عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. بسم الله الرحمن الرحيم قدمت مفاوضات سد النهضة عرض طيب، لطبيعة الاوضاع السياسية والقيادات السلطوية في هذه المنطقة من العالم. وكيف ان كل فرص التنمية تستحيل الي حالة من الصراع المزمن، الذي يستنزف الطاقات ويهدر الموارد ويستخف بحقوق وحياة الشعوب؟ واحتمال مرد ذلك يعود الي ان السلطة بوصفها اكثر الغرائز تفلت علي الترويض واستعصاء علي التهذيب، ما زالت في توحشها البدائي، لجهة عدم خضوعها للضبط المستحدث، كما هو حال الدول والمجتمعات الحديثة. من هذه الوجهة اشكالية سد النهضة، كغيرها من ازمات المنطقة، هي انعكاس لغياب الشرعية الجماهيرية التي تصنع ما يروقها من سلطات. وفي غياب هذه الشرعية العامة، تستند السلطات الحاكمة لشرعيتها الخاصة. وذلك عبر الاستخدام العاري لآليات السلطة، كما هو حال عبدالفتاح السيسي، الذي صادر الدولة في شخصه (سيسنة الدولة)، وتاليا تدويل السيسنة كمنهج عمل للدولة. وهذه النوعية من اسوأ انواع السلطات، لانها تتعامل مع كرامة وحقوق المواطنين كاجراءات وضوابط (اوامر ونواهٍ بلغة الدين)، ومع مؤسسات واجهزة الدولة كمنح وامتيازات. اي باختصار كإله يهندس الدولة علي هواه، ويبطش شعبه المغلوب علي امره. او قد تكون الشرعية منقوصة او محكومة بتوازنات قبلية او مناطقية، وعندها تصبح السلطة رهينة هذه التوازنات. وهذا حال سلطة ابي احمد، ولو انها افضل وبما لا يقاس مقارنة بنموذج السيساوية الاستعبادية. وقد تكون السلطة عسكومليشاوية بواجهة مدنية، وهذه اقصي ما تعد به، هو الدوران في حلقة مفرغة من المشاكسات والغموض وغياب المرجعية، وتشتت الرؤية والاهداف والوسائل، اي تعدد الدول داخل الدولة، وهذا حال حكومة الثورة في السودان. وصحيح ان مشروع سد النهضة سابق علي حكومة ابي احمد، ولكن الاكثر صحة، ان هكذا مشروع ذو طبيعة دعائية وتروجية، لاي سلطة حاكمة، غض النظر عن اغراضه التنموية. بمعني انه يملك خاصية جمع شتات وتباينات المجتمع الاثيوبي، كونه يعبر عن الكرامة والقدرة وآفاق المستقبل للمجتمع الاثيوبي. اي شئ شبيه بقيام السد العالي للسلطة المنفذة حينها، وذلك ليس بوصفه انجاز معماري او مشروع تنموي، وانما بوصفه مقايضة للحكم الديمقراطي. خصوصا وهكذا مشاريع لها قابلية التسويق الجماهيري. وفي هذه الحالة الحكومات الاثيوبية المتعاقبة تجسد دور جمال عبدالناصر. وعموما، ليس احب علي قلب اي سلطة، من قضية يلتف حولها معظم الشعب. واذا صادف ذلك هوي حكومات مستبدة او في طور الاستبداد كحكومة ابي احمد، فهذا عز الطلب. والحال كذلك، مشروع سد النهضة هو مشروع سلطوي قبل ان يكون تنموي، وتاليا هو يشرعن ويمنح الدعم للسلطة الحاكمة، غض النظر عن مشروعيتها او مدي تاهيلها للقيام باعباء الحكم الرشيد. وهنا تكمن اصل العلة. اي عندما تتحول السياسة الي مشروع سلطوي، يتوسل المشاريع التنموية الكبري كتبرير للسلطوية، وتتحول المشاريع