بكري المدني يكتب: كردفان-لا شيء يدعو للقلق!!    السودان.. احتجاز مدنيين في 6 مناطق بأمر الميليشيا    هيئة مياه الخرطوم تعلن عودة محطة كبيرة للعمل    بيل غيتس يحذر : ملايين الأطفال قد يموتون بنهاية هذا العام    الرابطة السليم يكسب شكواه ضد الأمير دنقلا    المريخ يستضيف كيجالي وعينه على الانتصار    الجزيرة تقسو على الجامعة في دوري الدامر    شاهد بالصور.. بحضور عدد من المطربين أبرزهم محمد بشير.. الفنانة أفراح عصام تفتتح محلها التجاري الجديد بالقاهرة    بالصورة.. سيدة أعمال سودانية تشعل ثورة من الغضب داخل مواقع التواصل بعد تعذيبها لخادماتها الجنوب سودانيات بالقاهرة والسبب مجوهرات ذهبية    شاهد بالفيديو.. العروس "ريماز ميرغني" تنصف الفنانة هدى عربي بعد الهجوم الذي تعرضت له من صديقتها المقربة الفنانة أفراح عصام    شاهد بالصورة والفيديو.. سودانية تظهر ب"تشيرت" المنتخب الوطني وتهدي لاعبي صقور الجديان أجمل "زغرودة" وزوجها يحمسها: (أبشري بالخير)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة ريماز ميرغني تخطف الأضواء وتبهر الحاضرين في "جرتق" زواجها    بعدما لقطتها كاميرات القناة الناقلة للمباراة.. شاهد ماذا قالت مشجعة صقور الجديان الحسناء عن لقطة إنهيارها بالبكاء: (راسنا مرفوع وما دموع انكسار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة ريماز ميرغني تخطف الأضواء وتبهر الحاضرين في "جرتق" زواجها    تكريم الفنان النور الجيلاني بمنطقة الكدرو    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    خسارة المنتخب الوطني بهدفين نظيفين من المنتخب العراقي    سلطة الطيران المدني تعلن عن فتح مسارين جويين جديدين بالسودان    للمرة الأولى.. السعودية تواجه نفس الخصوم في كأس العالم    أطباء بلا حدود: أكثر من 1.5 مليون سوداني فروا من الحرب إلى مصر    فوائد النعناع واستخداماته العلاجية.. تعرّف عليها    اكتشاف ثوري يربط جودة النوم بصحة الأمعاء    ترامب .."لا أريد الجوائز... أريد إنقاذ الأرواح"    السكري وصحة الفم.. علاقة متبادلة    السودان يندّد بالمذبحة الجديدة    رئيس مَوالِيد مُدَرّجَات الهِلال    نتيجة قرعة كأس العالم 2026.. تعرف على طريق المنتخبات العربية في المونديال    بالصورة.. الفنانة أفراح عصام تفتح النار على مطربة شهيرة عقب نهاية حفل زفاف ريماز ميرغني: من عرفتك نحنا بنسجل في البرنامج وانتي في محاكم الآداب وقبلها المخدرات مع (….) وتبقي فنانه شيك كيف وانتي مكفتة ومطرودة!!    إصابات وسط اللاعبين..بعثة منتخب في السودان تتعرّض لعملية نهب مسلّح    "يارحمن" تعيد الفنانة نانسي عجاج إلى القمة.. أغنية تهز مشاعر السودانيين    تنويه عاجل لهيئة مياه الخرطوم    كامل إدريس يوجه برفع كفاءة قطاع التعدين    تصريحات ترامب المسيئة للصومال تثير غضبا واسعا في مقديشو    قرار عاجل لرئيس الوزراء السوداني    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    إدارة ترامب توقف رسميا إجراءات الهجرة والتجنيس من 19 دولة    إدارة التعدين بولاية كسلا تضبط (588) جرام و (8) حبات ذهب معدة للبيع خارج القنوات الرسمية    الخرطوم تعيد افتتاح أسواق البيع المخفض    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    بشكلٍ كاملٍ..