السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عصر التنوير السوداني، إعادة تعريف المدخل ... بقلم: التجاني الحاج عبدالرحمن
نشر في سودانيل يوم 02 - 09 - 2010


كلمة لا بد منها:
الشكر للأستاذ الصاوي على طرح ورقته "معاً نحو عصر تنوير سوداني"، والذي وكعادته في المبادرة طرح موضوعاً جديراً بالنقاش، فاتحاً الباب على مصراعيه للإسهام في قضية فكرية هامة. وهذا المقال بدى لي كنوع من الإستمرارية لحوار إنطلق في السابق من خلال التعقيب على مقالات سابقة للأستاذ الصاوي حول: " البحث عن الإستنارة في صحراء الإسلاميين"، غير أن دعوته الأخيرة لعصر تنوير سوداني بدت أكثر عمومية، إذ خرجت من أسر التنقيب في صحراء جافة، للبحث عن منابع جديدة وأصيلة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تدشين لمرحلة جديدة في أوساط المثقفين السودانين كان من المفترض أن تبدأ قبل فترة طويلة، ولكن أن تأتي متأخراً خيراً من أن لا تأتي أبداً كما يقال. هناك عدة قضايا طرحها الأستاذ الصاوي في رؤيته الأخيرة تستحق إعادة النظر فيها بعمق أكثر، خاصة وأن الأمر يتعلق بالتأسيس لعصر تنوير سوداني وسأتناولها بالتحليل أملاً في أن تثري الحوار ومساعي البحث عن العقلانية في واقعنا الذي أصبحت فلسفة الظلام والتغييب هي ألأكثر رسوخاً.
وسأركز مقالي هنا على الأساس الذي إنطلق منه الأستاذ الصاوي بإعتبار أن تناول قضايا الإصلاح التعليمي، وتنشيط منظمات المجتمع المدني التي تناولها كمكونات لإستراتيجية التنوير، هي تفاصيل ونتائج أفرزها تحليله لواقع وجذور الأزمة السودانية وأسس عليها بالتالي مقترحاته حول المعالجات الواجب إتخاذها لإنطلاق مسيرة التنوير التي يدعو لها في طريقها الصحيح.
جذور الأزمة السودانية، هل هي أزمة نظام ديمقراطي أم أزمة مشروع وطني(؟)
التأسيس لإستراتيجية التنوير كما مهد لمدخلها الأستاذ الصاوي من خلال مدخل "جذور الأزمة السودانية" جعلت من فشل إستدامة النظم الديمقراطية أساساً للإشكاليات الراهنة حينما أشار إلى ذلك بأنه: ".. بينما تدل حالة التمزق الافقي والرأسي للبلاد، وحدة وطنيه ومجتمعا، بصورة قطعيهعلي خطورة الفشل في تأسيس مشروع ديموقراطي سوداني حتي الان. والافتراض الذي تقوم عليه هذه الورقه هو انه لاسبيل لتفكيك معضلة الاستعصاء الديموقراطي هذه الا بعمل مواز لتفكيك معضلة الاستعصاء التنويري/الاستناري.لاديموقراطيه بلا ديموقراطيين ... ولاديمقراطيين بلا استناريين..". رابطاً بصورة مباشرة وصميمة كما بيّن ذلك، ما بين حركة التنوير والبيئة الديمقراطية. ووأد في هذا الصدد طرح مناقشات نقدية للمقارنة.
