة الثالثة 1989م – 1998م: في هذه المرحلة من تطور فكر الترابي وهي المرحلة التي لمع نجمه على مستوى الحركة الاسلاموية العالمية، فاصبح غارقا كلياً في الايدلوجيا الاسلاموية العابرة للقطرية ومزهوا بنجاحه في تحويل الحركة الاسلامية السودانية من جماعة دينية دعوية محدودة التأثير، وذلك حالها في ستينيات القرن الماضي، الى تنظيم سياسي/ديني عالمي استطاع ان يجمع إسلامويي العالم حوله في الخرطوم فيما عُرف بالمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي في 1993م. اضافةً لنجاحه في بسط سيطرته المطلقة على اكبر قطر افريقي، كأول تنظيم اسلاموي ينجح في مثل هذه التجربة، مما جعله وتجربته موضع اهتمام وحفاوة من قبل اسلامويي العالم. ففي هذه الفترة سيطرت المبادئ الاسلاموية على فكر الترابي والتي تتمثل في "اقامة نظام اسلامي يتمثل في دولة دينية، واقامة حكم الشريعة، وفرض القوانين الاسلامية، واستخدام سلطان الدولة لفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبار الناس مجرد رعايا ملزمون اكثر من كونهم مواطنين ذوي حقوق" [7]. وظهر ذلك في القوانين المهدرة للحقوق والحريات التي ظهرت في الفترة من 1990م الي 1998م والتي لم تحد منها ما جاء في دستور 1998م من بعض سمات التحرر من المبادئ الاسلاموية. كما انتشرت خلال هذه الفترة مظاهر التدين وتمكنت المؤسسات الدينية ورجال الدين من مفاصل الدولة وتمدد نفوذهم في سائر شئون الدولة.
حتى هذه المرحلة لم يستطع د. الترابي التحرر من سيطرة مبدأ "الحاكمية الالهية" الذي صكه حديثاً ابو اعلى المودودي وتوسع في التنظير فيه سيد قطب. "فمفهوم الحاكمية عند سيد قطب مر بمرحلتين ارتبطتا بعلاقته بثورة يوليو 1952م المصرية، هما: (1) الحاكمية التشريعية: حيث يرى ان الحاكمية للشريعة وليس لله. والحاكم في ظلّ هذه المرحلة من الحاكمية يستمدّ شرعيته من الشعب، وذلك عن طريق التطبيق العصري لمبدأ الشورى، أي الديمقراطية. (2) وبعد ان ساءت علاقته بضباط ثورة 1952 بلور الحاكمية الالهية: وتظهر في هذه المرحلة رؤية سيد قطب الإيديولوجية المتشددة، تلك الرؤية التي هي ليست أكثر من مجرد شرح أو تفسير لمفهوم الحاكمية عند المودودي. في هذه المرحلة يكون الحكم لله الذي له وحده حق التشريع للعباد ووضع المناهج لحياتهم" [8]. ثم جاء الترابي في 1998م وهو يسيطر سيطرة مطلقة علي السلطة في السودان ليطرح دستور مبني على "الحاكمية"، يجعل الحاكمية لله والشعب مستخلف، فقد نصت المادة الرابعة فيما عُرف بدستور "التوالي" والذي صاغه الترابي والذي صدر عام 1998م، على ان: "الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، ويمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والشوري، وينظمها الدستور والقانون". وطرحه هذا اقرب الي "الحاكمية التشريعية" عند سيد قطب مع ربطه الحاكمية بالدولة وجعل السيادة للشعب المستخلف، ولا ندري من المقصود ب"بالشعب المستخلف" وما موقع شعب السودان الذي قد لا تنطبق عليه صفة مستخلف في هذا الدستور. عليه، يمكننا ان نخلص مما جاء اعلاه ان المرحلة الممتدة من 1989م الى 1999م هي المرحلة التي عمل فيها الترابي على ترسيخ مفهوم الدولة الدينية الاسلاموية - تشريعاً وممارسة - بمعناها الشمولي والتي تقصي كل من يعارضها حتي لو كانت جماعة اسلامية اخرى. وان بدت في بعض ما جاء في دستور 1998م سمات التراجع عن بعض المبادئ الاسلاموية التقليدية. فقد افصحت مواد دستور 1998م عن تحركا طفيفا في ثوابت الحركة الاسلاموية نحو الوسط مجسرةً الهوة مع اليسار، فحسب نقد بعض الاسلامين له، انه لم ينص على دين الدولة الرسمي، ولا على ان الشريعة الاسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، ولم يشترط الاسلام في شاغلي المناصب الدستورية، ولم يشترط ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون رجلاً. ولكن كل ذلك لا يرقي - في نظر كاتب هذا المقال - ان نسميه نزوع الي العلمنة وانما كان ذلك بداية دخول د. الترابي وحركته في مرحلة "ما بعد الاسلاموية" بعد فشل المشروع الاسلاموي الكلاسيكي امام ناظريه ورأى نتائج ذلك الفشل الكارثية على السودان وعلى حركته وعلى الاسلام نفسه في السودان.
