E-mail: gush [email protected] يطلق مسمى دار الريح على المنطقة التي تقع في الجزء الشمالي من ولاية شمال كردفان الآن؛ و هي تشمل محافظتي بارا و سودري و يسكنها خليط من القبائل العربية مع وجود بعض العناصر الأخرى في القطاع الجبلي الذي يفصل بين منطقتي دار حامد و الكبابيش و هذه الجبال مأهولة بمجموعة من النوبة الدواليب في جبال أبو حديد و أم درق و الحرازة ، بينما نجد كاجا و كتول إلى الغرب في المنطقة شرقي سودري. و منذ وقت مبكر في القرن الرابع عشر الميلادي بدأت القبائل العربية البدوية تنتشر من مصر و شمال أفريقيا عبر صحراء بيوضة و الصحراء الكبرى و دار فور إلى كردفان و صاحب ذلك اختلاط كبير مع السكان الأصليين و مع بعض العناصر البربرية التي قدمت من شمال أفريقيا و قد أدت الهجرة العربية في بعض الحالات إلى تحرك سكان المنطقة جنوبا نحو الجبال و المنطق الداخلية الأخرى.و بمرور الزمن تحول الجزء الشمالي من كردفان إلى منطقة عربية بالكامل و ذلك لأن طبيعة المنطقة توائم سكنى الإنسان العربي لكونها منطقة صحراوية أو شبه صحراوية و استطاع العرب تربية أعداد كبيرة من الإبل و الأغنام مما ساعدهم على بسط سيطرتهم إما بالتفوق الاقتصادي إن صح التعبير أو تميزهم الثقافي إذ كانوا قوما أهل حضارة و دين. و من الأشياء التي أدت إلى انتشار العرب تقبل كثير من السكان الأصليين للدين الإسلامي و بالتالي اللغة العربية و لذلك لم يعد العربي يشعر بأنه غريب في تلك الديار. و معظم القبائل العربية في شمال كردفان و وسطها تدعي النسب إلى شخص يسمى عبد الله الجهني و لكن لا أحد يعلم بالتحديد متى عاش هذا الرجل و ربما تكون قبيلة جهينة العربية أو على الأقل فرع منها قد هاجر إلى المنطقة و أستقر فيها ضمن هجرات الهلاليين أو في هجرة مستقلة. و من الأمور اللافتة للنظر أن معظم الروايات الشفوية لقبائل شمال كردفان تقول إن أجدادهم قد وصلوا إلى هذه المنطقة عبر شمال و شرق دارفور. و ثمة أمر آخر يرتبط بالوجود العربي في شمال كردفان و وسطها هو أن أجزاء من دارفور و شمال كردفان كانت تسمى ( بر السودان و فزارة) مما يدل على وجود قديم لفزارة في تلك المنطقة بيد أن معظم القبائل العربية هناك تنسب إلى جهينة و هذا يشير إلى أن جهينة و فزارة ربما تكونان قد تحالفتا و تقاربت منازلهما بحيث أصبح من الصعب التمييز بينها في شمال كردفان و وسطها و تدريجيا بدأ اسم جهينة ينتشر و تنتسب لها كثير من القبائل ذات الأصول التي تختلف تماما عن جهينة. و مثال على ذلك أن قبيلة دار حامد كان يطلق عليها اسم فزارة و تذكر بهذا الاسم في كثير من كتب الجغرافيا و الأطالس القديمة و لكنها لم تعد تذكر إلا باسم دار حامد الآن. و عموما نستطيع القول إن مجموعات من العرب توطنت في دار الريح بشمال كردفان و صارت لها ديار هناك دون أن يقوم لها كيان سياسي أو سلطان يوحدها و لذلك ظلت ترتبط رباطا وثيقا بدارفور و من بعدها سنار. و قد وصل العرب إلى دار الريح من عدة منافذ و طرق أهمها و أولها هو الطريق الشمالي من مصر عبر دنقلا و صحراء بيوضة بمحاذاة النيل من الضفة الغربية، و