التنموية الكبري الي سياسة تابيد للسلطوية. وهكذا سياسة قد تجد التاييد الجماهيري علي المدي القصير، ولكن علي المدي الطويل، تكون خصم علي تنمية وحرية الانسان، بعد ان تستنفد التنمية الموجهة اغراضها، وترتد الدولة الي سجن كبير. واحتمال هذا يفسر هوس السلطات المستبدة بالمشاريع الكبري، التي تستقطب التاييد الشعبي، غض النظر عن جدواها الاقتصادية، او ترتيبها في سلم الاولويات. وهو ما يبيح وصفها بسياسة الدعايات العملاقة، علي طريقة المشاريع العملاقة. ولا يعني ذلك التشكيك بالمطلق في النواحي التنموية لتلك المشاريع، وبما فيها مشروع سد النهضة، ولكن هنالك فارق ان تصدر تلك المشاريع عن حكومات ديمقراطية منتخبة، في دولة مؤسسات، وخاضعة لرؤية الخبراء، وبين ان تصدر عن حكومات مستبدة، مهجسة بحماية سلطتها، لتندرج في هذا الهاجس كافة المشاريع، وبما فيها ذات الطابع التنموي. اي ببساطة بقدر ما حكومات الطغاة قادرة علي صناعة مشاريع وتحولات جبارة، بقدر ما هي عرضة للانهيار عند اقرب اختبار جدي لحكمة هؤلاء الطغاة. وما تجربة صدام حسين وجمال عبد الناصر إلا خير مثال، مع الفارق بين وعي ناصر وضحالة كسب صدام. وكأن حتي ما يعتبر انجاز للطغاة، يتعذر إلا تفارقه جنون العظمة والطموحات العابرة للحدود، لتشكلا مدخلا لتدمير انجازاتهما المادية، بعد تقديم كافة المبررات لضربهما من قوي خارجية. ولكن ما الذي يجعل مصر واثيوبيا لهما قابلية الالتفاف علي ما يسمي المشاريع القومية؟ او الرابطة التي تلتف حولها شعوبهم، غض النظر عن الفوارق الطبقية والتباينات الاجتماعية والتفاوتات المناطقية؟ والسبب يرجع لوجود الاحساس القومي المشترك، ولو انه اكثر تجذر في مصر لاسباب تاريخية وفي اثيوبيا غالبا لاسباب جغرافية (عزلة). وهنا تحديدا يظهر مدي عجز السودان، وتذبذب مواقفه منذ انطلاقة هذه المفاوضات، وقبلها تفريطه في اراضيه وتراثه ومصالحه، بثمن بخس للمصريين خلال بناء السد العالي! والاسوأ من ذلك سهولة اختراق تكويناته السياسية وشراء قياداته، وتحويل مصالح البلاد العليا، لسوق نخاسة لدي الزبائن الخارجية. والسبب هذه المرة يعود لغياب ذات الحس القومي المشترك، الذي يجمع بين مكونات الدولة السودانية. والراجح ان ذلك يرجع الي ان السودان اصلا تجمع لاعراق وجهات وتكوبنات اجتماعية، فُرض عليها الاجتماع قسريا بواسطة قوي احتلالية. وهو ما لا ينفك يعود مذكرا بوجوده، عند كل ازمة عاصفة تتعرض لها الدولة. وساعد علي غياب الحس الوطني، عدم نضوجه لدي النخب التي تولت زمام قيادة البلاد منذ الاستقلال (الذي كان تتويج لنضال، اقرب لمناكفة الاحتلال، منه لمشروع تحرر وطني). وهنا ايضا نجد موضوعة السلطة (العسكرية علي وجه الخصوص)، لعبت دورا كبيرا في تدهور الاوضاع، ومصادرة الاختيار والقرار الجماعي الطوعي في تشكيل المصير الوطني، الذي يساهم بقدر معتبر في بناء الحس الوطني، في دولة شديدة التنازع وبالغة التعقيد، كحال دولتنا