شاهد بالفيديو.. الفنانة عشة الجبل تحيي حفل غنائي داخل أحد الأحياء في وضح النهار وتحصل على أموال طائلة من "النقطة"    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    إصابة 32 شخصاً بالكوليرا بينها 3 حالات وفاة بمعسكر "مسل" للنازحين في شمال دارفور    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن مكي والثورة المهدية -الحلقة الثانية- ... بقلم: عبد الله محمد قسم السيد- السويد
نشر في سودانيل يوم 14 - 05 - 2010

نظم القسم السياسي ب (الرأي العام) حلقة نقاشية حول نتائج الانتخابات ومستقبل القوى التقليدية تحدث فيها الباحثون حسن مكي مدير جامعة افريقيا، حسن الساعوري استاذ العلوم السياسية، ومختار الأصم من المفوضية القومية للإنتخابات وبابكر فيصل. ونسبة لما أدلى به الباحث حسن مكي من معلومات فجة وعقيمة عند تناوله للثورة المهدية وزعيمها الإمام محمد أحمد المهدي، رأينا أن ندحض ما قاله من واقع المصادر العلمية المتوفرة حاليا والتي كان من المفترض أن يطلع عليها حسن مكي قبل أن يبدي ما يرى عن هذه الثورة. وحتى لا يفوت القارئ ما قاله حسن فإني أعيده هنا بإختصار شديد. يقول حسن مكي أن الثورة المهدية عزلت دارفور والسودان عن محيطها الإقليمي وعن العالم كما أشار إلى أن الإمام المهدي وجد نفسه في وضع غريب بعد إنتصار ثورته ووجد الأرض تميد من تحته نتيجة تفشي القبلية والموت والدماء. كما أشار حسن مكي إلى أن الإمام المهدي مات مسموما من قبل مشروعه والذي وقع فيه فيما يعني أنه وقع في شر أعماله والتي قادته إلى الموت بالتسمم. وقارن حسن الإمام المهدي بالرئيس البشير دون أن يوضح لنا وجه الشبه أو الإختلاف الذي يتميز بها كل منهما. كذلك وصف حسن مكي الخليفة عبد الله بأنه يمتلك قدرات ولكنه في نفس الوقت وصفه بالجهل وعزا ذلك إلى أنه لم يسافر إلى خارج السودان ولا حتى إلى الأراضي المقدسة. وقال بأن الخليفة عبد الله كان يعيش بثقافة ما يسمى بالإسلام الأسود لذلك وقع فريسة سهلة للإنجليز وجزروهم (يقصد الأنصار) بمدافع المكسيم. هذا بإختصار شديد ما قاله حسن مكي في هذه الندوة التي أقامها القسم السياسي لصحيفة الرأي العام والتي قامت بنشرها بتاريخ الحادي عشر من مايو 2010م.
في الحلق الأولى في ردنا على الباحث حسن مكي فيما "حكاه" عن الثورة المهدية تناولنا إجمالا كيف أن هذا الباحث لم يتبع المنهجية العلمية في البحث فيما يتعلق بالموضوع الذي تناوله بل كان حديثه أقرب إلى ما تتناوله مجالس الونسة التقليدية التي يمارسها البعض في أوقات تناول الجبنة والشاي. كما أنه وهويتحدث عن أعظم ثورات القرن التاسع عشر في العالم لم يتحر الصدق وهو الذي يقول عنه الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب بأنه المفكر الإسلامي، فيما ذهب إليه من قول في حق قائد تلك الثورة. وفي هذه الحلقة والحلقات القادمة سنقوم بتفنيد ما ورد على لسانه بالأدلة الدامغة التي تؤكد على أن هذه الثورة وقائدها الإمام المهدي حققت وحدة السودان بعد أن جمعت كل قبائله في صف واحد. كما سنوضح أيضا نجاح الدولة المهدية في تحرير السودان من المستعمر التركي المصري والذي يرجع فى المقام الأول الى المجتمعات التي أصبحنا نسميها في حاضرنا المعاصر بسكان المناطق المهمشة