الطريق الثاني هو المنفذ الغربي عبر شمال أفريقيا و خاصة تونس و منها إلى الصحراء الكبرى و شمال دار فور وصولا إلى دار الريح. و بالتأكيد جاءت بعض الهجرات عن الطريق الشرق من جنوب الجزيرة العربية و واصلت سيرها حتى عبرت النيل الأبيض و من ثم انتشرت في كردفان و منها دار الريح. و نظرا لتشابه المناخ في هذه المنطقة مع شبه جزيرة العرب و موائمته لحياة الإنسان العربي التي جبل عليها من حب الترحال و التنقل فقد كان لذلك التشابه في دفع العرب نحو هذه المنطقة و استقرارهم بها و لذلك ظلت القبائل في دار الريح إما بدوية أو شبه بدوية؛ و بعد اختلاطهم بالسكان الأصليين و البربر من شمال إفريقيا أضطر بعض منهم للتخلي عن رعي الإبل و لجأوا لعمل بالزراعة و أحيانا رعي الأبقار في جنوبي هذه المنطقة. هذا بالإضافة إلى ما تتمتع به شمال كردفان أو دار الريح تحديدا من عوامل جذب أخرى مثل فرص التجارة و الرعي و الزراعة و غيرها من الحرف وبالتالي صارت قبلة لكثير من المجموعات التي قدمت من دنقلا و من شمال السودان عموما و صار لها شأن عظيم في المنطقة كالدواليب في الحرازة و خرسي و غيرهم مثل الجوابرة في أسحف و البشيري و بارا. و من المجموعات التي هاجرت إلى كردفان و عملت بالتجارة الركابية الذين لهم وجود فاعل في كل من الأبيض و بارا و أم بادر و سودري و في كل بوادي شمال كردفان و قراها. و ثمة أثر لهؤلاء هو نشر نوع من التمدن أو قل المدنية من حيث الملبس و المأكل و إدخال أدوات و آلات الزراعة مثل الساقية و الشادوف و محاصيل لم تكن معروفة لدى أهل شمال كردفان. و لذلك يمكننا القول إن شمال كردفان ( دار الريح) هي سودان مصغر بل قل إفريقيا صغيرة حيث أقامت بها أعداد كبيرة من سكان غرب إفريقيا الذين وصلوها إما في طريقهم للحج أو طلبا للرزق و بدورهم تزاوجوا مع السكان و نشروا شيئا من ثقافتهم و قد كان من بينهم العلماء الشناقيط الذين أثروا الحياة العلمية و نشروا المذهب المالكي في شمال كردفان و أشتهر منهم نفر كثير مثل الشريف محمد عمر و الشيخ حماه الله و الشريف محمد السالك و أسهم أحفادهم من بعد بقدر كبير في النشاط الأدبي و الشعر كما سيظهر لاحقا؛ و قد أدخل بعض هؤلاء التصوف في دار الريح كما فعل الشيخ محمد ود دوليب في خرسي و الشريف عبد المنعم في أم سعدون الشريف و أنعكس ذلك حتما في الشعر في دار الريح و قامت على يد هؤلاء الرجال مراكز دينية كبيرة أثرت أيضا في نشر المعرفة و رفع الجهل عن الناس كما كانت أماكن تجمع لكل مكونات المجتمع و ساعد ذلك على تجانسها و اختلاطها و تواصلها و أسهم ذلك كله في تنوع أغراض الشعر و مفرداته و أنواعه. و مع هذا كله تظل القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأولى في بادية شمال كردفان نظرا لأن طبيعة المنطقة أغرت كثيرا من السكان و ألزمتهم البقاء في أماكنهم التاريخية و لذلك ظل الكثيرون من أبناء القبائل يمارسون نفس الحرف التي كان يقوم بها أجدادهم مثل الرعي و الزراعة المطرية المتنقلة. وقد أحدث الوجود العربي _إن صح التعبير_ تحولا كبيرا في المنطقة من حيث التركيبة السكانية