الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    البرهان : " لايمكن أن نرهن سيادتنا لأي دولة مهما كانت علاقتنا معها "    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    نادي دبيرة جنوب يعزز صفوفه إستعداداً لدوري حلفا    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    "مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان يكشف عن انتهاكات خطيرة طالت أكثر من 3 آلاف شخص"    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    خطوط تركيا الجويّة تدشّن أولى رحلاتها إلى السودان    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن مكي والثورة المهدية -الحلقة الثانية- ... بقلم: عبد الله محمد قسم السيد- السويد
نشر في سودانيل يوم 14 - 05 - 2010

نظم القسم السياسي ب (الرأي العام) حلقة نقاشية حول نتائج الانتخابات ومستقبل القوى التقليدية تحدث فيها الباحثون حسن مكي مدير جامعة افريقيا، حسن الساعوري استاذ العلوم السياسية، ومختار الأصم من المفوضية القومية للإنتخابات وبابكر فيصل. ونسبة لما أدلى به الباحث حسن مكي من معلومات فجة وعقيمة عند تناوله للثورة المهدية وزعيمها الإمام محمد أحمد المهدي، رأينا أن ندحض ما قاله من واقع المصادر العلمية المتوفرة حاليا والتي كان من المفترض أن يطلع عليها حسن مكي قبل أن يبدي ما يرى عن هذه الثورة. وحتى لا يفوت القارئ ما قاله حسن فإني أعيده هنا بإختصار شديد. يقول حسن مكي أن الثورة المهدية عزلت دارفور والسودان عن محيطها الإقليمي وعن العالم كما أشار إلى أن الإمام المهدي وجد نفسه في وضع غريب بعد إنتصار ثورته ووجد الأرض تميد من تحته نتيجة تفشي القبلية والموت والدماء. كما أشار حسن مكي إلى أن الإمام المهدي مات مسموما من قبل مشروعه والذي وقع فيه فيما يعني أنه وقع في شر أعماله والتي قادته إلى الموت بالتسمم. وقارن حسن الإمام المهدي بالرئيس البشير دون أن يوضح لنا وجه الشبه أو الإختلاف الذي يتميز بها كل منهما. كذلك وصف حسن مكي الخليفة عبد الله بأنه يمتلك قدرات ولكنه في نفس الوقت وصفه بالجهل وعزا ذلك إلى أنه لم يسافر إلى خارج السودان ولا حتى إلى الأراضي المقدسة. وقال بأن الخليفة عبد الله كان يعيش بثقافة ما يسمى بالإسلام الأسود لذلك وقع فريسة سهلة للإنجليز وجزروهم (يقصد الأنصار) بمدافع المكسيم. هذا بإختصار شديد ما قاله حسن مكي في هذه الندوة التي أقامها القسم السياسي لصحيفة الرأي العام والتي قامت بنشرها بتاريخ الحادي عشر من مايو 2010م.
في الحلق الأولى في ردنا على الباحث حسن مكي فيما "حكاه" عن الثورة المهدية تناولنا إجمالا كيف أن هذا الباحث لم يتبع المنهجية العلمية في البحث فيما يتعلق بالموضوع الذي تناوله بل كان حديثه أقرب إلى ما تتناوله مجالس الونسة التقليدية التي يمارسها البعض في أوقات تناول الجبنة والشاي. كما أنه وهويتحدث عن أعظم ثورات القرن التاسع عشر في العالم لم يتحر الصدق وهو الذي يقول عنه الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب بأنه المفكر الإسلامي، فيما ذهب إليه من قول في حق قائد تلك الثورة. وفي هذه الحلقة والحلقات القادمة سنقوم بتفنيد ما ورد على لسانه بالأدلة الدامغة التي تؤكد على أن هذه الثورة وقائدها الإمام المهدي حققت وحدة السودان بعد أن جمعت كل قبائله في صف واحد. كما سنوضح أيضا نجاح الدولة المهدية في تحرير