مترامية الاطراف ومتجاذبة الولاءات. ويضاف الي ذلك ان السلطات المتعاقبة فوق تسلطها، حولت الوطن وانسانه لحقول تجارب لافكار ورؤي منبتة، ضاعفت من تفكك وطن ومجتمع لا ينقصهما التفكك وضياع البوصلة. الشئ الذي سرع من وتيرة العودة للمكونات الاولية، وتاليا فقدان نواة بوتقة الانصهار، التي اصبحت تتشكل في المدن واماكن العمل وساحات التعليم ومجتمع الرياضة ومجال الفنون. وبعد مخاضات وتضحيات واكلاف جسام، وصل بنا الحال، ان تتولي زمام امر البلاد، طغمة عسكرية ومدنية، من اسوأ صنف يمكن ان تعهد اليه مسؤولية اخراج البلاد من محنتها (علي طريقة مرمطتها وبشتنتها لكل من هب ودب). اي شئ من اجتماع الجهل والعنف والانتهازية علي صعيد واحد. ويا لها من ثورة منكودة، تلك التي تلد ما يشبه تحالف الشيطان. وهذا التحالف هو ما يحكم مواقف السودان في مفاوضات سد النهضة، التي وصلت منعطف ينذر بالخطر. وبما ان الشق العسكري المسيطر علي التحالف الشيطاني، واقع في احضان النظام المصري، فهذا ما جعل مواقف السودان تتطابق مع الموقف المصري، وهو ما برر بدوره التنسيق علي اعلي المستويات بين الجانبين، غض النظر عن مخاوف السودان، التي ليست بالضرورة تتطابق مع مخاوف الجانب المصري، وهذا غير ان التجارب علمتنا ان المتغطي بالنظام المصري عريان. وعموما، مشروع سد النهضة باعلان مبادئه ومفاوضاته، يعكس بجلاء، كيف ان مصالح هذه البقعة التي يقطنها ما يقارب مئتا وخمسون مليون نفس في الدول الثلاث، اصبحت لعبة في اياد نخب سلطوية، ونفوذ دول خارجية، تعلم جيدا من اين وكيف تؤكل الكتف؟ وصحيح ان اثيوبيا لعبت الدور الاكبر في تعريض المنطقة للخطر، بسبب تعنتها المريب، والاصرار علي العمل الاحادي، في مشروع يشكل فرصة للتعاون الايجابي، ونموذج يحتذي في توفير المكاسب للجميع! والاسوأ من ذلك انها تضرب بكل مخاوف السودان ومصر الحقيقية، عرض الحائط، ومن دون اكتراث للعواقب، وكانها تبحث عن مبرر لاشعال المنطقة! خصوصا بعد ان حولت القيادة والنخبة السياسية الاثيوبية سد النهضة، الي نوع من الكرامة الوطنية التي لا تقبل المساس او التراجع حاضرا، وشبهة آلية ابتزاز مستقبلا! لينفتح المجال امام كافة السيناريوهات، وبما فيها احتمالات الحرب. ومعلوم ان هذا الخيار الاخير، بل كافة الخيارت السيئة، سيكون السودان المتضرر الاول منها، وهو من سيدفع الفاتورة الاعظم من كلفة هذه الخيارات. ورغم ذلك نجد ان الجانب السوداني وبالاخص المكون العسكري يستخدم لغة اقرب للتهديد، وكانه يستلف لسان الجنرالات المصريين او يلعب دور المتحدث الرسمي باسمهم! وما يثير الحيرة ان ذات المكون العسكري الذي يبرز عضلات لسانه امام الاثيوبيين، فشل ومنذ فرض نفسه كامر واقع علي الثورة، في ضبط السيولة الامنية الداخلية، التي بدأت في اطراف البلاد لتنتهي بالعاصمة غير الآمنة، لتتجدد دورة العنف مرة اخري وبصورة افظع في مدينة الجنينة، لتصبح وكانها في دولة مجاورة، وليس