مياه الخرطوم تعلن إيقاف محطة سوبا    فيلم ملكة القطن السوداني يحصد جائزة الجمهور    إحباط تهريب كميات كبيرة من المخدرات والمواد الخطرة بنهر النيل    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    العطش يضرب القسم الشمالي، والمزارعون يتجهون للاعتصام    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    وصول 260 ألف جوال من الأسمدة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالجزيرة    مصر.. تحذيرات بعد إعلان ترامب حول الإخوان المسلمين    شاهد.. بعبارة "كم شدة كشفت معادن أهلها" صورة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تزين شوارع العاصمة السودانية الخرطوم    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصول الترابية: سرديات التأسيس التهويمية .. بقلم: عزالدين صغيرون
نشر في سودانيل يوم 16 - 04 - 2021

الترابية ليست أصلاً في الإسلام السياسي، وإنما هي تحور سوداني لفيروس الإخوان المسلمين الأصل. وإذا كان البعض يروِّج للترابي ك"مجدد" في الفكر الإسلامي، فإن هذا "شغل بروبغندا" زائفة وعمل "بوليتيكا كاذبة" – بمعنى أنها سياسوية – . فالترابي ك"أخ مسلم" لم يكن معنياً بقضية التجديد من الأصل، ولم يكن التجديد ضمن أهداف وأجندة التنظيم الذي انتمى إليه. وإنما انصرف همه إلى سؤال السلطة وكيفية السيطرة عليها. لا إلى سؤال الدين ودوره كفاعل في حياة الناس المعاصرة وما تطرحه من تحديات.
ولم يكن أمامه أو بمكنته غير هذا ليفعله. فالمؤسس الأول للتنظيم حسن البنا نفسه لم يكن "التجديد" الذي يتوافق مع ما يطرحه العصر في وارد تفكيره عندما شرع في تأسيس الجماعة وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرون، كان هذا الأمر يفوق طاقته الفكرية وقدراته المعرفية في تلك المرحلة من حياته. ولذا لن تجد له محاولات جادة ذات نفع وجدوى يعتد بها تُذكر في هذا الشأن وعلى هذا الصعيد.
بل أنك لن تجد للجماعة سواء في مصر دولة المنشأ، أو في السودان بلد التحور الفيروسي، أو في غيرهما من الدول والمجتمعات التي استطاع الفيروس الإخواني اختراق جهاز مناعتها، من أنتج فكراً جادا، أو نظرية فكرية متماسكة في أي مجال من المجالات العديدة التي توهمتها لنفسها، ولم يتميز أو يبدع أو يتفوق أي إخواني في أي من هذه المجالات، عبثاً تحاول أن تجد إخوانيَّاً مميزا في الفكر أو الأدب أو العلوم أو الآداب أو الرياضة أو الفنون أو علم الاجتماع أو الاقتصاد أو العلوم السياسية أو حتي في الفقه الإسلامي. وذلك رغم تواجد الجماعة علي مدي أكثر من قرن إلي اليوم. "وكانت الإضاءة الأدبية الوحيدة الواعدة لديهم هي الأعمال النقدية لسيد قطب، ولكنه سرعان ما هجر الأدب وتوغل في تفسيره الخاص للقرآن بشكل مخل أوصله إلي تجهيل وتكفير المجتمع المسلم الذي لم يجده مسلما بما فيه الكفاية حسب رؤيته الاخوانية الضيقة، وهي نفس الرؤية الرومانسية المراهقة المنفصلة عن الواقع التي تأسست عليها الجماعة منذ البدء" (1).
(التباس الهوية وتسويق الأوهام)
ويدلك على ذلك البيان التأسيسي لتنظيم جماعة الإخوان الذي نشره البنا لطرح مشروعه الديني السياسي الاجتماعي، وهو يمثل الإطار الفكري لجماعة الإخوان والغايات الاستراتيجية. ليتبين لك مدى صبيانية الفكرة من أساسها. فهي أقرب إلى الهذيان والتداعي النفسي الحر الذي لا يمكنك أن تحمله على محمل الجد، ففي تعريف حسن البنا للجماعة ودعوتها في سنة 1928 يقول:
"هي دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية".
سمك، لبن، تمر هندي، ويمكنك أن تضيف (دكوة فول) للخلطة !.