والذين كانوا وما زالوا يمثلون الروح من الجسد لأى حركة ثورية فى البلاد، دون أن ينفي عن الآخرين دورهم فيها. كما سنوضح أن سقوطها أي دولة المهدية، شكل البعد الذى تنطلق منه عقلية المستعربين وما يسمى بالعلماء والذين يسعون للحفاظ على مكتسباتهم الاقتصادية والسياسية حتى لو كان الثمن التحالف مع أطراف خارجية كما حدث من قبل بعضهم والذين رأوا فى انتصار الثورة المهدية وهيمنة عناصر من غير المستعربة على القرار السياسى والاقتصادى تعد على حقوقهم "التاريخية" خاصة فى فترة الخليفة عبد الله. لذلك كان تحالفهم مع "مخلفات" الحكم التركى المصرى عند الغزو الانجليزى المصرى للسودان يمثل قمة دفاعهم عن مصالحهم باسم الاسلام والعروبة على الرغم من أن الغازين الحقيقيين ليسوا بمسلمين. قبل الحديث عن كيفية توحيد القبائل السودانية المختلفة من قبل الثورة المهدية فإننا سنتحدث عن الوعي والإدراك للإمام المهدي وخليفته الخليفة عبد الله بما يدور في العالم العربي والإسلامي لندحض حديث حسن مكي والذي يصف فيه الخليفة عبد الله بالجهل. ولما كان الخليفة عبد الله يمثل اليد اليمنى للإمام المهدي يكون بالتالي الإمام المهدي في نظر حسن مكي أكثر جهلا من خليفته. ولنصل إلى نفي إتهام حسن الباطل في حق هذين القائدين فإننا نبدأ بالأسباب التي ينشدها الإمام المهدي وهو يعد لقيام الثورة وما ماذا تحقق له منها.
قامت الثورة المهدية لتحقيق قيم ايجابية اربعة:
القيمة الايجابية الاولي تتمثل في فكرة المساواة بين السودانيين انطلاقا من روح الاسلام الداعية الي المساواة ومن روح الوطنية التي اثبت التاريخ تجذرها في وجدانه. هذه القيمة والتي ذكرها الشاعر والمادح ود سعد في مدحته "خليت الحر يقول للعبد سيدي." كانت السبب المباشر في معارضة الكبابيش للمهدية کما يقول الباحث عبد الله علي إبراهيم في دراسته حول المهدية والكبابيش بأن أصل معارضة الكبابيش للمهدية يرجع الى أنها ساوتهم بالقبائل (التبّع). من جانب آخر فان الامام المهدي أضاف بعدا جديدا لمفهوم المساواة وهو المواطنة بجانب الكفاءة والشعبية لمن هم أجدر بقيادة الأمة بإعتبارها لب روح الإنصاف والعدل والحق الذي ينظم التعاملات بين البشر.[1] لذلك نجد أن خلفاء الإمام المهدي والأمراء واصحابا الرايات يمثلون بقاع السودان المختلفة.
القيمة الايجابية الثانية والتي ترتبط بمفهوم المساواة تتمركز حول فكرة العدالة الاجتماعية كما تشير اليها سياسة الأرض وسياسة بيت المال كما قال الباحث محمد سعيد القدال. ولکي يصل الي هذا الهدف عمل الامام المهدي علي قيام الحكم على أسس موضوعية تتعلق بالكفاءة والشعبية (من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين) كما قال الإمام المهدي، وليس بالوراثة أو أي اعتبارات شبيهة.
القيمة الايجابية الثالثة والتي تعتبر مركز الصراع في السودان بعد أكثر من مائة عام على سقوط الدولة المهدية فهي الاعتزاز بالهوية السودانية في مقابل الهوية العربية الاسلامية أو التركية-الخديوية الاستعمارية. وبسبب هذا الاعتزاز كانت الحرب على القيم الثقافية لكلما هو أجنبي خاصة الذي يرتبط بالاتراك والمصريين ولباسهم وعاداتهم والدعوة للتفرد السوداني فيما يتعلق بالزي والعادات. من هنا جاء زي الأنصار المميز.
