سُكتُم بُكتُم    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    إسرائيل والدعم السريع.. أوجه شبه وقواسم مشتركة    السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العبد فى التزوير والرب فى التدبير ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 12 - 05 - 2010


العبد فى التزوير والرب فى التدبير
مع الواثق كمير عن الإنتخابات والانفصال
[email protected]
(1)
فرغنا بحمد الله وتوفيقه من "حجوة" الانتخابات السودانية التى انفض سامرها ورُفعت سرادق مولدها. جعل الله أيامنا كلها انتخابات وحجوات وحواديت. وكنا قد طرحنا رأينا بشأن نتائج الانتخابات فى مقالنا السابق بعنوان (يا انقاذيون: الدين النصيحة)، فأدينا لحكامنا ما فرضه الله علينا من واجب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، محتسبين عند الله أجر ما أمحضنا من نصح. وقد توالت علينا غداة نشر المقال الرسائل الالكترونية من أحبابنا مناضلى الكيبورد وثوار الأسافير الذين استحسنوا ما كتبنا. وقد اسعدتنى واثلجت صدرى عبارات سطرها بعضٌ منهم طمأنونى بأن مقامى عندهم تسامى الى المعالى بعد حِطّة، وعاد الى رفعته بعد طول ضِعة، اذ كنت قد "سقطت" قبلها فى انظارهم. وكان هؤلاء قد هجرونى وانتبذونى و"رموا طوبتى"، كما يقول الاخوة فى شمال الوادى، بعد ان شوهدت فى زمنٍ مضى متسكعاً فى بساتين الانقاذ، متلطّعاً فى مؤتمراتها، ومتربعاً فى صدارة موائدها.
آويت الى مضجعى فى أحسن حال، بعد ان ابتردت برسائل الاحباب هؤلاء، ودخلت بين براثن نوم هانئ عميق. وبينما أنا على ذلك الحال السعيد، أستطعم الأرز واللبن بصحبة الملائكة الأبرار، اذا بجرس الهاتف يرن فيردنى من هناءة نومى الى يقظةٍ فاجرة. نظرت فاذا الساعة تشير الى الثانية والنصف صباحاً. يا ألطاف الله. هؤلاء اذن هم أهل السودان الذين لا يعرفون فروق الوقت.
(2)
رفعت سماعة الهاتف فاذا بصوت الصديق الشاب الرائع يوسف محمد الحسن يأتينى من وراء الصحارى والبحار. ويوسف، ان لم تكن تعلم، هو مدير مركز كومون الاعلامى بالخرطوم، الذى يقوم، ضمن تخصصاتٍ اخرى، بتنظيم استطلاعات الرأى العام وفق معايير علمية وتقنيات حديثة. ومع ذلك فان يوسف لا يخفى انتماءه السياسى، فهو من العناصر النشطة والفاعلة فى الحزب الحاكم، الذين تطلق عليهم الأميرة رباح الصادق المهدى فى مقالاتها الراتبة اسم "المؤتمروطنجية". وقد أيقظنى هذا الصديق المؤتمروطنجى من دياجير نومى ليقول لى ان شرف الانتخابات الابريلية مُصان، وان الشائعات التى روّجها اهل العريس بأن "العروس" مضروبة لا أساس لها من الصحة، وان عمليات الاقتراع وفرز الاصوات كانت شفافة ولم تكن مزورة كما أوحى بذلك مقالى. ومن المُكوس والعقابيل التى تلحق بكونك كاتباً صحافياً ان يوقظك أصدقاؤك المؤتمروطنجية من عز النوم ليطمئنوك على شرف الانتخابات، وكأنك والد العروس.