خلافاً لما يرى الأستاذ الصاوى فأن الأزمة ليست أزمة "نظم ديمقراطية" وإنما هي أزمة "مشروع وطني"، ولتلمس هذه المقولة يجب أن نوضّح الفارق ما بين المفهومين(؟). أن مفهوم "المشروع الوطني" أكثر شمولاً وإتساعاً من مفهوم النظام الديمقراطي، فالمشروع الوطني يتضمن داخله عناصر كثيرة بما فيها النظام الديمقراطي نفسه ويمثل درجة قصوى من الإتفاق ما بين الكيانات الإجتماعية/السياسية في الدولة على قواعد لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها، وأهمها: (1) هوية الدولة، (2) نظام الحكم، (3) نمط التطور الإقتصادي وعدالة إقتسام الموارد، (4) العلاقات الإجتماعية و (5) القاعدة الدستورية. هذه العناصر مجتمعة عند الإتفاق عليها والعمل على تنميتها وتطويرها لصالح كافة الكيانات الإجتماعية في إطار الدولة تمثل جوهر مفهوم المشروع وطني، وينتصب نظام الحكم الديمقراطي كأحد أعمدتها الأساسية. بمعني؛ أن النظام الديمقراطي يمثل جزءاً من كل، يتفاعل مع بقية العناصر الأخرى ليحقق في نهاية المطاف التطور والتقدم. فالنظام الديمقراطي لوحده لا يمكنه القيام بذلك بمعزل عن بقية العناصر. وقد أثبتت التجربة السودانية عبر الحقب الماضية ذلك. إذاً الإستراتيجية التي وضعها الأستاذ الصاوي في أساسها في حوجة لإعادة تعريف وتوسيع للمفهوم بنقله إلى مستوي أكثر شمولاًً. ولمزيد من التحديد لذلك سآخذ العناصر السابقة كلٍ على حدا كنماذج بغرض البحث والمقارنة في واقع تاريخنا المعاصر:
وبالتالي فالإشكالية لا تكمن في النماذج أو الصروح الديمقراطية، بقدرما هي قضية "عقل سياسي" سائد ومسيطر بالأساس، تمثل آيديولوجيا العروبة والإسلام البنية اللاشعورية لتوجهاته وخياراته السياسية. وبالتالي مهما أتينا بنظام ديمقراطي نموذجي، ففي ظل سيطرة هذا العقل السياسي ببطانته الآيديدولوجية، فإن النتيجة الحتمية هي الإقصاء، لأن جوهر عملية المشاركة للكيانات الأخرى لا يمكن أن تتحق في ظله وتحت شروطه، وسوف تتعرض بإستمرار للقمع لأنها ليست جزءاً من هوية الدولة العروبية والإسلامية. وبالتالي فإن إعادة الإعتبار لحق المشاركة للآخرين لن يتأتي إلا من خلال إعادة صياغة العلاقات الإجتماعية بين الكيانات التي تقطن السودان وإعادة تأسيسها من جديد، حتى نتمكن من أن نرتفع بمستوى قبول الآخر الذي يتيح المشاركة المتساوية في ممارسة السلطة.
لذلك فقد ظلت العلاقات الإجتماعية داخل السودان ومنذ تلك الفترة مأزومة، وظل التعامل معها بالسكوت تارة والرضاء تارة، وكلما تمت محاولة جادة لقراءة هذه العلاقة يتم قمعها بعنف إلى إن إنفجرت وبأشكال مختلفة الآن. إن المدارس التي دعت إلى تصحيح مسار هذه العلاقات وبناء علاقات إجتماعية جديدة سواء إن كانت في العودة إلى سنار أو حركة اللواء الأبيض بدرجة من الدرجات، فإنها جميعها أصبحت غريبة ومقموعة في إتجاهات وعي التكوين والدعوة لقومية سودانية تضع الجميع عربهم وعجمهم على قدم المساواة. وقد ظلت هذه العلاقة المختلة ذات صلة وثيقة بمؤسسات الدولة عبر الحقب التاريخية المختلفة.