القيمة الايجابية الرابعة هي قيام دولة عصرية في السودان والتي تمثلت في التوثيق الدقيق لكل أوجه نشاط الدولة المهدية حتى وهي تقود حربها التحررية فكان التوثيق شاملا النشاط الحربي والإداري والمالي بجانب الخطاب الإعلامي والفكري والوعظي. هذه القيمة الرابعة تدحض تماما ماذهب إليه حسن مكي في وصفه بالجهل للخليفة عبد الله حيث أن هذا التنظيم الذي يتحدث عنه المؤرخين أمثال أبو سليم والقدال يؤكد القدرة والإرادة التي يتمتع بها الإمام المهدي وخليفته. فمثلا يقول القدال "كان بيت المال دقيقا في ضبط حساباته وحفظ دفاتره، ويشهد على ذلك الوثائق الخاصة به ودقتها. فالدولة المهدية لم تكن نظاما فوضويا متخلفا كما يذهب بعض كتاب التاريخ ( وعلى العكس تماما ) فالنظام الإداري والمالي كانت فيهما روح العصر، كما شمل التوثيق أيضا استخدام الوصولات في التعاملات المالية كالزكاة ".[2] وما يدعو للتدبر في روح التظيم والموضوعية في التفكير لدى الامام المهدي وخليفته عبد الله أن الخطابين الحربي والفكري كانا يسيران جنبا الى جنب في اطار المهمة الكبرى وهي تحرير السودان من المستعمر التركي المصري. فالوثائق التي خلفتها الثورة المهدية خلال الأعوام التسعة عشر وهي المدة الممتدة من اندلاع الثورة في عام 1881م وحتى سقوطها على يد الغازي الانجليزي المصري في عام 1898م، تعادل أضعاف ما تركته كل الحقب السابقة بما فيها الحكم التركي المصري الذي يعتبر قد قاد عملية التحديث في العالم العربي الاسلامي. هذا التوثيق يعتبر من أهم سمات التحديث في عمل الدولة الحديثة كما هو متبع في المجتمعات الغربية والذي قاد الى التطور الهائل في المعرفة الانسانية نتيجة لتراكم الخبرات وللتمكن من المحاسبة وضبط الأداء الإداري.
مفهوم الدولة لدي الامام المهدي وهو يتقدم من نصر إلى نصر قام على التجديد في الفهم الديني من أجل مواكبة العصر الذي يعيش فيه المجتمع السوداني في نهايات القرن التاسع عشر. فمثلا رفض الإمام المهدي فقه السلف باعتباره اجتهادا توصلوا اليه حسب طبيعة ظروفهم الاجتماعية والزمانية واعتبره غير ملزم له ولا لمن يأتي من بعدهم لاختلاف هذه الظروف زماناً ومكاناً. كان على رأس القضايا التى رفض الإمام المهدي قبولها وبالطبع قد شاور فيها يده اليمنى الخليفة عبد الله، تتعلق بالاذعان الى الحاكم وعدم الخروج عليه. يقول الإمام المهدي للعلماء الذين حاوروه حول اعلانه الثورة ضد الحكم الأجنبي باعتباره فى نظرهم حكم يقوم علي الاسلام " ولا تعرضوا لي بنصوصكم وعلومكم عن المتقدمين فلكل وقت ومقام حال ولكل زمان واوان رجال "[3] ]
نقد الدولة العثمانية وربيبتها المصرية لدي الامام المهدي يقوم على أن المهدية كما يقول أبو سليم لا تعترف بولاية اسلامية شرعية لأنها ترى " أن الخلافة ارتفعت بانتفاء شروطها من أزمنة متطاولة"[5]. وبالتالي فإن الإمام المهدي لم يعترف بالخلافة ويعتبرها بالتالي مفهوما لا يتماشى مع العصر الذي يعيشه. مفهوم الخلافة جعل بعض الفقهاء منذ قيام الدولة الأموية مرورا بالدولة العباسية والدولة العثمانية وحتى دولة الجبهة الاسلامية في السودان، وضع الشرع الاسلامي تحت عباءة الحاكم يوظفه لتحقيق مآرب سياسية متى أراد وبالكيفية التي يريد دون مراعاة لمصالح العباد ودون التزام بقيم الاسلام فيما يتعلق بالعدل والمساواة والرحمة. ودوننا في السودان ما كان يحدث في فترة نميري وما يحدث الآن من قبل البشير تحت إشراف مفكري الحركة الإسلامية وحسن مكي واحد منهم. وبذلك أصبح الحاكم يحكم بجبرية مستمدة من قضاء الله وقدره التي لا تقف بجانبها قدرة مخلوق أو ارادته. لهذا انتشر في تاريخ الدولة الاسلامية كما تميزت الدولة السودانية بعد إنقلاب الجبهة الإسلامية بالاستبداد السياسي والقهر بكل اشكاله وتبع ذلك الخنوع والخضوع والمسكنة والذلة بين المواطنين. رفض الإمام المهدي هذا االحق الالهي في الحكم والذي تستند عليها فكرة الخلافة كما رفض توريث السلطة داخل الأسرة وهو ما قام بتطبيقه فعليا منذ اندلاع الثورة.[6] ولما كان الخليفة عبد الله هو الملازم له في كل أمور الدولة فإن هذا الرفض يشير إلى الإطلاع الواسع في أمور السياسة لكليهما مما ينفي عنهما الجهل الذي وصمهم به حسن.