داخل حدود دولة، لم يزدهر فيها شئ منذ الاستقلال سوي فوضي السلاح ورتب ونياشين ضباط الجيش! لدرجة اصبح الوجود العسكري ملازم للدولة كظلها من ناحية، وكاخطبوط من ناحية مقابلة، يحشر انفه في كل شئ، بدأً من السلطة ومرورا بالاقتصاد وليس انتهاءً بالرياضة! ومؤكد من يتورط في كل شئ يفشل في كل شئ، وبما في ذلك الامن الذي ادعوا التخصص فيه، وبرروا به هذه الاخطبوطية؟! المهم، من يفشل في ضبط الامن الداخلي، لهو افشل في مواجهة الاعداء الخارجيين، خصوصا في ظل افتقار الحس الوطني لكافة الاطراف. وهو ما يعني ان كسب اي مواجهة خارجية، سواء علي مستوي المفاوضات او غيرها، لابد ان يمر بتوافق داخلي، يرد للثورة والثوار اعتبارهم، علي اعتبار الثورة هي الهيكل الذي يسمح ببناء اجماع داخلي، ومن ثمَّ يؤسس لتشكيل الحس الوطني علي ارضية صلبة. وفي ظل هذه الاوضاع المعقدة، وبما ان المستفيد الاول من التنمية هي الشعوب، وكذلك المتضرر الاول من الحروب والصراعات هي الشعوب نفسها، وليس قادة الدول ولا جنرالات الجيوش. وعليه، ليس امام شعوب المنطقة للمحافظة علي مصالحها، وقبلها سلامتها وحقوقها، هي التواصل مع بعضها، وتنسيق جهودها، لفرض ارادتها، عبر تشكيل اجماع ضاغط، لرفض الحروب والصراعات العبثية التي تخدم السلطات التسلطية، وكذلك الاصرار علي التزام جانب التنمية، عبر التعاون وتبادل المنافع والاستفادة من الميزات التفضلية لكل دولة، من غير حساسية او استغلال او استغفال، وهو ما يفرض مبدأ الشفافية في كل التعاملات والعلاقات. واول خطوة لبناء علاقات ناضجة، قائمة ليس علي المصالح فقط، ولكن علي الاحترام والثقة المتبادلة. هي الادارة المشتركة ليس لسد النهضة فحسب، ولكن لكل السدود علي النيل بما فيها السد العالي. وهو ما ينسحب علي كافة المشاريع المشتركة التي يمكن ان تقام لتنمية شعوب المنطقة. وهذة بالمناسبة ليست دعوة مثالية، بل اعتقد انها هي الاكثر واقعية، لان البديل عن ضغط الشعوب والتعاون بينها، هو الحرب والدمار، او اقلاه عدم الاستقرار، اذا ما كانت المصالح حصرا هي ما يحكم العلاقات بين الدول. خصوصا وان المصالح ليست قدرا، حتي لا يمكن تغييرها، ومن ثمَّ هنالك امكانية للانفتاح علي حسن الجوار وصدق النية والثقة المتبادلة، طالما الامر مربوط بالثقافة التي تُكتسب، وليست مسألة جبرية معطي سلفا. بل معيار الحرية سواء للافراد او المجتمعات يتجسد تحديدا في الاصرار علي انفاذ الخيارات الخيرة. واخيرا سد النهضة مشروع تنموي واعد اذا ما احسنت كافة الاطراف التعامل معه، وكذلك قنبلة موقوتة اذا ما اساءت التعامل معه. ولكن ما يجعل آمال الخيار الاول تتضاءل، انها تحتاج لقيادات حكيمة تراعي مصالح شعوبها وشعوب المنطقة، وللاسف هذه العملة من القيادات ليست نادرة فقط، ولكن الظروف الاقليمية والدولية، اصبحت تحبذ ومن ثمَّ تفسح المجال امام القيادات الاقل كفاءة والاكثر اجرام وقابلية للارتهان للخارج. ورمضان كريم.