أمطرنى يوسف بالكلمات لأكثر من ساعة بلا توقف، مثل رشاش اوتوماتيكى، ولم اعد بعدها أصلح لشئ. قال اننى أعيش فى هواء أمريكا البارد ولا أعرف ما يجرى على ارض الواقع فى سودان الانقاذ الحار. وان المعلومات التى تصلنى مبتورة ومشوهة، كونى استقيها من مصادر لها أجندتها الخاصة. تحدث يوسف عن خطل ما كتبت بشأن شبهات التزوير، وان لُبّ الحقيقة هو ان الاحزاب المعارضة أصابها الجزع ولفّها الفزع اذ عجزت عن ادراك حقائق الأشياء، واختلط حابل أمانيها السندسية بنابل واقعها القرمزى، فبدّدت وقتها وطاقاتها فى ما لا طائل تحته ولم تُعدّ للانتخابات عدّتها، ولم تُحسن التخطيط، ولم تتقن رسم الاستراتيجيات، مثلما فعل أضرابها فى الحزب الحاكم. والاحزاب تريد من وراء العويل وشق الجيوب الذى ظلت تمارسه منذ ما قبل الانتخابات بدعاوى التزوير ان تخفى قلة محصولها من الأصوات، وضعف كسبها بين الجماهير، وهوان أمرها على الناس. ودعانى يوسف الى ان اهتدى بالله فلا أرتد بعد الهُدى "مناضل كيبورد"، وأن استمسك بعروة الحق الوثقى فلا التحق بصفوف التائهين والمشككين من أهل الزيغ والضلال. وقد اعتذرت ليوسف بأننى قضيت عطلة نهاية الاسبوع قبل الماضى فى كهف صديقى فتحى الضو بولاية الينوى، حيث ذهبنا لحضور حفل تخرج كبرى كريماته، رنا، من جامعة شيكاغو. وقد اهتبل فتحى الفرصة فقام بغسل دماغى إذ مارس علىّ ما يعرف فى لغة الفرنجة بال Brain washing ولعب بمفاتيح رأسى، فأدخل فى روعى ان الانتخابات "مضروبة"، فى حين انها "صاغ سليم".
(3)
ولا تثريب على يوسف وزمرته ان هم أحسنوا الظن بأنفسهم، وأساءوه بالاحزاب وقياداتها وكادراتها. فأما أن الاحزاب السياسية السودانية تحتاج الى مزيد من الوقت لمراجعة برامجها، ودمقرطة مؤسساتها، وإعادة بناء هياكلها، والتواصل التفاعلى مع جماهيرها، فذلك مما لا شك فيه. وأما ان شبهات التزوير قد أحاطت بالتجربة الانتخابية الابريلية من اركانها الاربعة، وتواترت على ذلك جملة من الشواهد، واجتمعت عليها بعض عقائد المشاركين من اهل الداخل والمراقبين من اهل الخارج، فذلك مما لا شك فيه أيضا. ولكننا نقول: "الشبهات"، ونقف فلا نزيد، اذ لا نريد لأنفسنا ان نكون ملكيين اكثر من الملك، ولا كاثوليك اكثر من البابا. فها هى بعض قطاعات المعارضة تترك دعاوى التزوير وراءها ظهرياً، وتصوّب الانظار نحو ما تقدّر انه الاسباب الحقيقية للهزيمة الماحقة.
وعندما طرحنا نحن أمر تزوير الانتخابات فى الشمال فاننا فى واقع الامر لم نقطع به، وانما تحدثنا عن "شبهات" و"قرائن". كما اننا لم نجزم بأن العصبة المنقذة اتخذت من التزوير خطةً مركزية ومنهاجاً معتمداً لخوض الانتخابات، بل عبرنا عن شكوكنا فى أن التزوير فى واقع الممارسة ربما كان نتاجاً لمشروعات منعزلة ومبادرات مستقلة (Free Lancing) على مستويات اتحادية وولائية، نهضت بها فئة ممن وصفهم القرآن بالأخسرين اعمالاً الذين يحسبون انهم يحسنون صنعا. ولم نستثن من ذلك جنوبى السودان التى لحقت بانتخاباتها أضعافاً مضاعفة من الشبهات التى وصمت انتخابات الشمال، فقد تواترت مواقف قطاعات كبيرة من احزاب الجنوب والمراقبون المحليون والدوليون على ان عناصر الحركة الشعبية لتحرير السودان مارست من الانتهاكات والخروقات والتعديات ابان العمليات الانتخابية ما تنوء به الجبال الراسيات. ويحيرنا ان قوى المعارضة الشمالية آثرت ان تغض أبصارها عن تجاوزات الجنوب، وهو موقف ربما اضطرت اليه اضطراراً. ولا جُناح على المضطر، ولا حرج. وان كان موقف هذه القوى يجئ خصماً علي