فالجماعة – يقول فرانسوا باسيلي – إذن في هذا التصور "هي كل شيء، وبهذا تصبح لا شيء محدد، وهذه الشمولية الرومانتيكية هي من طبيعة الفكر الشبابي المراهق غير الناضج. فالنضج يؤدي بصاحبه إلي إدراك ضرورة التخصص في حياة أصبحت مركبة متشعبة لا تحتمل هذه الرؤية الهلامية (2).
وسنجد نفس المراهقة الفكرية في الهدف المعلن للجماعة والطريقة المتدرجة لتحقيقه، فتقول أن الجماعة:
"تسعى في سبيل الإصلاح الذي تنشده إلى تكوين الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالدولة الإسلامية، فأستاذية العالم".
وهذا التعبير "أستاذية العالم" رغم أنه مستلف من تنظيم الماسونية، إلا أنه لا يصدر إلا عن شاب في طور المراهقة الفكرية، ينظر إلي العالم والحياة برومانسية شديدة غير متصلة بالواقع، ولكنها تخلب ألباب الشباب بما فيها من سمو الحلم وراياته المرفرفة بعاطفة الحماس واندفاع المراهقة، دون وجود الامكانات والموارد اللازمة لتحقيق ولو جزء صغير من هذا الحلم المراهق.
ولك ان تتصور مدى الإثارة التي يمكن أن تُحدثها "أستاذية العالم" في عقل شاب في مقتبل العمر، وما يمكن أن تدفعه إلى فعله، وهو الموعود بهذه الأستاذية الكونية !.ونحن هنا أمام جماعة يكتنف الالتباس والغموض هويتها، بينما بروق الأوهام الصفوية الخُلَّب تقود خطواتها في طريق حالك الظلمة .. ولكن إلى أين؟.
(الخيارات الصفرية التعويضية)
الصلف والغرور والعنجهية واستصغار كل قيمة مهما أجمع الناس على تقديرها واحترامها وتقديسها هو ما سيترسب في وجدانه الانفعالي من هذه العبارة المتعالية الجوفاء. وهذا أقرب طريق لينخدع الإنسان في نفسه.
وهذه هي الصفات التي عرفها الناس عن الإسلامويين قبل وبعد حكمهم. مثلما هو نهج التنظيم والحركة الإسلامية، التي يتفاخر الشيخ الترابي باتصافها بالتهور قائلاً بأنها: " حركة متوكلة جريئة، لا تبالي أن تخوض المخاطرات المخوفة ما قدرت أن فيها خيراً لدعوتها وجهادها وشعبها"(2 الترابي، ص 198)، فهي إذن جاهزة للدخول في أي مغامرة مهما بلغت خطورتها دون أن تضع حساباً للنتائج. وسينعكس هذا التهور الأهوج وهذه المراهقة الفكرية نفسها بعد ذلك في السلوك المندفع الفج بقوة عين وعدم استحياء في ارتكاب كل الجرائم وتجاوز كل القيم والأعراف من التنظيم وأفراده، ثم من الدولة التي أحكموا سيطرتهم عليها فصارت دولة مارقة تنتهك الأعراف والمواثيق الدولية باستهانة وجرأة غريبة. تستضيف إرهابيّ العالم وتمنحهم جوازات سفرها وتفتح أبوابها لاستثماراتهم المشبوهة مصادر تمويلها، تفتح لهم معسكرات التدريب، وتقدم لهم الدعم اللوجيستي ليروعوا العالم، وحين يحاصرها العالم درءً لشرها، يتعالى صراخ قادتها بأن الإسلام مستهدف من دول الاستكبار وأنه في خطر !!.
النقص في الحكمة، وتُقرأ "اللاعقلانية"، تظهر واضحة في فكر وسلوك الترابيّ الإسلاموي – الفردي والجماعي/ التنظيمي – بل حتى في سلوك الدولة الترابية، في المواقف المفصلية التي تحتاج إلى التفكر والتعقل والتروي. إذ تجدهم سرعان ما يتخذون أقصى المواقف الصفرية (يا قاتل يا مقتول). وتعكس هذه الصفة افتقار الشخص للعقلانية وعدم التوازن النفسي، وبالنسبة للتنظيم تكشف عن خلل فكري واختلال ففي ميزان القيم والموجهات. ويمكنك أن تلخص كل أولئك بالنزعة العدمية.
