أعلن البنك المركزي السودانى قبل أيام قليلة مضت حزمة إجراءات جديدة تهدف معالجة تدهور الجنيه السودانى مقابل الدولار الأمريكى ، حيث تضمنت الإجراءات تزويد البنوك التجارية بعملات حرة لمقابلة الطلب المتزايد على العملات الأجنبية بما فيها الدولار الأمريكى ، بجانب وضع مزيد من قيود على تراخيص الإستيراد ، ومحاربة السوق السوداء للمتاجرة فى العملات الأجنبية. فى رأى كل هذه الإجراءات لن تمنع من تدهور العملة الوطنية أمام الدولار الأمريكي لأن الإجراءات التى تبناها البنك المركزى لا تعالج المشكلة الحقيقية والتى تتمثل فى مسببات ندرة العملات الأجنبية لدى البنوك التجارية و البنك المركزى بالإضافة لتزايد الطلب الناتج من إزدياد فاتورة الإستيراد والتحويلات الخارجية غير المنضبطة . تقرير صندوق النقد الدولى الصادر قبل شهرين يشير بأن إحتياطات البنك المركزى (أو المخزون الكلى للدولة) من العملات الحرة يكفى فقط لواردات إسبوعين ، الأمر الذى يؤكد أن حجم المشكلة التى تواجه العملة المحلية أمام الدولار وبقية العملات الحرة أكبر بكثير من إمكانيات الدولة المتاحة فى الوقت الراهن وفى الفترة المقبلة خاصة مع توقع إنفصال الجنوب وذهاب أكثر من 75 فى المئة من إيرادات الدولة من العملات الحرة مهب الريح عند الإنفصال. لذلك مهما إتخذت الدولة من إجراءات ضد السوق السوداء لن تستطيع من إحتوائه لأن إزدياد نشاط هذا السوق وبروزه على الساحة الإقتصادية بمثابة إشارة لوجود خلل فى الطريقة التى يدار بها الإقتصاد ، علماً بأن ظاهرة السوق السوداء فى العملات الأجنبية ليست هى داء فى حد ذاتها وإنما هى بمثابة أعراض لمرض فى هيكل الإقتصاد السودانى. ظروف اللايقين المحيطة بالوضع الإقتصادى والسيا سي تسهم فى زيادة تأثير عامل التوقعات الناتج من إنكشاف تدهور إحتياطى العملات الأجنبية لدى البنك المركزى والبنوك التجارية والتى بدورها كفيلة بتسريع وتيرة تدهور العملة الوطنية وزيادة الإعتماد على السوق الأسود كملاذ أخير لتلبية متطلبات العملات الأجنبية . كان من الممكن تجنب هذا الوضع الخطير إذا تم تبنى سياسات إقتصادية أكثر واقعية فى السنوات الماضية بدلاً عن التوسع فى الصرف الخارجى للدولة وسياسات الإستيراد الغير منضبطة والتى بموجبها شملت فاتورة الإستيراد الحليب والطماطم. فى ظل الظروف الحالية لا أتوقع وجود حل سريع لمشكلة العملة الوطنية وإنقاذها من مأزق التدهورمهما إتخذ البنك المركزى من إجراءات إحترازية ، لكن بالتأكيد هنالك جملة من الإجراءات الإسعافية يمكن أن تسهم فى إبطاء التدهور(الذى لا مفر منه) من خلال تخفيف الضغط على طلب العملات الأجنبية وذلك من خلال تقليل الصرف على التمثيل الدبلوماسى السودانى خارج القطر والذى أصبح منتشراً فى كل أنحاء العالم دون أى فائدة سياسية أو إقتصادية للوطن. فى السنوات الماضية أستحدث ما يعرف بالمستشاريات الإقتصادية تعمل بجانب السفارات المكتظة بالموظفين ، حيث تتمتع هذه المستشاريات بدعم مالى كبير من الدولة رغم الغموض الذى يكتنف مهامها الحقيقية ومؤهلات القائمين على أمرها. أيضاً من الإجراءات الإسعافية المطلوبة إتباع سياسة سعرصرف ( سياسة تحديد سعر العملة) أكثر مرونة وقادرة على التنافس مع السوق الأسود للقضاء عليه من خلال أليات السوق بدلاً عن أليات الإحتواء الأمنى التى ثبت فشلها وعدم جدواها خلال الثمانينات وبداية التسعينات. من المعلوم أن سياسة سعر الصرف الحالية تقلل من مفعول أليات إستهداف التضخم الذى أصبح يشكل بدوره مشكلة فى حد ذاته. أما فى المدى المتوسط ينبغى تبنى خطة إحلال الواردات (أى حماية وتشجيع الصناعات الوطنية التى تنتج سلع بديلة للواردات) ووضع إستراتيجية قومية تهدف تكثيف الصادرات المصنعة وشبه مصنعة ، وإعادة النظر فى الإتفاقيات الإقتصادية الثنائية الدولية خاصة مع الجارة مصر وذلك بما يضمن المصلحة الإقتصادية للوطن فى المقام الأول، وتفعيل الإتفاقيات التجارية الثنائية مع الدول الأقل نمواً من السودان كدول شرق إفريقيا ، موريتانيا ، تشاد إفريقيا الوسطى وغيرهم . فى كل الأحوال تشير الدلائل أن العامل الإقتصادى سوف يكون من أخطر الجبهات التى تواجه بقاء النظام الحاكم فى الفترة القادمة كما بدأ يظهر ذلك من إزدياد حدة المواجهات مع النقابات المطلبية التى تطالب بتحسين الظروف المعيشية السيئة أصلاً والتى فى إتجاهها نحو مزيد من السوء فى الفترات القادمة. Dr. Ibrahim Onour [[email protected]]