مصداقيتها وسمعتها وسلامة معيارها الخلقي. مهما يكن من أمر فان بؤر التفكير عندنا تمحورت حول مناخ الاحتقان وفقدان الثقة الذى خلفته نتائج الانتخابات بسبب شبهات التزوير وقرائنه. غير ان المراقب للمشهد السياسى السودانى اليوم يلاحظ - كما سبقت الاشارة - ان قطاعات مقدرة من اهل المعارضة ثابت الى عقائد جديدة فى مسعاها لتقويم نتائج الانتخابات بعد ان هدأت النفوس وعادت الى القلوب هدأتها. والمتابع لما يدور فى مدارات الأحزاب والتنظيمات المعارضة التى خسرت الانتخابات الاخيرة يلحظ بروز وتنامى لغةً مختلفة تعكس تغيراً نوعياً فى مواقفها، بحيث أخذ بعض هؤلاء يتقبلون نتائج الانتخابات بروح أكثر رياضية من ذى قبل، ويمارسون قدراً من النقد الذاتى فى وارد تقويم العوامل والأسباب التى احاطت بخساراتهم المروعة. وقد وجدت لافتاً للنظر فى هذا السياق ان يعزى معارض شرس فى مقام الاستاذ فاروق أبوعيسى، عبر تصريحات صحفية منشورة مؤخراً، الحصيلة البائسة لأحزاب المعارضة الى ما اسماه (الربكة المصاحبة لقرار المشاركة من عدمه)، ثم الى (الاخطاء التى وقعت فيها المعارضة عبر مراحل الانتخابات المختلفة مثل التقاعس عن التسجيل، بل واهماله كلياً، وضعف متابعة مراقبيها لمراحل التصويت وفرز الاصوات، وفشل المعارضة فى ادراك اهمية تكثيف حملاتها الانتخابية وسط قطاعات النساء والشباب).
(4)
ولكن الثابت، مهما يكن من أمر، هو ان نتائج الانتخابات وشبهاتها أدت فى الواقع العملى الى خلق مناخ سياسى متفاحش سادته حوامض المرارات والاحتقانات والاستقطاب المزرى وفقدان الثقة. ولهذا نادينا، ونجدد النداء، للعصبة المنقذة ان ترعى وجه الله وتغلّب أجندة الوطن الكبير فوق أجندتها الذاتية، وأن تسعى لتجاوز حالة الانحباس الحرارى فى المناخ الراهن بالدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة فى العام 2012. ولكننا نعود على عقبينا فنراجع موقفنا السابق بشأن الانتخابات الرئاسية. اذ اخترنا لانفسنا ان نصطف على صعيدٍ واحد مع العناصر الوطنية التى رحبت بتولى الرئيس عمر البشير مقاليد الرئاسة لعُهدة دستورية كاملة مدتها خمس سنوات، يشرف خلالها على قيام انتخابات نيابية مبكرة فى اعقاب اكتمال استفتاء تقرير المصير لشعب جنوبى السودان.
ومن العناصر الوطنية ذات البذل المشهود والتاريخ الناصع فى التصدى لقضايا العمل العام حبيبنا ووديدنا الاستاذ الجامعى، رفيق الراحل العقيد جون قرنق، وأحد أبرز القيادات الشمالية فى الحركة الشعبية لتحرير السودان، الدكتور الواثق كمير. وقد عجم الواثق كنانته بأخرة ثم أطلق سهمه فى سماء الأزمة الراهنة. وبين يدى كراسة تضم سلسلة مقالات جديدة بعنوان (طلقة أخيرة فى الظلام: كيف يرضى الرئيسان المنتخبان مواطنيهما؟)، وقد نشرت "الاحداث" حلقتيها الاولى والثانية يومى الاثنين والثلاثاء المنصرمين. وكان الواثق قد بادر قبل حوالى العامين، وتحديدا فى يوليو 2008، بدعوة القوى السياسية فى السودان بمختلف اتجاهاتها للوقوف خلف الرئيس عمر البشير وفقاً لبرنامج وطنى يحقق الانتقال الديمقراطى السلمى والتعددية السياسية، وذلك على اساس ان مجمل الظروف الموضوعية والذاتية لا تسمح بتغيير رأس الدولة. وتضمنت مبادرة الواثق تلك توسيع الحكومة السابقة على اساس برنامج وفاقى وطنى يسعى لمعالجة ازمة دارفور، ويؤدى الى تفعيل آليات المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك فى مقابل مناصرة القوى السياسية المشاركة فى البرنامج للرئيس البشير فى مواجهة المحكمة الجنائية الدولية.