بهذه الفهم فان الثورة المهدية لم تقدم نفسها فقط في صورة الداعي لاحياء الدين الاسلامي وانما بجانب ذلك قدمت نفسها كحركة اصلاح سياسي واجتماعي يقوم على اجتهاد وفهم جديدين يرفضان الفكر السلفي اذا تعارض مع مصالح الشعب الآنية والمكانية. فمثلا عندما سأله أصحابه عن المذاهب الأربعة التي أوقف العمل بها أجاب المهدي بانهم "رجال ونحن رجال" وأن مذهبه "الكتاب والسنة" ويقول "ما جاء من عند الله على رؤوسنا وما جاء من النبي صلى الله عليه وسلم على رقابنا وما جاءنا من الصحابة ان شئنا عملنا به وان لم نشأ تركناه".[7] والسبب الذي أوقف به العمل بالمذاهب الأربعة "أن المذاهب جاءت باجتهاد أئمتها وأنها بالتالي عرضة الى الخطأ بحكم أنها اجتهاد بشري ولأن ما جاء بالاجتهاد قد لا يستقيم اذا تغير الظرف"[8] لقد انتقد المهدي الدولة العثمانية ومؤسساتها وامتدادها في مصر باعتبارها دولة استبداد لا ترعى حرمة المسلمين ولا تسعى لبسط العدل بينهم كما أنها اتخذت الكفار أولياء ومكنتهم من بلاد المسلمين.[9] هذا النقد للدولة العثمانية وامتدادها في مصر صحبه تطبيق عملي لدولة اسلامية سودانية تقوم على حرية العقيدة وهي بما تعارفنا عليه اليوم دولة المواطنة وان لم يقل المهدي بذلك حرفيا ولكنه من خلال ممارسته لعمل الدولة خلال فترتها الأولى والتي لم تتخلص فيها بعد من تبعات الحرب، تتأكد ملامح تلك الدولة باشراكه لغير المسلمين في الدفاع عنها والاشتراك في ادارتها. كذلك وعلى الرغم من أن المهدي فرض على اليهود والمسيحيين الاسلام والبيعة له باعتباره أنه سيسعد كل البشرية اما بدخولهم الاسلام أو أنهم سيحكمون بكتبهم المقدسة الأصلية الا أنه لم يذكر الجزية ولم يفرضها عليهم.[10]
الاصلاح الذي أراده الامام المهدي ومن بعده الخليفة عبد الله هو اعادة أحكام الاسلام وتطبيق شريعته ليس بالمفهوم الذي كان سائدا في الماضي لأن القلوب قد أفتتنت " بحب الدنيا والجاه والثناء والصيت (......) وقد تغير الزمن" لذلك فان الاصلاح لا يتم من خلال دولة الخلافة وإنما يتم من خلال والي مهمته اقامة الدين والعدل على أن يأتي هذا الوالي الى السلطة " ببيعة المسلمين عن قناعة ورضى " وألا تكون هذه البيعة " قاعدتها أسرية أو عائلية " بل تتم في حرية كاملة. لقد كان الامام المهدي جريئا في عرض ما يؤمن به من أفكار وحاسما ومصادما لكل من يعترض طريقه وهو يعمل على تطبيقها. تتمثل هذه الجرأة في رفضه العلاقة بين رجال الدين والدولة التركية حين رفض المساعدات التي تقدمها لرجال الدين مثل الطعام باعتبار أنه طعام غير شرعي يأتي من دولة غير شرعية. كما يتمثل الحزم في مخالفته وانتقاده لشيخه محمد شريف في حادثة ختان أبنائه متهما اياه بانه من اهل الدنيا ولا يعمل من أجل الدين. وهو بهذا الرفض لمساعدات الدولة ولنقده لشيخه وايمانه العميق بوطنه بجانب توحيده لقبايل السودان ضد الحكم الأجنبي يعتبر" قائدا ثوريا يملك مؤهلات (عصره) واستطاع أن يجسد الوعي الاجتماعي والسياسي وكيفهما في اطار الايديولوجية المهدوية التي استطاعت ان تحث انقلابا نوعيا في آلية الحكم ومنهج التشريع"[11].