4- المرحلة الرابعة 1998م – 2016م: هذه المرحلة يمكن ان نسميها مرحلة "ما بعد الاسلاموية" في فكر الترابي بعد ان راي امام ناظريه فشل مشروعه القائم علي المفهوم الاسلاموي التقليدي الذي يسعى لفرض الدولة الدينية. مفهوم "ما بعد الاسلاموية" تأسس على فرضية نهاية وفشل الاسلاموية ومن ثم انحسارها وتراجعها مما أوجب وجود بديل أيديولوجي لها. يصف العلماء والباحثون في مجال علم الاجتماع السياسي مصطلح "ما بعد الاسلاموية" بأنه: "حالة او مشروعاً لصياغة مفاهيم عامة وتأطير استراتيجية جديدة لبناء منطق متجاوز للاسلاموية في المجالات الفكرية والاجتماعية والدينية والسياسية، فهي بهذه المعاني ليست علمانية او غير اسلامية اذ انها تسعى الى دمج التدين بالحقوق، والايمان بالحرية، والاسلام بالتحرر، من خلال قلب المبادئ المؤسِسة للاسلاموية راساً على عقب بالتأكيد على الحقوق محل الواجبات، والتعددية عوضاً عن السلطوية الفردية، والتاريخية بدلاً عن النصوص، والمستقبل مكان التاريخ، في مزاوجة بين قيم الاسلام من ناحية والديمقراطية والحداثة من ناحية اخرى ابتغاء تحقيق (حداثة بديلة)، اذ في الوقت الذي تتخذ الاسلاموية فيه بربط الدين بالمسئولية فقد عبر عن ما بعد الاسلاموية بالاعتراف ببعض الاسس العلمانية مثل التحرر من التزمت، والقطيعة مع احتكار الحقيقة الدينية مع التأكيد على حرية التدين ودور الدين في المجال العام واهمية الحقوق والدولة المدنية" [7] و[9]. هذا ما يصف حالة د. الترابي والمجموعة التي تبعته بعد ما عرف بالمفاصلة. فمنذ العام 1998م بدأت تتحرر افكار د. الترابي من بعض المبادئ الاسلاموية في محاولة لإعادتها بشكل جديد، وقد ظهر ذلك في دستور 1998م الذي صاغه، كما ظهرت حالة "ما بعد الاسلاموية" لديه بجلاء في كتابه "السياسة والحكم: السنن السلطانية بين الاصول والواقع" المنشور في 2003م. وهذه النزعة الجديدة في فكر الترابي خلال هذه المرحلة لا يعني انه آمن بالمبادئ العلمانية او فتح للطريق لتجاوز ثنائية الديني/العلماني كما خلص البروفيسور عبد الله على ابراهيم، وانما هي حالة "ما بعد الاسلاموية" في فكر الترابي.
فنجده في [10, 2003] مثلاً يطرح طرحاً في شان الحكم اقرب الي العلماني، منه الى طرحه الاسلاموي الكلاسيكي المبني على الحاكمية، والذي شكل مراحل فكره السابقة، قائلاً: "يؤسس الحكم على عقد مواطنة ونظام سلطان وان تسود للأفراد حرمات وحريات ومساواة سياسية كيفما اختلفوا افذاذا او جماعات وان لا يتولى احد السلطة العليا عنوة بل بخيار الرعية انتخاباً حراً عدلا وان تكون قرارات الامر العام الكبرى عن شوري واجماع او راي غالب" وهذا يناقض تماماَ ما خطط له ونفذه في 1989م أي قبل حوالي 15 سنة من طرحه الجديد هذا في 2003م.