وقد عاد الدكتور الواثق كمير مرة اخرى عبر مبادرته الجديدة ليدعو الرئيس المنتخب لمواجهة استحقاقات ما بعد ابريل 2010 من خلال توسيع قاعدة الحكم على المستويين الاتحادى والولائى على أساس ما يطلق عليه "حكومة مشاركة"، و ذلك على نحو يستوعب التحديات الكبرى التى نقف بإزائها وفى مقدمتها تقرير المصير والازمة الدارفورية. وبعد ان طرح الواثق احتمالات انفصال الجنوب من حيث انه يفرض واقعاً جديداً غير مسبوق فى تاريخ السودان، انتهى الى ان هذا الواقع الجديد يلزم رئيس الجمهورية - حال وقوع الانفصال - بان يدعو الى انتخابات مبكرة للمجلس الوطنى والمجالس الولائية وحكام الولايات، وذلك فى نهاية السنة الثانية من الآجال الدستورية لهذه الهيئات. ثم يضيف فى مقام التحليل وتهيئة الأرضية المنطقية لدعوته:(ان من اهم واخطر واجبات البرلمان المنتخب صياغة واجازة الدستور الدائم لدولة شمال السودان، الأمر الذى يستدعى بالضرورة ان يكون المجلس ممثلاً لكل القوى السياسية الفاعلة فى البلاد للمشاركة فى تقرير مصيرها، والا فان المجلس الوطنى، عقب اخلاء النواب الجنوبيين لمقاعدهم، سيتحول الى برلمان الحزب الواحد، مما يقدح فى مصداقية ما يجيزه من تشريعات، خاصة الدستور الدائم). وذلك فضلا عن ان الانتخابات المبكرة ستؤدى بالضرورة الى اتاحة المجال للوصول الى تسوية ناضجة وناتجة لأزمة دارفور، وتمكين الحركات الدارفورية من تأهيل أنفسها والعبور بقياداتها وكادراتها وجماهيرها من جلافة البارود الى ثقافة الديمقراطية البرلمانية.
(5)
يميز الواثق فى ورقته اذن بين سيناريوهات ما بعد الاستفتاء، ثم يطرح دعوة الانتخابات المبكرة ولكنه يرهنها بسيناريو الانفصال. فأما اذا انتهى الاستفتاء الى تأكيد رغبة الجنوبيين فى البقاء فى اطار الدولة الموحدة فانه لا يرى بأساً من استئناف المجالس النيابية الاتحادية والولائية لعُهداتها الدستورية واكمالها لمدتها التى تبلغ خمس سنوات بحسب نص المادة 90 من الدستور الانتقالى. وطرْحْ الواثق - مهما يكن من أمر تحفظاتنا التى سنبينها - يتسق مع تحليله الذى يربط مقتضيات الانتخابات المبكرة بالتناقضات التى يفرزها على الصعيد الدستورى انفراد حزب المؤتمر الحاكم شبه الكامل بمقاعد البرلمانات الاتحادية والولائية فى حال الانفصال، نتيجة للخروج الحتمى لنواب الحركة الشعبية من برلمان دولة شمال السودان. ونحن اذ نرحب من حيث المبدأ بالطرح الذى يقدمه الدكتور الواثق كمير، وجودة تحليله ومخرجاته الجدلية مما لا يتنازع فيه عنزان، فاننا فى ذات الوقت نخالفه الرأى خلافاً صريحاً بينّاً كونه يسارع الى ربطه دعوة الانتخابات المبكرة رباطاً محكماً بسيناريو الانفصال. ونبدى استغرابنا لمزاوجته الكاثوليكية التعسفية بين الدعوة للانتخابات المبكرة والقضية الجنوبية إبتداءً، وكأن أزمة الشمال الراهنة لا تشغل باله ولا تحزن قلبه، كما تشغل الكثرة الكاثرة من بنى وطننا فى يومهم هذا وتحزنهم. وكأن ازمة الشمال فى حد ذاتها ليست من الجسامة بمكانٍ تستدعى معه حلولاً سياسية ودستورية جذرية.