(سقوط الشعار في وحل السياسة)
في الواقع عندما تكون الفكرة طفولية رغبوية لاعقلانية مثل الفكرة التي صاغها حسن البنا في بيانه التأسيسي لجماعة الإخوان المسلمين، وتأسس عليها تنظيم الجماعة، فإن استحالة تحقيقها على أرض الواقع تجعل أصحاب المشروع السياسي، يدخلون في دوامة من محاولات التجريب العبثية لرتق ثقوب الفكرة. وبما أنها محاولات دائرية، تلف وتدور حول نفس الفكرة فإنها لن تفتح أفقاً للتغيير. أو أن يلجأ التنظيم وجماعته إلى ترويج زعم المؤامرات التي تستهدف "الإسلام". أو يمضون قدماً في طريقهم هروباً إلى الأمام بعناد طفولي، بغض النظر عما يمكن أن يحدث مستقبلاً. وكل حركات الإسلام السياسي تلعب هذه اللعبة الثلاثية الأضلاع ولا تسأم تكرار نغمة هذه الأسطوانة المشروخة.
الفكرة مستحيلة التحقق؟. لأنها لا تملك من معطيات إمكان تحققها سوى رغبة صاحبها. على الرغم من أنه من الحماقة ، تكرار الشيء مرة تلو الأخرى وتوقع نتائج مختلفة كما يقول آنشتين.
فرغم التأكيدات الجازمة من قبيل "الإسلام دين ودولة" أو "لا فصل بين السياسة والدين في الإسلام". إلا أن السؤال المحرج : هل يملك الإسلام السياسي خياراً بديلاً يقدمه للمجتمعات المسلمة ؟. يجد الرد ب"لا" صادمة وفاضحة.
لقد أخفقت حركة الإسلام السياسي تماماً حين لم تصمد لإغواء السلطة في إيران والسودان وأفغانستان، وفي مصر وتونس بعد ثورات الربيع العربي.
وقد أثبت انتصار الإسلاموية في السودان – عبر الانقلاب على الشرعية – ، أو في مصر وتونس عبر الوسائل الديمقراطية وصناديق الاقتراع، فشلها الذريع في أن تقدم نموذجاً لمجتمع آخر أو أشكالاً سياسية جديدة ومبتكرة. ما ترتب عليه بالتالي سقوط شعار "الإسلام هو الحل" و"الإسلام هو البديل" في بحر الخيبة، ولم يَعُدْ الشعار أكثر من واجهة لمنطق سياسي يفلت منها باستمرار، ويستنزفه تناقضه الداخلي مع الديني المقدس.
وذلك يحدث دائماً حين تتراجع قيمة البضاعة الدينية والأخلاقية المزيفة، ويتقدم مزهوّاً المبدأ الدنيوي النفعي البرجماتي، وتتكشف السلوكيات المناقضة تماماً لما يتأسس عليه الإسلام، تجسيداً سلوكيا، وتتعرى الأهواء والشهوات. وينكشف غطاء التناقض الفاجع بين لوحة الفضيلة والتقى المرفوعة على اللافتات الملوَّنة، وبين ما يجده الناس على ارض الواقع، حيث يتبدى عريّ الدعوة والداعي، ويسقط قناع الزيف.
(بين الديني والسياسي ..أيهما اسبق ؟.)
كان واضحاً منذ البداية أن فكرة "التنظيم" كانت سابقة على فكرة "الدعوة" في عقل حسن البنا، وفي عقل حسن الترابي في السودان.
ما يعني بأن الهدف "السياسي" كان مقدماً على الهدف "الديني".
فالتنظيم هو الطريق الذي يقود في نهاياته إلى "السلطة" الزمنية/الدنيوية.
بينما تقود "الدعوة" إلى الفرد المؤمن والمجتمع الفاضل المثالي.