ففي تفسير علماء الاجتماع السياسي في مثل حالة د. الترابي وهذا التحول من الاسلاموية الكلاسيكية الي ما يشبه العلمنة بعد فشل المشروع الاسلاموي، ان: "هذا لا يعني ان المشروع تحول الى علماني وانما هو تخلي عن بعض المبادئ الاسلاموية واعادة اختراعها في شكل جديد من التعامل مع الخطاب الديني والسياسي من خلال الالتزام بمشروع ديني مغاير اكثر استيعاباً يستمر الاسلام فيه دينا من ناحية ومكوناً مؤثرا في المجال العام من ناحية اخري" [9]. وما يعزز ذلك ان د. الترابي كان ما زال متمسكاً باسلامويته في هذه المرحلة رغم هذا التحول، وكان يري في مسالة فصل الدين عن السياسية "هراء"، ويدّعي ان هدى الاسلام عند تطبيقه سيجعل امر فصل الدين عن الدولة امر تلقائي! ويقول في ذلك: "وهدى الاسلام ان السلطان مداه محدود ما رشد المجتمع بذاته في ذلك. ومنها الاخلاق السياسية، ودوافعها وضوابطها وراء الاحكام السلطانية. وذلك فلا معني للحديث لفصل الدين عن الدولة لأنه لا ينفذ بالسلطة بل يجري بتدافع الوجدان وتضابط المجتمع الحر في السياسة ويسري وراء كل تشريع او امر يؤثر في كل ممارس للسلطة ..." [10, 2003]. ويضيف في نفس السياق: "... فالدعوي بفصل الدين عن السياسة هراء كفصل المذاهب الأخرى وفصل ما في الفكر والعاطفة الانسانية ..." [10, 2003].
ولعل موقف حزب المؤتمر الشعبي الذي اسسه د. الترابي بعد المفاصلة، ورفضه القاطع لاتفاق المبادئ الذي تم بين قائد الحركة الشعبية شمال والحكومة الانتقالية والقاضي بفصل الدين عن الدولة وتبني دستور قائم على المبادئ العلمانية، يوضح بجلاء استحالة تنكر هذا الحزب لمشروعه الاسلاموي والتحول لايدلوجيا مناقضة ظل في صراع معها لأكثر من 50 عاماً. فمن وجهة نظر كاتب هذا المقال، ان ما بدأ من مؤسس حزب المؤتمر الشعبي د. الترابي من تحول في المرحلة الرابعة من فكره، واعتبره البروفيسور عبد الله على ابراهيم انه مفتاحاً لثنائية العلمانية والدينية، ما هو الا مرحلة جديدة من فكر د. الترابي وحزبه تجسد حالة "ما بعد الاسلاموية" والتي نتجت عن فشل الاسلاموية في تحقيق اهدافها، وهي لا تعني العلمانية، وانما اعادة اختراع للاسلاموية في شكل أيديولوجي جديد قابل لاستيعاب الاخر.
سمير محمد علي حمد
01/04/2021م
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مراجع:
[1] "هل ترك فينا الترابي مفتاحا لثنائية العلمانية والدينية "، بقلم د. عبد الله علي ابراهيم، سودانايل، 26 مارس 2021م.
[2] "هل ترك فينا الترابي مفتاحا لثنائية العلمانية والدينية (اخيرة)"، بقلم د. عبد الله علي ابراهيم، سودانايل، 27 مارس 2021م.
[3] "الحركة الاسلامية في السودان"، د. حسن عبد الله الترابي.
[4] فقه الدعوة .. ملامح وآفاق "الجزء الثاني "فقه المرحلة والانتقال من المبادئ إلى البرامج في حوار مع: الدكتور حسن عبد الله الترابي.
https://www.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=2&ChapterId=2&BookId=219&CatId=201&startno=0
[5] خطاب الدكتور حسن عبد الله الترابي امام المؤتمر الثاني للجبهة الاسلامية، الخرطوم، 14 يناير 1988م.
[6] ورقة علمية قدمت بمعهد الدراسات السياسية والاستراتيجية بالخرطوم ابان تقديم مشروع تعديل دستور السودان الدائم لمجلس الشعب السوداني في سبتمبر 1984م، وقد نشرت في مجلة المستقبل العربي، السنة 8، العدد 75 (مايو 1985)، ص 4 – 22.
[7]"ما بعد الاسلاموية على نطاق واسع"، آصف بيات، ترجمة: محمد العربي.
[8] "الأصولية الإسلامية بين الدعوة الدينية والإيديولوجيا السياسية"، محمد عبده أبو العلا، في الدولة والدين في الفكر العربي المعاصر، تقديم وتنسيق: د. الطيب بوعزة و د. يوسف بن عدي.
[9] قراءة تحليلية لمفهوم "ما بعد الاسلاموية" في اطروحة اصف بيات، عرابي عبد الحي عرابي.
[10] "السياسة والحكم: السنن السلطانية بين الاصول والواقع"، د. حسن عبد الله الترابي، 2003م.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.