ولا غرو أن الواثق يصرح فى ورقته بغير مداورة وهو يخاطب الرئيس حاثاً اياه على التعهد بالدعوة الى الانتخابات المبكرة، فى حال انتهى أمرنا الى خيار الانفصال، وهو يصفها -اى الانتخابات المبكرة- بأنها "خطوة ضرورية": (هذه خطوة ضرورية لا علاقة لها بأسباب الخلاف حول نتائج الانتخابات الماضية، بل تمليها اعتبارات موضوعية). ويبدو لى من تأمل اللغة التى يستخدمها الواثق هنا انه يطفف تطفيفاً ظاهراً من موازين القوى السياسية الشمالية ولا يبدى اى قدر من التعاطف مع محنتها الراهنة، بل ويتنصل تماماً عن أى التزام سياسى او اخلاقى تجاه الازمة التى افرزتها نتائج الانتخابات الابريلية. "الاعتبارات الموضوعية" فى لغة الواثق هى التى تتصل بسيناريو الانفصال فقط لا غير، وخلاف ذلك من مظاهر الازمة لا تكتسى فى عقيدته رداء الموضوعية. وأنا أجد فى ذلك الموقف عجباً عجاباً، لا سيما اذا اخذنا فى الاعتبار ان الواثق نفسه كان واحداً من المرشحين فى دوائر التمثيل النسبى بالعاصمة القومية عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، التى انتهت قوائمها فى النتائج النهائية لغالب الدوائر الشمالية الى ما يشبه الصفر.
(6)
ويبدو ان وجدان الدكتور الواثق كمير قد اطمأن من خلال مراقبته لمجريات الاحداث ورصده لتطورات الوقائع الى ان حديث التزوير تحوطه العلل القادحة، بل وربما كان فى حقيقة الأمر أقرب الى الاسرائيليات التى لا تقوى على الصمود امام التحليل العلمى فهو- فى ورقته - يدعو القوى السياسية المعارضة لأن تترك دعاوى التزوير وراء ظهرها وان تتجه بعزيمة صادقة الى ممارسة نقدٍ ذاتى تستمد منه وقوداً يؤهلها للتعلم من تجربتها، ويمكّنها من التعاطى الايجابى مع حقائق الواقع، ثم يدعوها الى الكف عن اهدار الطاقات فى التشفى والاحتجاج. ويتساءل الواثق: ( .. والا فما هى بدائل القوى السياسية المعارضة الرافضة لنتائج الانتخابات؟ ليس هناك من بديل غير اللجوء للسلاح او الانتفاضة الشعبية التى تدخل البلاد فى طريق الفوضى وتفتح الباب لحرب اهلية جديدة. فان اشار البعض الى تجارب المعارضة فى كينيا وزمبابوى وايران وتايلاند فليتذكروا ان النتائج النهائية لتلك التجارب كانت التسوية السياسية. والافضل ان نصوب النظر تجاه تجارب اخرى معاصرة تشير الى امكانية تنحية الحزب المهيمن عن طريق الانتخابات، كما حدث فى زامبيا والسنغال وكيب فيردى وشيلى والبرازيل وبوليفيا ونيكاراجوا. ولا نحتاج للذهاب بعيداً، فقد نجحت احزاب المعارضة فى ازاحة حزب KANU الحاكم فى الجارة كينيا الذى استأثر بالحكم لأربعة عقود كاملة). وسلطة المنطق فى هذه الفقرة من حديث الواثق لا يعدوها التقدير السليم ولا يخطئها العقل الرصين. المعضلة الوحيدة هى ان الواثق يقدم رجلاً ويؤخر اخرى عندما يصل بنا الامر الى متطلبات تهيئة المناخ الملائم لإمضاء مسيرة التحول الديمقراطى السلمى المتجاوز لخيارات العنف الفوضوية، ويتردد فى التسليم بمظاهر الشذوذ فى المشهد السياسى الحالى الذى افرزته الانتخابات الابريلية. هل يتصور اى مراقب منصف ان يكون هناك برلمان سودانى منتخب يمارس سلطة القرار والحسم بشأن قضايا السودان المصيرية فى غياب حزب تاريخى كحزب الامة وطائفة مؤثرة كطائفة الانصار؟ والشئ نفسه ينطبق على حزب الحركة الوطنية العتيد، الاتحادى الديمقراطى وما يتبعه من طوائف. وجوهر دعوانا هنا هو انه، وحتى تكون المجالس النيابية الاتحادية والسلطات الولائية التشريعية والتنفيذية معبرة تعبيراً ديمقراطياً مشروعاً عن الوطن الكبير بأطيافه وقطاعاته وكتله وقواه السياسية والاجتماعية، فانه لا بد من انتخابات مبكرة لا تكون نتائجها حصيلة لتدابير تقنية ماكرة يتقنها أساطين الحزب الحاكم وكادراته الفنية التى تخصصت منذ نعومة أظافرها فى مخاصرة كل انواع الانتخابات ومباصرتها، وتوظف فيه قدرات الدولة بهيلها وهيلمانها، وتستغل معه جهالة الاحزاب السياسية المعارضة وقصر نظرها وأمراضها المزمنة. الدعوة للانتخابات المبكرة - عندنا - لا رابط لها بنتائج الاستفتاء، فالمراد منها أولاً وأخيراً هو ان تكون بلسماً يوحد الارادة الوطنية، ويعيد الثقة فى سلامة المسار الديمقراطى وكرامته، ويقدم لاهل السودان أملاً يرون معه ضوء الشمس نهاية النفق، ثم تلى بعد ذلك مقتضيات ومبررات تجاوز التعقيدات الدستورية المترتبة على الانفصال.