لذلك عندما تحدثنا أن الأزمة في شموليتها هي أزمة "مشروع وطني" وليست أزمة نظام حكم سياسي، بمعني؛ أن جذور الإشكاليات ليس في قصور النظم الديمقراطية بقدرما هو قصور يتمثل في عدم الإتفاق على مشروع وطني، كنا نقصد الأزمات التي خلقتها العناصر الخمسة المشار إليها، والتي تقع أزمة النظام السياسي الديمقراطي كجزئية من جزئياتها. وبالتالي فإن حفرنا هدفه النهائي هو إعادة التأسيس لكل العناصر السابق ذكرها مجتمعة وليس لجزء منها، وأي حركة تنوير في السودان لا تأخذ في الإعتبار هذه العوامل برمتها وتدعو لإعادة صياغتها من جديد وفقاً لما يحقق المصلحة الجمعية لكل الكيانات السودانية، لا تعدو كونها حركة تنوير تخص المركز/النخبة فقط ولا تعني الآخرين من قريب أو بعيد، ولا تعدو أن تكون سوى خديعة تاريخية لإعادة إنتاج الأزمة من جديد في شكل نظام ديمقراطي يكرس قيمه وأدواته لنخب جديد تنتجها حركة التنوير.
ويمضي الأستاذ الصاوي في عملية التأسيس عميقاً في نفس الإتجاه من خلال إستدعاء ومقارنة بالتجربة الأوروبية بقوله: "..ان الديموقراطيه كما يعرفها المجتمع البشريالاننظام سياسي انبثق مما سمي عصر النهضة والتنوير الاوروبي خلال القرنين السادس والسابع عشر مستفيدا من منجزات الحضارات السابقة له، العربية- الاسلاميه، اليونانيه، الاسيويه. وهو عصر تميز بازدياد تأثير العلوم الطبيعية والانسانيه وانعتاق عقل الانسان وارادته من تراكمات ظلام العصور الوسطي نتيجة نشوء الطبقة البورجوازيهعلي حساب الاقطاع ثم الثورة الصناعيه وفكر وفلسفة الانواروالاصلاح الديني.." وهذا يصح على النموذج والتجربة الأوروبية وما إنتجته من قيم ومؤسسات وتراكم معرفي، لكن عند "تبيئة" هذه التجربة في الواقع السوداني (أو العربي كما يدعو الجابري) فإن هناك عوائق كثيرة لابد من إجتيازها، ولا يجدي القفز من فوقها، فصحيح أن الثورة الصناعية وتقدم العلوم كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى حركة تنوير أو عصر أنوار، محلصته النهائية إنفصال "الكنيسة" (=المؤسسة الدينية) عن "الأمير" (=المؤسسة السياسية)، مما أدى في نهاية المطاف إلى حركة إصلاح ديني أنتجت ما يعرف ب(الأخلاق البروتستانتية) التي أسست لحركة إصلاح إقتصادي تبعه إصلاح سياسي. لكن في واقعنا السوداني ذو الإمتدادت العربية الإسلامية فالوضع يختلف لأن الكنيسة في عهود الظلام الأوروبية ليست هي نفس الكنيسة في عهود ظلامنا السودانية/العربية. فقد كانت الكنيسة الأوروبية تدعي أنها ظل الله في الأرض ولم تحكم بصورة مباشرة، وإنما كانت تعيّين الملوك على المستوى السياسي، وتحدد نوعية العلم الواجب تناوله على المستوى المعرفي، لذلك عندما وقع طلاق الكنيسة والأمير تخلّق مجال سياسي جديد، الشرعية فيه لإرادة الجماهير على المستوى السياسي، وليس لمن يدعون إمتلاك المعرفة وشرعية الحكم بتخويل وتفويض إلهي، وهو ما تم تعريفه فلسفياً ب "فصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية"، وتحرر العقل من أسر الغيبيات بإنفتاح أبواب المعرفة على مصراعيها.