السودان من المستعمر التركي المصري والذي يرجع فى المقام الأول الى المجتمعات التي أصبحنا نسميها في حاضرنا المعاصر بسكان المناطق المهمشة والذين كانوا وما زالوا يمثلون الروح من الجسد لأى حركة ثورية فى البلاد، دون أن ينفي عن الآخرين دورهم فيها. كما سنوضح أن سقوطها أي دولة المهدية، شكل البعد الذى تنطلق منه عقلية المستعربين وما يسمى بالعلماء والذين يسعون للحفاظ على مكتسباتهم الاقتصادية والسياسية حتى لو كان الثمن التحالف مع أطراف خارجية كما حدث من قبل بعضهم والذين رأوا فى انتصار الثورة المهدية وهيمنة عناصر من غير المستعربة على القرار السياسى والاقتصادى تعد على حقوقهم "التاريخية" خاصة فى فترة الخليفة عبد الله. لذلك كان تحالفهم مع "مخلفات" الحكم التركى المصرى عند الغزو الانجليزى المصرى للسودان يمثل قمة دفاعهم عن مصالحهم باسم الاسلام والعروبة على الرغم من أن الغازين الحقيقيين ليسوا بمسلمين. قبل الحديث عن كيفية توحيد القبائل السودانية المختلفة من قبل الثورة المهدية فإننا سنتحدث عن الوعي والإدراك للإمام المهدي وخليفته الخليفة عبد الله بما يدور في العالم العربي والإسلامي لندحض حديث حسن مكي والذي يصف فيه الخليفة عبد الله بالجهل. ولما كان الخليفة عبد الله يمثل اليد اليمنى للإمام المهدي يكون بالتالي الإمام المهدي في نظر حسن مكي أكثر جهلا من خليفته. ولنصل إلى نفي إتهام حسن الباطل في حق هذين القائدين فإننا نبدأ بالأسباب التي ينشدها الإمام المهدي وهو يعد لقيام الثورة وما ماذا تحقق له منها.
قامت الثورة المهدية لتحقيق قيم ايجابية اربعة:
القيمة الايجابية الاولي تتمثل في فكرة المساواة بين السودانيين انطلاقا من روح الاسلام الداعية الي المساواة ومن روح الوطنية التي اثبت التاريخ تجذرها في وجدانه. هذه القيمة والتي ذكرها الشاعر والمادح ود سعد في مدحته "خليت الحر يقول للعبد سيدي." كانت السبب المباشر في معارضة الكبابيش للمهدية کما يقول الباحث عبد الله علي إبراهيم في دراسته حول المهدية والكبابيش بأن أصل معارضة الكبابيش للمهدية يرجع الى أنها ساوتهم بالقبائل (التبّع). من جانب آخر فان الامام المهدي أضاف بعدا جديدا لمفهوم المساواة وهو المواطنة بجانب الكفاءة والشعبية لمن هم أجدر بقيادة الأمة بإعتبارها لب روح الإنصاف والعدل والحق الذي ينظم التعاملات بين البشر.[1] لذلك نجد أن خلفاء الإمام المهدي والأمراء واصحابا الرايات يمثلون بقاع السودان المختلفة.
القيمة الايجابية الثانية والتي ترتبط بمفهوم المساواة تتمركز حول فكرة العدالة الاجتماعية كما تشير اليها سياسة الأرض وسياسة بيت المال كما قال الباحث محمد سعيد القدال. ولکي يصل الي هذا الهدف عمل الامام المهدي علي قيام الحكم على أسس موضوعية تتعلق بالكفاءة والشعبية (من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين) كما قال الإمام المهدي، وليس بالوراثة أو أي اعتبارات شبيهة.
القيمة الايجابية الثالثة والتي تعتبر مركز الصراع في السودان بعد أكثر من مائة عام على سقوط الدولة المهدية فهي الاعتزاز بالهوية السودانية في مقابل الهوية العربية الاسلامية أو التركية-الخديوية الاستعمارية. وبسبب هذا الاعتزاز كانت الحرب على القيم الثقافية لكلما هو أجنبي خاصة الذي يرتبط بالاتراك والمصريين ولباسهم وعاداتهم والدعوة للتفرد السوداني فيما يتعلق بالزي والعادات. من هنا جاء زي الأنصار المميز.