كان السودان عند اندلاع الثورة المهدية تجمعات قبلية تختلف في ثقافاتها وأعراقها وتسيطر عليها قوي أجنبية تعمل علي التفريق بينها كلما دعت الضرورة. لذلك كان توحيدها لمواجهة المستعمر يتطلب شعارا يرفض التمايز بين الناس على أساس العرق وفي نفس الوقت يؤسس لفكر يرفض قبول الذل والخنوع للحاكم الجائر وان تدثر بالاسلام. كيف استطاع الإمام المهدي توحيد القبائل السودانية هو موضوع الحلقة القادمة لنوضح من خلاله للباحث والمفكر والمؤرخ الإسلامي جهله بتاريخ السودان وقبائله وما قامت به الثورة المهدية في سبيل توحيدها والذي عمل حسن ومن معه بعد 112 عاما على تفتيتها.
________________________________________
[1] أنظر (Erakovich, Rodney; Karvan, Dragoljub & Mwyman Sherman Ethics or Coruuption: Building a Landscape for Ethics Training in Southeastern Europe prepared for the working Group on Politico-Adminstrative Relations of the Network of Institutes ans Schools of Public Administration in Central and Eastern Europe, May 2001.)
[2] محمد سعيد القدال السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ص 192- 193 بين قوسين من الكاتب. ويضيف القدال محقا في الهامش بأن خطورة كلمات مندور المهدي تكمن في أنها وردت في الكتاب المقرر على طلبة المرحلة المتوسطة، مؤكدا على انتهاج مندور لروح المستعمر التي ترى في انسان السودان كغيره من الأفارقة الفوضى والاهمال، حين يقول القدال: "يبدو أن مصدر هذه الملاحظة الخاطئة أن المؤلف اعتمد على كتابات متحيزة ضد الدولة المهدية باعتبارها دولة لم تعرف النظام. ولا شك أن إعادة طبع الكتاب للمرة الخامسة دون تغيير فيه تجاهل لبعض الدراسات التي صدرت عن الدولة المهدية في العقدين الماضيين. نفسه الهامش ص 193 وص 145).
[3] منشورات الإمام المهدي .
[4] للمزيد عن الفكر المهدوي انظر محمد ابراهيم ابو سليم الحركة الفكرية في المهدية مطبعة جامعة الخرطوم ط1، 1970و عبدالله علي ابراهيم الصراع بين المهدي والعلماء دار نوبار للطباعة، القاهرة 1994 م
[5] المرجع السابق ص 247
[6] في ذلك أنظر الكيفية التي اتبعها المهدي في ادارة الدولة فيما يتعلق بالخلفاء والوزراء الذين اعتمد عليهم، المرجع السابق ص 209 الى 217
[7] المرجع السابق ص 222/223
[8] المرجع السابق ص 204
[9] محمد ابراهيم أبو سليم: الآثار الكاملة، رسائل المهدي الى والي وعلماء وأهل مصر مجلد رقم 5 ص 243 وحتى ص 253
[10] أبو سليم 2004 مرجع سابق ص 188
[11] أحمد ابراهيم ابو شوك منهجية التشريع المهدوي في السودان (1881-1885) كتابات سودانية. مركز الدراسات السودانيةالعدد 7 مارس 1999 القاهرة ص.ص 16-19
Abdalla gasmelseed
abdalla gasmelseed [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.