المشهد الأول: دخل شيخ العرب أحد مكاتب المديرية بصحبة شاب في مقتبل العمر لم يتجاوز العشرين بعد. تخرج ذلك الشاب في المدارس العليا قبيل رحيل المستعمر. كان يجيد اللغة العربية و الحساب و يلم باللغة الإنجليزية حسب طبيعة التعليم في تلك المرحلة. بعد إكمال المرحلة الثانوية بحث ذلك الشاب عن العمل و لم يعثر على وظيفة تناسبه، إلا أنه سمع بسودنة الوظائف في تلك الفترة. فذهب إلى عمه الناظر و تحدث معه في الموضوع فما كان من الناظر المحترم إلا أن أخذ الشاب و توجها سويا إلى رئاسة المديرية في المدينة المجاورة. ألقى شيخ العرب نظرة فاحصة في وجوه الموظفين الذين كانوا ينظرون إليه بكل توجس و خوف لما له من سطوة و حظوة عند جناب المدير. وقف العم أمام أحد الموظفين و سأله قائلا: " أنت اسمك شنوه يا ود أخوي؟ فأجاب الموظف " دا أنا اسمي شعبان يا بيه." فما كان من شيخ العرب إلا أن أمسك بيد شعبان قائلا له " يا شعبان يا ولدي أبقى قايم من المكتب دا عشان ولدنا محمد أحمد دا عاوز محلك". فقام شعبان و جلس محمد أحمد في محله و ظل يعمل بكل جد ومثابرة ليثبت قدرته في الأعمال المكتبية و الحسابات بعد أن أخذ تدريبا كافيا على أيدي من سبقوه في الخدمة. لم يتأخر يوما عن المواعيد الرسمية و لم يذكر أنه قد مد يده إلى المال العام أو أنه قد استخدم سلطته بطريقة غير مشروعة. و نظرا لحسن سيرته و اجتهاده فقد أرسل في بعثة دراسية للجامعة الأمريكية في بيروت لينال شهادة عليا في الإدارة و عاد بعدها ليترقى مديرا للحسابات في رئاسة المديرية و قد كان مثال و قدوة يعمل ليل نهار لترقية الأداء و الإشراف على كل الأعمال الإدارية الموكلة إليه و قام بتدريب كادر من الشباب في هذا المجال لكي يحملوا اللواء من بعده. سكن محمد في منزل حكومي متواضع جدا و كان يتنقل مع الموظفين بسيارة الدولة المخصصة لذلك الغرض أثناء ساعات العمل الرسمي فقط. كان من حق محمد أحمد الحصول على تلك الوظيفة كما أنه كان يمتلك المؤهل المطلوب لها و قام بكل واجباته و ترقى في سلك الخدمة المدنية بطريقة نظامية. هذا الجيل هو الذي أرسى دعائم الخدمة المدنية في السودان و قدم نموذجا فريدا في القيم و الأخلاق المهنية و الانضباط. ظل محمد أحمد يعمل حتى أحيل على التقاعد بعد بلوغ السن القانونية. المشهد الثاني: تخرج السيد محجوب سر الختم من القسم الأدبي في كلية غوردون و ألتحق فور تخرجه بسلك الخدمة المدنية و تدرج في سلم الوظيفة حتى صار مفتش حكومات محلية بعدما حصل على شهادة الماجستير من جامعة أدنبرة. هذا بالإضافة إلى تدريب متقدم في مجالات الإدارة الحديثة و أساليب التطوير الإداري و قد حضر عددا من المؤتمرات في الداخل و الخارج وقدم أوراق عمل كثيرة و شهد له كل الذين زاملوه أو عملوا معه بالكفاءة و حسن التدبير و الحكمة والأمانة و النزاهة. لم يكن يجامل و لا يحابي قريبا و لا يظلم بعيدا. كان السيد محجوب رجلا ملتزما يؤدي صلاته في وقتها و يحرص على أداء الواجب و لا يؤجل عملا إلى الغد و ما وقف أمامه شخص أو موظف إلا أنصفه و رد له حقه وقد كان أول من يدخل مباني المجلس وآخر من يخرج. لا يكلف الناس ما لا يطيقون و يحترم آراء الآخرين و يشاور من هم دونه و يعمل برأيهم إذا رآه صائبا. و في ذات يوم دخل عليه أحد الرفاق بعد قيام الثورة المجيدة فقال " يا محجوب أنت حسب معلوماتنا مصنف رجل رجعي و أمثالك لا يمكن الاعتماد عليهم لتنفيذ برنامج الثورة الإصلاحي و لذلك نريد منك إخلاء المكتب فورا و تسليم ما بيدك من عهدة ". نظر إليه السيد محجوب وقد عقدت الدهشة لسانه و لكنه تلعثم قائلا " و الله يا ولدي أنا أول مرة أسمع هذه الكلمة ولكن مادام هذا رأي الثورة و قادتها من أمثالك فلا يكمن الاستمرار في هذا العمل بعد اليوم و خيرها في غيرها؛ و أرجوكم صفوا لي حقوقي عشان أشتري بيت لأولادي لو سمحت". نظر إليه الشاب بدون أدنى عاطفة قائلا له " نحن لسنا ضدك شخصيا و لكن لابد من تطهير الخدمة المدنية من كل العناصر الرجعية التي لا تواكب فكر الثورة التقدمي". فقد