القيمة الايجابية الرابعة هي قيام دولة عصرية في السودان والتي تمثلت في التوثيق الدقيق لكل أوجه نشاط الدولة المهدية حتى وهي تقود حربها التحررية فكان التوثيق شاملا النشاط الحربي والإداري والمالي بجانب الخطاب الإعلامي والفكري والوعظي. هذه القيمة الرابعة تدحض تماما ماذهب إليه حسن مكي في وصفه بالجهل للخليفة عبد الله حيث أن هذا التنظيم الذي يتحدث عنه المؤرخين أمثال أبو سليم والقدال يؤكد القدرة والإرادة التي يتمتع بها الإمام المهدي وخليفته. فمثلا يقول القدال "كان بيت المال دقيقا في ضبط حساباته وحفظ دفاتره، ويشهد على ذلك الوثائق الخاصة به ودقتها. فالدولة المهدية لم تكن نظاما فوضويا متخلفا كما يذهب بعض كتاب التاريخ ( وعلى العكس تماما ) فالنظام الإداري والمالي كانت فيهما روح العصر، كما شمل التوثيق أيضا استخدام الوصولات في التعاملات المالية كالزكاة ".[2] وما يدعو للتدبر في روح التظيم والموضوعية في التفكير لدى الامام المهدي وخليفته عبد الله أن الخطابين الحربي والفكري كانا يسيران جنبا الى جنب في اطار المهمة الكبرى وهي تحرير السودان من المستعمر التركي المصري. فالوثائق التي خلفتها الثورة المهدية خلال الأعوام التسعة عشر وهي المدة الممتدة من اندلاع الثورة في عام 1881م وحتى سقوطها على يد الغازي الانجليزي المصري في عام 1898م، تعادل أضعاف ما تركته كل الحقب السابقة بما فيها الحكم التركي المصري الذي يعتبر قد قاد عملية التحديث في العالم العربي الاسلامي. هذا التوثيق يعتبر من أهم سمات التحديث في عمل الدولة الحديثة كما هو متبع في المجتمعات الغربية والذي قاد الى التطور الهائل في المعرفة الانسانية نتيجة لتراكم الخبرات وللتمكن من المحاسبة وضبط الأداء الإداري.
مفهوم الدولة لدي الامام المهدي وهو يتقدم من نصر إلى نصر قام على التجديد في الفهم الديني من أجل مواكبة العصر الذي يعيش فيه المجتمع السوداني في نهايات القرن التاسع عشر. فمثلا رفض الإمام المهدي فقه السلف باعتباره اجتهادا توصلوا اليه حسب طبيعة ظروفهم الاجتماعية والزمانية واعتبره غير ملزم له ولا لمن يأتي من بعدهم لاختلاف هذه الظروف زماناً ومكاناً. كان على رأس القضايا التى رفض الإمام المهدي قبولها وبالطبع قد شاور فيها يده اليمنى الخليفة عبد الله، تتعلق بالاذعان الى الحاكم وعدم الخروج عليه. يقول الإمام المهدي للعلماء الذين حاوروه حول اعلانه الثورة ضد الحكم الأجنبي باعتباره فى نظرهم حكم يقوم علي الاسلام " ولا تعرضوا لي بنصوصكم وعلومكم عن المتقدمين فلكل وقت ومقام حال ولكل زمان واوان رجال "[3] ]
نقد الدولة العثمانية وربيبتها المصرية لدي الامام المهدي يقوم على أن المهدية كما يقول أبو سليم لا تعترف بولاية اسلامية شرعية لأنها ترى " أن الخلافة ارتفعت بانتفاء شروطها من أزمنة متطاولة"[5]. وبالتالي فإن الإمام المهدي لم يعترف بالخلافة ويعتبرها بالتالي مفهوما لا يتماشى مع العصر الذي يعيشه. مفهوم الخلافة جعل بعض الفقهاء منذ قيام الدولة الأموية مرورا بالدولة العباسية والدولة العثمانية وحتى دولة الجبهة الاسلامية في السودان، وضع الشرع الاسلامي تحت عباءة الحاكم يوظفه لتحقيق مآرب سياسية متى أراد وبالكيفية التي يريد دون مراعاة لمصالح العباد ودون التزام بقيم الاسلام فيما يتعلق بالعدل والمساواة والرحمة. ودوننا في السودان ما كان يحدث في فترة نميري وما يحدث الآن من قبل البشير تحت إشراف مفكري الحركة الإسلامية وحسن مكي واحد منهم. وبذلك أصبح الحاكم يحكم بجبرية مستمدة من قضاء الله وقدره التي لا تقف بجانبها قدرة مخلوق أو ارادته. لهذا انتشر في تاريخ الدولة الاسلامية كما تميزت الدولة السودانية بعد إنقلاب الجبهة الإسلامية بالاستبداد السياسي والقهر بكل اشكاله وتبع ذلك الخنوع والخضوع والمسكنة والذلة بين المواطنين. رفض الإمام المهدي هذا االحق الالهي في الحكم والذي تستند عليها فكرة الخلافة كما رفض توريث السلطة داخل الأسرة وهو ما قام بتطبيقه فعليا منذ اندلاع الثورة.[6] ولما كان الخليفة عبد الله هو الملازم له في كل أمور الدولة فإن هذا الرفض يشير إلى الإطلاع الواسع في أمور السياسة لكليهما مما ينفي عنهما الجهل الذي وصمهم به حسن.