(7)
المطلوب اذن ان تتحلى عصبة المؤتمر الوطنى بروح جديدة تتحلل معها من عقدة الفكر الشمولى وتتخلص من عقيدة الاستعلاء، وتستبرئ لنفسها من اثم النظرة الدونية الى خصومها السياسيين. الديمقراطية تقوم على تعدد اللاعبين شخوصاً واحزاباً وكيانات مدنية. ومنهج تبخيس الأحزاب والقوى المعارضة ووصمها بأنها آثار دارسة من أطلال الماضى وتراثه مكانها قاعات المتاحف كما يردد بعض رموز الحزب الحاكم، لا يساهم فى خلق المناخ الذى نتطلع اليه. الذى يسهم حقاً فى خلق التطور الديمقراطى المعافى هو وجود احزاب وقوى سياسية متعددة وقادرة وفاعلة، تمارس مهام الحكم بكفاءة، او تنهض بدور المعارضة والولاية على التشريع والرقابة على الاداء التنفيذى بمسئولية وشجاعة. والبرلمانات الاتحادية والولائية التى افضت اليها انتخابات ابريل لا تشبه من قريب او بعيد النماذج التى تعرفها الديمقراطيات الحقيقية فى عالم اليوم، بل هى اقرب الى الكيانات الشمولية التى خبرتها الشعوب تحت ظلال أنظمة الحزب الواحد فى مشارق الارض ومغاربها. ولهذا فان الدعوة الى الانتخابات المبكرة ينبغى ان تتسع فى نطاقها ومدلولها وتداعياتها توسعةً تستوعب كل معطيات المشهد السياسى الماثل، فلا تقتصر النظرة اليها على كونها معالجة سياسية محدودة لمقتضيات فراغ دستورى محتمل قد ينتجه قرار شعب الجنوب بتغليب خيار الانفصال.
أيجوز ان الدكتور الواثق كمير، الذى ظل يعاظل قضية الوحدة والانفصال منذ شبابه الباكر وحتى ابيضت مفارق شعره، توصل فى قرارة نفسه الى ان الانفصال آتٍ لا ريب فيه وان الحديث عن الوحدة هو من قبيل تحصيل الحاصل؟ ومغزى مثل هذا الافتراض ندركه لو عقلنا ان مبادرته فى خاتمة المطاف تضع الرئيس المنتخب والحزب الحاكم أمام الأمر الواقع. فكما ان الانفصال حقيقة حتمية مسلم بها، تكون الانتخابات المبكرة حقيقة تابعة ومؤكدة. والحال كذلك يكون كل الحبر الذى دلقناه، وكل الحوار الذي حررناه وولجنا الى شعابه نقاشاً اكاديمياً محضاً، حتى لا نقول جدلاً بيزنطياً؟ يجوز. ولم لا؟ فالذين خبروا الواثق يعرفون لزوماً انه سياسى محنك وماكر، يمكن ان يعلّب الهواء ويبيعه فى سوق المواسير. ولكن ليس الى درجة ان يبيع الماء فى "حارة السقايين". والسقايين هنا هم رؤوس العصبة المنقذة ودهاقنة الحزب الحاكم.
وفى كل الاحوال فاننا لا نملك الا ان نعبر عن الأسف من ان اعادة تشغيل وتفعيل الواقع السياسى فى شمال السودان وترسيخ القيم الديمقراطية فى تربته لو كُتب له ان يكون، فانه يجئ مقابل ثمن باهظ، سيظل السودان يدفع فواتيره واستحقاقاته جيلاً بعد جيل، الا وهو انفصال الجنوب وقيام سودان جديد لا يمتد بالضرورة من حلفا الى نمولى.
نقلاً عن صحيفة "الاحداث" – 05/12/2010
مقالات سابقة:
http://sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=مصطفى%20عبدالعزيز%20البطل&sacdoid=mustafa.batal


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.