السيد محجوب وظيفته التي أفنى فيها شبابه بكل إخلاص و نزاهة و حل مكانه شاب متهور لا يرعى لله و لا لمؤمن ذمة. و في أول اجتماع له بالموظفين و العاملين ألقى ذلك الشاب خطبة طويلة جاء فيها:" تعلمون أن ثورتكم المظفرة و الخالدة قد جاءت لتصحيح الأوضاع في البلاد و السير بها قدما نحو مزيد من التقدم و الاشتراكية و نصرة الطبقة العاملة و الكادحة". قاطعه أحد الحضور قائلا " لكن يا ولدي سيد محجوب دا دخله شنوه بالكلام التقول فيه دا؟" فرد عيه الشاب بكل صلف " محجوب دا رجل رجعي و كان لازم من استبداله". وبعد أسبوعين من استلامه للعمل دعا ذلك الشاب كل العاملين و الموظفين لرحلة على ضفاف النيل اختلط فيها الحابل بالنابل و غنى الجميع و رقصوا على إيقاعات الطنبور و المردوم و كل ضروب الرقص السوداني بعد أن تناولوا وجبة غداء فاخرة اشرف على إعدادها مجموعة من الطهاة وحضرها لفيف من المسئولين في الدولة؛ و في اليوم التالي لذلك الحفل تغيب أكثر العاملين في تلك المصلحة عن العمل. تقبل السيد محجوب الأمر بصدر رحب و ما هي إلا شهور قلائل حتى حصل على وضع متميز في واحدة من كبرى الشركات في منطقة الخليج وبذلك يكون السودان قد فقد أحد كوادره المدربة. ليس هذا فحسب بل أن السيد محجوب قد استقطب معظم موظفي تلك المؤسسة للعمل معه في تلك الشركة الخليجية بعد أن صار مديرها العام. المشهد الثالث: حاتم شاب حديث التخرج من إحدى الجامعات. لم يشغل وظيفة من قبل في جهة حكومية أو خاصة و لكنه شاب أنيق و خطيب مفوه لا يشق له غبار ، تعرفه المنابر و حلقات النقاش في الجامعة. كان حاتم ناشطا في العمل الطلابي و عضوا بارزا في التنظيم أيام الدراسة. لم يبحث حاتم عن وظيفة بل جاءته على طبق من ذهب. فذات يوم قابله أحدهم و بادره بالسؤال التالي" يا أستاذ حاتم رأيك شنوه تمسك لينا المؤسسة دي عشان عاوزين ليها زول زيك كدا؟ أجاب حاتم " لكني يا أخي أنا ما عندي خبرة في مثل هذه الأعمال الإدارية." فرد صاحبه " يا حاتم يا أخي خبرة شنوه يكفي إنك زول منظم و عندك مقدرة على الكلام و النضم و دا المطلوب تماما؟ حاتم " بس يا أخي العمل الإداري مش بالبساطة دي،خاصة و أنه هذه مؤسسة مالية كبيرة ". -" يا أخي أنت جرب و حتشوف و نحن مش حنقصر معاك. حاتم " طيب أديني مهلة لحدي بكرة و حأرد عليك". - طيب يا حاتم قررت و لا لهسع؟ حاتم" أنا قبلت العرض بس لدي بعض الطلبات البسيطة. - قول شروطك يا سيد حاتم. حاتم " طبعا الموقع دا يحتاج شوية برستيج و لذلك يلزمني عربية كامري و مكتب جديد و سكرتيرة. - دا كله مقضي و مقدور عليه و بكرة حتكون عندك عربية بلوحات خاصة و سواق و أرجو أن تختار المكتب الذي يناسبك أما السكرتيرة فممكن تعينها حسب ذوقك. تسلم حاتم العمل و أنخرط في سلسلة اجتماعات لكي يتعرف على طبيعة العمل و توجهات الموظفين. بعد أسبوع من توليه الوظيفة طلب حاتم من نائبه، الذي أمضى أكثر من ربع قرن في ذلك الموقع، أن يقدم له تقريرا بحسابات المؤسسة و موجوداتها . أستلم حاتم التقرير في الموعد المحدد وبعد يومين استلم ذلك الموظف المحترم خطابا بإحالته على التقاعد للصالح العام. اختار حاتم ابن أخته و رفيق دربه ليشغل المنصب الذي صار شاغرا بعد إقالة نائب المدير. "يا خالو أنا عاوز لي عربية صغيرة لزوم المواصلات و الوظيفة الجديدة". حاتم " حاضر بس خلينا نشوف أخوانا في جياد عشان يؤمنوا ليك عربية". و ما هي إلا ثلاثة أيام حتى وجد ابن الأخت نفسه يقود عربية حرجلية اللون في شوارع الخرطوم. بعد تسعة أشهر تقدم حاتم بطلب إلى مجلس الإدارة يطلب فيه تذاكر سفر على سودانير لأنه يريد الذهاب إلى إحدى العواصم الأوروبية لقضاء شهر العسل و التمتع بعطلته السنوية. وافق المجلس الموقر على الطلب مع " بدل سفرية" بمعدل 200 دولار يوميا تقديرا لخدمات الأستاذ حاتم المتميزة في المؤسسة لأنه استطاع التخلص من كل الموظفين غير الموالين و استبدلهم بمجموعة من الشباب المجاهد. و في أول زيارة للمراجع العام أتضح أن المؤسسة قد خسرت 40% من رأسمالها.