و سبل كسب العيش و الآداب و الفنون . فقد أصبحت العربية لغة التخاطب بين كل المجموعات و نتج عن ذلك أدب و فن مفرداته و أوزانه و مواضيعه عربية و إيقاعاته أفريقية أو قل سودانية مثل الجراري و الدوبيت و الهسيس و التوية و الدهلي و الجالسة و غيرها من أشكال التراث. و أصبحت كل القيم الاجتماعية عربية إسلامية و تركت بعض القبائل الناطقة بغير العربية لهجاتها المحلية و صارت تتحدث باللسان العربي و مثال على ذلك زغاوة كجمر و النوبة في أبو حديد و أم درق و كاجا و كتول و غيرها. و يجمع بين كل هذه المجموعات هو وحدة اللهجة العربية و تشابه أنماط التراث بدرجة كبيرة. و قد أثر هذا الاختلاط و التنوع في سبل كسب العيش على اللغة العربية الفصيحة هناك لما دخلها من مفردات جديدة و تغير مخارج بعض الحروف و نطق بعض الكلمات و نتج عن ذلك أدب و تراث وشعر هو أقرب في بنائه و مفرداته و أغراضه و مواضيعه إلى اللغة العربية منها للهجات المحلية التي لم تعد مستخدمة أبدا و ذلك لأن اللغة العربية كانت أكثر و أعمق أثرا على غيرها من اللهجات المحلية. فكثير من المفردات في دار الريح موغلة جدا في الفصاحة حتى أنك لا تكاد تجدها إلا في معاجم اللغة ( عون الشريف قاسم_ قاموس اللهجة العامية في السودان). و هي في الغالب لهجة بسيطة ترتبط ارتباطا وثيقا بالبادية ونجد فيها الإمالة كما هو الحال لدى الكبابيش و الهوا وير و سكان الجبال الشمالية و نجد التسكين في دار حامد و دار المجانين ؛ و بعض اللهجات في دار الريح خاصة في منطقة الجليدات و المعاقلة و العريفية في جنوب دار حامد تشبه لهجة دار حمر إلى حد كبير نظرا لقرب المكان و تبادل المنافع و هي لهجة عربية صرفة. و قد ورد مسمى دار الريح في كثير من الشعر الشعبي في هذه المنطقة ومن المشهور جدا قول الشاعرة من الجراري: دار الريح تاريها مشتولة المنقا فيها نشيل الجوز نسقيها و نحاحي الطير ما يجيها و قول أحد شعراء الدوبيت الذي يسمى بالحاردلو: دار الريح بقت مسمومة ما بتنشق برا أم عشرة و رجال مصمومة. و قد تسمى دار الريح أحيانا بالسافل و في ذلك تقول الكباشية: جقله الطن حوارك عقدوا الشوره رجالك كان الغرب ما شالك شيلي السافل دارك و جقلة هي الإبل التي تكثر مسمياتها في هذه المنطقة وذلك لأن معظم سكان دار الريح من رعاة الإبل. و مثال آخر على ذكر اسم دار الريح قول الشاعرة ضوة بت عبد الزين التي تقول: درب السافل جبده بنشف دم الكبده أخير الزارع لقده يحاحي الطير ما ينقده و يقول الشاعر عبد الرحيم محمد أبو شناح: وحدين في البيوت لجبنه و شراب شاهيهم قاعدين فرجه ساكت لأم عروض تكسيهم وحدين سفلوا و قابض في النجم عاديهم ضربوا الصي آمت أنقطع طاريهم و رعاة الإبل في دار الريح يرحلون مع إبلهم حتى الأطراف الشرقية من دار فور و خاصة منطقة جبل ميدوب الذي ورد ذكره كثيرا في أشعارهم و من ذلك قول الكباشية: جوز الكربيله مرا فوقه عسيله نزل طروم الليله و أصبح ناوي الشيله و طروم هو الاسم المحلي لجبل ميدوب. و تقول شاعرة أخرى من دار حامد: فليل دمور خلنه تاني ما تطرنه رقاب القود ساقنه على ميدوب دلنه و هي