من الروايات المجحفة التي كانت تروى في غابر الأزمان قدحاً في ذكاء أهل جنوب السودان إن التجار الشماليين (الجلابة) الموجودين هناك كانوا يمارسون مع أهل الجنوب ضرباً من بيع الغرر حيث يشترون منهم الديك بقرش واحد ويبيعونهم الريشة من ريشه بقرشين. ولكن الناظر إلى كسب الحركة الشعبية من مفاوضات السلام في نيفاشا يدرك أن مقدرات أهل الجنوب وذكاؤهم الفطري والسياسي أكبر بكثير من أن تثار حوله ظنون الغفلة أو يحاك حوله فطير الروايات. لعل الذي أعاد إلى ذهني تلك الرواية السمجة ما رشح من أخبار عن الإيماءة الذكية التي قابلت بها الحركة الشعبية طلب نائب الرئيس حين أعلنت عن استجابتها لرغبة تقَدّم بها علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية، للإقامة خلال الفترة المتبقية من تاريخ الاستفتاء في مدينة جوبا والتواجد في ولايات الجنوب العشر للعمل من أجل الوحدة، وتأكيدها اكتمال ترتيباتها كافّة لتمكين طه من التواجد في جوبا لمُساندة الوحدة. وقد قال دينق ألور وزير الخارجية، القيادي بالحركة للصحافيين بالبرلمان، إنّ الحركة تسمح لأيّة مجموعة بالذهاب للجنوب والدعوة للوحدة، وأضاف أن الفرصة مُتاحة للمؤتمر الوطني وأي قوى تدعو إلى الوحدة، ولهم مطلق الحركة للعمل في الجنوب من أجل الوحدة. يأتي هذا الطلب وتسعة أعشار الفترة الانتقالية قد أنقضت عجلى وما أصغت لأحاديث الشريكين النظرية عن الوحدة الجاذبة كما لم تشهد أي مجهود ملحوظ من أي من الشريكين المتشاكسين لدعم الوحدة أو توفير عوامل الجذب المطلوبة، بل أمعن الطرفان، وكل منهما يغني ليلاه، في ترسيخ وتعميق عوامل التنافر بسلوكهما السياسي المعيب الشيء الذي وفر بيئة صالحة للانفصال. ترى ما الذي يحمله الحاوي الوطني في جرابه العجيب ليحقق في العشر الأخير ما عجز الشريكان عن التأسيس له خلال الأعشار التسع المنصرمة من عمر الفترة الانتقالية؟ فإن كان جراب الحاوي محشو بريش حمام السلام الذي باعه الجنوبيون للمؤتمر الوطني في نيفاشا مقابل قسمة السلطة والثروة وحق تقرير المصير وإن المؤتمر الوطني ينوي ممارسة بيع الغرر مع أهل الجنوب للوصول إلى الوحدة عن طريق بيع الريش بعد أن قتل حمامة الوحدة وخم بيضها فإن الخطوة ليست سوى محاولة مكشوفة ينقصها الذكاء السياسي الذي أبداه في المقابل أهل الحركة بقبولهم طلب نائب الرئيس وتأكيدهم السماح لكل من يرغب في الذهاب للجنوب من أجل الوحدة. ترى هل سيتنازل قادة الحركة الشعبية للمؤتمر الوطني عن فرصة الاستقلال التي طفقوا يتحدثون عنها كابراً عن كابر مقابل الوعد بريش الوحدة الناعم الذي لم يبذل أهل المؤتمر الوطني أي جهد في إعادة إنتاجه؟ لا أعتقد إن قادة الحركة الشعبية سيفرطون في الفرصة الثمينة المتمثلة في حق تقرير المصير والتي أنتزعها المفاوضون الجنوبيون في نيفاشا ما لم يجدوا من الضمانات ما لا يجعلهم يندمون على تفويت هكذا فرصة. وبما أن الضمانات المرتقبة تتطلب تنازلات كبيرة لا قبل لأهل المؤتمر الوطني بها فإن الحديث عن الوحدة يظل ضرباً من حكايات شهرزاد وشهريار. ولنتساءل عن ما في جعبة وجراب نائب الرئيس!! فهل ينوي نائب الرئيس الإقامة في جوبا "عزابياً" كعادة كبار المسئولين الحكوميين المستوزرين في الولايات أم سينقل معه أسرته إلى هناك لضرب المثل في المعنى الحقيقي للتعايش الاجتماعي مع أهل الجنوب؟ وهل هو على استعداد لضرب القدوة الحسنة في التمازج العرقي عن طريق إتاحة الفرصة للتزاوج بين أفراد أسرته وعائلات سلاطين ومسئولي الجنوب أم سيحاول فقط بيعهم الكلام المعسول والريش الملون وكاذبات الأماني؟ أو ما نوع الضمانات المقدمة من نائب الرئيس لأهل الجنوب ليقنعهم بإطلاق طائر الشؤم الذي في كفهم مقابل طائر البوم الذي في كف عفريت؟ هل هو ضمان شخصي من سعادة نائب الرئيس؟ أم هو ضمان حزبي من أهل المؤتمر الوطني؟ أم ترى هو ضمان عام من أهل السودان الشمالي بموجب التفويض الممنوح للمؤتمر الوطني في الانتخابات التي لا يزال مثار نقعها فوق رؤوس التنظيمات السياسية التي قاطعت العملية الانتخابية كما لا تزال غصتها في حلوق التنظيمات التي شاركت وندمت ندامة الكسعي على تلك المشاركة؟ وماذا سيقول نائب الرئيس لخال الرئيس الذي ينتظر ساعة الخلاص على أحر من جمر الحقيقة إن قال الخال إنهم في منبر العدالة لم يفوضوا أحداً للتفاوض باسمهم حول الوحدة؟ وهل ستقنع إقامة نائب الرئيس في جوبا أهل الجنوب بالانجذاب الروحي نحو الوحدة أم ستقنعهم من خيراً في الشمال وأهله؟ وهل ستجيء الوحدة خاضعة تجر أذيالها بإقامة "شيخ طه" هناك أم ستلحق إقامته هناك الآمال المتبقية "أمات طه"؟ وهل يا ترى قيادات الحركة مقتنعة بالوحدة وتعمل من أجلها أم فقط تريد أن تبعد عن نفسها تهمة التقصير في العمل من أجل الوحدة الجاذبة؟ وهل حقاً يوجد في الجنوب رصيد وحدوي مغيب ومن أجل ذلك قرر شيخ علي الإقامة هناك لجمع أكبر قدر منه أم أن الرعايا هناك على دين ملوكهم الذي صدع به قادة الحركة في أكثر من منبر؟ أسئلة كثيرة تتطاير يمنة ويسرة إثر طلب نائب رئيس الجمهورية العمل كباحث وحدوي مقيم، إقامة قد يختلف الناس في جدواها ونتائجها كخلافهم حول الوحدة والانفصال ولكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو "الريدة جات متأخرة" فما فائدة المجيء وقد قلبت عاصفة الانفصال قدور الوحدة وما فائدة المناورات وقد قلبت نيفاشا حقائق الأوضاع وأوضحت من يبيع من الريش. osama khalid [[email protected]]