بهذه الفهم فان الثورة المهدية لم تقدم نفسها فقط في صورة الداعي لاحياء الدين الاسلامي وانما بجانب ذلك قدمت نفسها كحركة اصلاح سياسي واجتماعي يقوم على اجتهاد وفهم جديدين يرفضان الفكر السلفي اذا تعارض مع مصالح الشعب الآنية والمكانية. فمثلا عندما سأله أصحابه عن المذاهب الأربعة التي أوقف العمل بها أجاب المهدي بانهم "رجال ونحن رجال" وأن مذهبه "الكتاب والسنة" ويقول "ما جاء من عند الله على رؤوسنا وما جاء من النبي صلى الله عليه وسلم على رقابنا وما جاءنا من الصحابة ان شئنا عملنا به وان لم نشأ تركناه".[7] والسبب الذي أوقف به العمل بالمذاهب الأربعة "أن المذاهب جاءت باجتهاد أئمتها وأنها بالتالي عرضة الى الخطأ بحكم أنها اجتهاد بشري ولأن ما جاء بالاجتهاد قد لا يستقيم اذا تغير الظرف"[8] لقد انتقد المهدي الدولة العثمانية ومؤسساتها وامتدادها في مصر باعتبارها دولة استبداد لا ترعى حرمة المسلمين ولا تسعى لبسط العدل بينهم كما أنها اتخذت الكفار أولياء ومكنتهم من بلاد المسلمين.[9] هذا النقد للدولة العثمانية وامتدادها في مصر صحبه تطبيق عملي لدولة اسلامية سودانية تقوم على حرية العقيدة وهي بما تعارفنا عليه اليوم دولة المواطنة وان لم يقل المهدي بذلك حرفيا ولكنه من خلال ممارسته لعمل الدولة خلال فترتها الأولى والتي لم تتخلص فيها بعد من تبعات الحرب، تتأكد ملامح تلك الدولة باشراكه لغير المسلمين في الدفاع عنها والاشتراك في ادارتها. كذلك وعلى الرغم من أن المهدي فرض على اليهود والمسيحيين الاسلام والبيعة له باعتباره أنه سيسعد كل البشرية اما بدخولهم الاسلام أو أنهم سيحكمون بكتبهم المقدسة الأصلية الا أنه لم يذكر الجزية ولم يفرضها عليهم.[10]
الاصلاح الذي أراده الامام المهدي ومن بعده الخليفة عبد الله هو اعادة أحكام الاسلام وتطبيق شريعته ليس بالمفهوم الذي كان سائدا في الماضي لأن القلوب قد أفتتنت " بحب الدنيا والجاه والثناء والصيت (......) وقد تغير الزمن" لذلك فان الاصلاح لا يتم من خلال دولة الخلافة وإنما يتم من خلال والي مهمته اقامة الدين والعدل على أن يأتي هذا الوالي الى السلطة " ببيعة المسلمين عن قناعة ورضى " وألا تكون هذه البيعة " قاعدتها أسرية أو عائلية " بل تتم في حرية كاملة. لقد كان الامام المهدي جريئا في عرض ما يؤمن به من أفكار وحاسما ومصادما لكل من يعترض طريقه وهو يعمل على تطبيقها. تتمثل هذه الجرأة في رفضه العلاقة بين رجال الدين والدولة التركية حين رفض المساعدات التي تقدمها لرجال الدين مثل الطعام باعتبار أنه طعام غير شرعي يأتي من دولة غير شرعية. كما يتمثل الحزم في مخالفته وانتقاده لشيخه محمد شريف في حادثة ختان أبنائه متهما اياه بانه من اهل الدنيا ولا يعمل من أجل الدين. وهو بهذا الرفض لمساعدات الدولة ولنقده لشيخه وايمانه العميق بوطنه بجانب توحيده لقبايل السودان ضد الحكم الأجنبي يعتبر" قائدا ثوريا يملك مؤهلات (عصره) واستطاع أن يجسد الوعي الاجتماعي والسياسي وكيفهما في اطار الايديولوجية المهدوية التي استطاعت ان تحث انقلابا نوعيا في آلية الحكم ومنهج التشريع"[11].