هنا تكني عن محبوبها بفليل دمور العطر المعروف و لعل هذا من التشبيهات النادرة جدا و رقاب القود هي الإبل أيضا و لعل ذلك يظهر لنا أثر الفصحى على عامية دار الريح لأن "القود" كلمة عربية فصيحة . و على عادة الشعراء العرب يكثر الشعراء في دار الريح من ذكر اسماء المناطق في شعرهم فمثلا يقول الشاعر أبو الطيب: بعد ما أخر المزروب و عقب أم سره رقله يهول الشاعر البوصف كله هرعا شاغله البراق تكاجر كله داك محبسها يا شعتيب عريس أم قله فالمزروب و أم سره و المحبس كلها مناطق معروفة في دار الريح. و يقول ابو الطيب أيضا : ديك قلعة الغرة شرفت برا من واديها يا ود الفرقت كيعانها خب واتيها على أم ضحكا بسم ما بنسمع صهليها وزرنا المولى و الرشاش المكسح فيها و في ذات السياق يقول عمنا إسماعيل أبو شناح : بعد ما أخر الجبال و جاك قلع أم زم نترني أب آمنه قال لي سوق و جر النم و بالدورية أصلو ما تهتم و الخوف زاته ما براشي للعمر كان تم و الشاهد هنا في الجبال و يقصد بها جبال أبو حديد و النهد والربدة و كتول. و من المناطق و الأودية المشهورة في دار الريح أم بادر و سودري ووادي الملك ووادي المقدم و وادي هور و غيرها من المناطق مثل الجمامة والكوكيتي و كله مذكورة في شعرهم كقول الكباشية: سرجك عليه مكرب من سودري و غرب يا ناشق إدرب نجم الخرف قرب و يقول عمنا عبد الرحيم ود ابو شناح: كان غنيت ما بتغانا للغنامه و كان جنيت أبدا ما علي ملامة أب رقبه السكونه أم سنطه و الجمامه ناس ود حامد بدقولوا الدهب حوامه و أم سنطه و الجمامة كلها مناطق يرتادها الرحل في دار الريح لوجود الماء بها بكثرة و في ذلك تقول الكباشية: الليلة أم سنطه خفيفه وارداها أم بوح العيفه سياد الفز بليفه طردوا البطلق زيفه و هي تريد أن تقول أن أم سنطة الآن ليس بها إلا رعاة البقر " أم بوح العيفة" لأن أصحاب الإبل قد رحلوا عنها بحثا عن مواضع المطر " البطلق زيفه" و الليفه هي الزمام يستعمله الراكب لكبح الجمل البشاري. عموما دار الريح منطقة ذات نكهة خاصة – إذا جاز التعبير- و تسكنها مجموعة من القبائل الرعوية التي تأثرت لغويا و ثقافيا باللغة العربية وشعرها و تمازجت فيها عناصر مختلفة من الناس و صار لهم إنتاج أدبي و فني مشترك يتمثل في أشعارهم و غناهم و تراثهم بشكل عام حتى لانك تستطيع تمييزه بمجرد سماعه و تغني بشعرهم كثير من الفنانيين من أمثال عبد الرحمن عبد الله و عبد القادر سالم و أم بلينا السنوسي و صديق عباس. و لعل أغنية عبد الرحمن عبد الله: شقيش قول لي مروح قبال صباحنا يبوح ما بقدر أسيبه قليبي تشيله تروح و أغنية أم بلينا السنوسي: الليلة و الليلة دار أم بادر يا حليله زولا سرب سربه وختا الجبال غربه نوالونى لي شربه وخلوني نقص دربه و أغنية صديق عباس: مطر الرشاش الرشا أنا عقلي طار و طشا ورى المراح النشا الماشيات وراه ناس عشا و كل هذه الأمثلة تدل بما لا يدع مجالا للشك على ثراء التراث و الشعر الشعبي في دار الريح. و سنحاول في الحلقات القادمة تسليط الضوء على الشعر الشعبي في دار الريح ونتناول أغراضه و أنواعه و موضوعاته بشيء من التفصيل.