والخطأ الاستراتيجي في هذا الخيار انه اتخذ مساراً معاكساً في جوهره لمنطق نشأة الأديان وحركات الإحياء والإصلاح الديني، بما فيها الإسلام.
ف"السياسي" في التجربة الإسلامية الأولى خرج من رحم "الديني".
و"الدولة" خرجت من رحم "الجماعة" المسلمة.
وربما يكون هذا من ضمن ما تميزت به التجربة الاسلامية بين الأديان.
فالدين – أي دين – رغم نشأته المجتمعية كمؤسسة ضامنة لإنفاذ التعاقد الاجتماعي وضابط للعلاقات والسلوك داخل الجماعة، إلا أنه يشتغل في الفضاء الفردي، ويمارس فعاليته في إطار "الخلاص الذاتي" للفرد.
أما خارج هذا الاطار الشخصي فإنه يتحول مجتمعيا إلى عادات وتقاليد وقواعد سلوكية ايمانية .. وطقوس تعبدية.
فالناس يتفاوتون في درجات الإيمان الداخلي.. ولكنهم يتماثلون في التمظهرات الخارجية للإيمان.
وبقليل من التأمل في الخطاب التأسيس لجماعة الإخوان المسلمين يتكشف لنا بأن الحركة لم تكن حركة دينية خالصة، وإنما كانت في جوهرها حركة سياسية تسعى إلى السلطة وقد تلبست أقنعة دينية إسلامية.
إن وضع "التنظيم" على رأس هرم الأولويات في اهتمام المؤسس كان لابد وأن يقود إلى الانحطاط ب"مقدس" الأيديولوجية والخطاب المؤسس لها، إلى "مدنس" التكتيكات السياسية وفق قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" .
فطالما كانت "السلطة" هي الهدف، فإن الغلبة ستكون لآليات السياسة.
ولتحقيق هذا الهدف لا بأس من تفعيل فقه "التمكين" المرن المطاطي، سواء أن كان العمل على التمكين في ظل نظام ديمقراطي تحتكم الأحزاب فيه على تداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع ، أم في ظل نظام ديكتاتوري شمولي، فالمهم هو التمكين.
وتبعاً لهذا، ستغدو عملية إعادة قراءة النص المؤسس وتفسيره، وتوظيف منظومة المفاهيم الإسلامية في الفضاء السياسي عملية لا غنى عنها، بل وحتمية.
وهكذا تُنتزع الآية: "ومن لم يحكم بما أنزل الله .." من سياقها في أسباب النزول لتصبح أداة لتكفير الأحزاب المنافسة بل والمدارس الفكرية الإسلامية الأخرى.
ويصبح الخروج في المظاهرات المدنية السلمية التي يجيزها الدستور والقانون: "جهاداً"!. .
جهاد يحمل المتظاهرون فيه أكفانهم وأسلحتهم المتنوعة ما بين القنبلة والبندقية والساطور والسكين والعصي .. للحرب ضد الدولة والمجتمع !!.
(الإسلام والديمقراطية على مذبح السلطة !)
هذا دأب الترابيون وكل حركات الإسلام السياسي دائماً – وهو داء مستنسخ من الفيروس الأصل في المنشأ المصري – أن تتجلى قدراتهم ومهاراتهم التنظيمية بفعالية في معارضة الحكومات القائمة، وينجحون بذلك في زعزعة الاستقرار السياسي والأمني.
ولكنهم يفشلون (بدرجة قف) في الحكم وإدارة الدولة، ليس فقط لأنهم لا يملكون أي رؤية سياسية واضحة، ولكن لأنهم يديرون الدولة بعقلية إدارة التنظيم.