كان السودان عند اندلاع الثورة المهدية تجمعات قبلية تختلف في ثقافاتها وأعراقها وتسيطر عليها قوي أجنبية تعمل علي التفريق بينها كلما دعت الضرورة. لذلك كان توحيدها لمواجهة المستعمر يتطلب شعارا يرفض التمايز بين الناس على أساس العرق وفي نفس الوقت يؤسس لفكر يرفض قبول الذل والخنوع للحاكم الجائر وان تدثر بالاسلام. كيف استطاع الإمام المهدي توحيد القبائل السودانية هو موضوع الحلقة القادمة لنوضح من خلاله للباحث والمفكر والمؤرخ الإسلامي جهله بتاريخ السودان وقبائله وما قامت به الثورة المهدية في سبيل توحيدها والذي عمل حسن ومن معه بعد 112 عاما على تفتيتها.
________________________________________
[1] أنظر (Erakovich, Rodney; Karvan, Dragoljub & Mwyman Sherman Ethics or Coruuption: Building a Landscape for Ethics Training in Southeastern Europe prepared for the working Group on Politico-Adminstrative Relations of the Network of Institutes ans Schools of Public Administration in Central and Eastern Europe, May 2001.)
[2] محمد سعيد القدال السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ص 192- 193 بين قوسين من الكاتب. ويضيف القدال محقا في الهامش بأن خطورة كلمات مندور المهدي تكمن في أنها وردت في الكتاب المقرر على طلبة المرحلة المتوسطة، مؤكدا على انتهاج مندور لروح المستعمر التي ترى في انسان السودان كغيره من الأفارقة الفوضى والاهمال، حين يقول القدال: "يبدو أن مصدر هذه الملاحظة الخاطئة أن المؤلف اعتمد على كتابات متحيزة ضد الدولة المهدية باعتبارها دولة لم تعرف النظام. ولا شك أن إعادة طبع الكتاب للمرة الخامسة دون تغيير فيه تجاهل لبعض الدراسات التي صدرت عن الدولة المهدية في العقدين الماضيين. نفسه الهامش ص 193 وص 145).
[3] منشورات الإمام المهدي .
[4] للمزيد عن الفكر المهدوي انظر محمد ابراهيم ابو سليم الحركة الفكرية في المهدية مطبعة جامعة الخرطوم ط1، 1970و عبدالله علي ابراهيم الصراع بين المهدي والعلماء دار نوبار للطباعة، القاهرة 1994 م
[5] المرجع السابق ص 247
[6] في ذلك أنظر الكيفية التي اتبعها المهدي في ادارة الدولة فيما يتعلق بالخلفاء والوزراء الذين اعتمد عليهم، المرجع السابق ص 209 الى 217
[7] المرجع السابق ص 222/223
[8] المرجع السابق ص 204
[9] محمد ابراهيم أبو سليم: الآثار الكاملة، رسائل المهدي الى والي وعلماء وأهل مصر مجلد رقم 5 ص 243 وحتى ص 253
[10] أبو سليم 2004 مرجع سابق ص 188
[11] أحمد ابراهيم ابو شوك منهجية التشريع المهدوي في السودان (1881-1885) كتابات سودانية. مركز الدراسات السودانيةالعدد 7 مارس 1999 القاهرة ص.ص 16-19
Abdalla gasmelseed
abdalla gasmelseed [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.