فالحركات الإسلاموية "خارج الحكم تتحدث عن مشروع حضاري عظيم يبحث عن أمجاد الإسلام، وعند وصولها للحكم يتحول هذا المشروع إلى شكليات وقضايا ثانوية مثل فرض الحجاب وقطع الأيدي بدون حل المشكلة الاقتصادية المسببة للسرقة مثلاً، وتحول الجهود التي كان يمكن أن تُعبأ ضد التخلف والتبعية والاستعمار الجديد إلى مجرد شعارات وتشنجات وإلى عدوانية منتشرة ضد مواطنيهم المختلفين معهم سياسياً. وتتحول تلك الطاقات الروحية إلى معارك وهمية مع أعداء أشباح لأن المجتمع ينقسم إلى جاهلية وإسلام، ويرجع كل قصور ذاتي إلى المؤامرات والاستهداف والحصار. لذلك رغم أن الحركات الإسلامية هي نتيجة أزمة عميقة – حضارية وسياسية واقتصادية – اجتماعية ونفسية – إلا أنها تنقلب إلى أن تكون سبب أزمة أكثر عمقاً وتعقيداً كما يحدث الآن في عدد من المجتمعات العربية – الإسلامية"(4).
وهذا ما فعله الإسلامويون في تجربتي تطبيق رؤيتهم، الأولى مع قوانين سبتمبر مع جعفر نميري، والثانية بحكمهم منفردون بالسلطة خلال ثلاثة عقود مع البشير فماذا فعلوا بالسلطة وماذا كان أمر "الحكم بما أنزل الله " الذي كفَّروا معارضيهم بسببه؟.
ليشاركوا في سلطة نميري الديكتاتورية ضحوا بالديمقراطية وبالإسلام الذي بنوا تنظيمهم عليه وذبحوهما من الوريد للوريد على أعتاب معبد السلطة. وشنوا حرباً مقدسة على حلفائهما – الصادق وأنصاره والشريف الهندي – في معارضة النظام المايوي ك"مقدم" نصيب في الصفقة. وتدفقت مدراراً أموال المصارف الإسلاموية. وعندما أعلن نميري شريعته الشوهاء، التي قدمت للعالم أقبح صورة يعجز أعتى وأخبث أعداء الإسلام عن تقديمها، ولكنهم هللوا لها وارتقوا بالديكتاتور مراقٍ عالية في التقى والبطولة والمجد، وتحت غبارها الكثيف بين جلد وقطع نفذوا مؤامرتهم بإعدام أنجب وأخلص من سعى لإعادة الإسلام لحياة الناس اليومية في عصرنا. إن لم نقل كل العصور. ثم نكصوا على أعقابهم وعابوا ذات القوانين "الإسلامية" بعد ثورة 1985 وأيضاً من السلطة. فالمعبود الحقيقي هو السلطة، والغاية من كل هذه "الجوطة" التي يثيرونها هي السلطة !!.
تلك كانت سنوات كالحات لم يشهدها أغلب ثوار أغسطس 2018، ولكنهم جميعاً عايشوا سنوات أحلك مع الموجة الثانية من فصول المأساة الإسلاموية، التي من أجلها أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، مظاهرات وعهر سياسي وإعلامي عارٍ تجاوزا فيه كل الأعراف والتقاليد والأخلاق السودانية ليجهضوا ثورة 1985، ويدبروا انقلاباً في 1989 ليقيموا دولة الخلافة الإسلامية في السودان. وقد شهد العالم حصاد هذه الدولة لثلاثة عقود، وفيها (حدس ما حدس) ما لن يبارح الذاكرة.
ولا تدري الآن فيم يسعون جاهدين لإعادة خيبات ثلاث عقود بكل ما فيها من مآس من أجل ماذا؟. هل ليفصلوا ما لم يفصلوا ويمزقوا ما تبقى من السودان؟!.
من المؤكد ثمة "حول" في الرؤية الاستراتيجية لهؤلاء الناس يرقى لمستوى الخطيئة في الفكر الإسلاموي. فما هو؟، وأين موطن الداء؟!.
مصادر وهوامش
(1) فرانسوا باسيلي، الأسباب الفكرية لسقوط الإخوان، "مجلة الكلمة"، العدد
(76) أغسطس 2013.
http://www.alkalimah.net/Articles/Read/5614
(2) باسيلي، الأسباب الفكرية لسقوط الإخوان، م. سابق.
(3) حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، جدة، الدار السعودية، الطبعة الثانية 1987، ص 198.
(4) د. حيدر إبراهيم علي، أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجاً، مركز الدراسات السودانية، القاهرة/ مصر، اط الرابعة 1999. ص 21.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.