أما في حالتنا فإن رجالات الدين ويوازون في هذه الحالة الكنيسة أو الطبقة الإكلريكية في عهود الظلام الأوروبية فإنهم لم يكتفوا بالقول أنهم ظل الله في الأرض فحسب ومارسوا السياسة من وراء ستار، إنما ذهبوا مباشرة إلى هذه السلطة في مكانها وأستولوا عليها، بدعوى أن الإسلام هو دين ودولة(!). لذلك فالفصل ما بين (الكنيسة) و(الأمير) في هذه الحالة يختلف تماماً، وهذا هو وجه الصعوبة في المسألة، لأنه يتضمن جهد مضاعف، وليست القضية هي فصل بين مؤسستين مستقلتين تربطهما علاقات الإستغلال المعرفي والسياسي، وإنما هو سلخ لواحدة عن الأخرى وضع كلٍ منهما في سياق تطورهما التاريخي. وهي عملية بالغة الصعوبة إذ تقتضي من جانب، تحرير الفكر الديني ليعاصر نفسه من الناحية المنهجية، وتفتيت قاعدة التفكير السياسي للمؤسسات الدينية وتوجيهها لتعمل في حقل القيم المجتمعية حتى تحقق قول الرسول (ص) " إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ومن جانب آخر تحريك المؤسسات السياسية لتعمل على ضمان مصالح البشر في مستويات العلاقات السياسية/الإقتصادية. وإختصاراً هي عملية لتحرير المؤسسات الدينية من الأهداف السياسية المتخفية خلف السلوك الديني، وتخليص المؤسسات السياسية من إستغلال الأديان لخدمة مصالح شرائح إجتماعية بعينها. لذلك فإن من مهام أي حركة تنوير هي أن تتقدم بشجاعة لتضع حداً للربط ما بين الدين والدولة على مستوى حركة الإصلاح الديني/السياسي وليس تلفيقاً كما كان يتم في السابق. وهذه حرب ليست سهلة، لأن رجالات الدين الذين دخلوا معترك السلطة والإستمتاع بها، لن يألوا جهداً في أن يوجهوا ما إختزنوه من رصيد لهدم توجهات التنوير التي تفضح هذه العلاقة "ليكونوا جبابرة ملوكاً" كما قال عمار بن ياسر.
قضية التنوير وأزمة المعارضة:
يستنتج الأستاذ الصاوي أن ضعف القوى المعارضة، وتجربة العمل المناهض للنظام الحاكم حالياً سببها أن: "..عملية الانفراد بسلطة الدوله والتي أدت الي مضاعفة تأثير عوامل التراجع الديمواستناري مكتسبا درجاته القصوي وديناميكيته الكامله، توسع نطاق الحرب في الجنوب متخذة طابعا اهليا، وانفلت التضخم تداعيا اقتصاديا مريعا تدني بمتوسط عمر الانسان السوداني الي 45 عاما بينما أغلق المجال السياسي-الفكري تماما بمزيج من القمع المادي والمعنوي وتم التديين الكلي للمنظومة التعليميه والاعلاميه فتغلغل التدين السياسي والصوفي والسلفي في شراين المجتمع". مما نتج عنه الإفتقار لنوعية العقلية وخبرة العمل والقاعدة الإجتماعية. والذي محصلته النهائية إستنزاف كلي " لحيوية القوي الاجتماعيه والسياسية الحديثه فأن اساليب وخطط العمل المجربة في ثورة اكتوبر 1964 وانتفاضة مارس/ابريل 1985 (تنظيم النقابات كنموذج) والمستحدثه (العمل المسلح كنموذج) إفتقرت لنوعية العقليه وخبرة العمل العام والقاعدة الاجتماعية التي تتجاوب معها. وهي حقيقة تتضح ابعادها الكاملة حول درجة استنزاف هذه القوي اذا استعدنا للاذهان ان مستوي وحدة المعارضه بعد مؤتمر اسمرا عام 1995 في " التجمع الوطني الديموقراطي" كان متكاملا من جميع النواحي، اطرافا وبرنامجا. مايثبت قطعيا ان ضعف العمل المعارض لم ينجم، بصورة اساسيه، عن ضعف مستواه القيادي وانما عن التضاؤل المخيف في حيوية قوي التغيير الديموقراطي لاسيما وان الوجه الاخر لهذه الحقيقة المتجلي في انتشار الفهم التقليدي للاسلام، مصدر (قوة) إضافيه لنظام دكتاتورية يونيو 89 لم يتوفر لدكتاتورتي نوفمبر 58 ومايو 69."
هذا التحليل يحتمل درجة كبيرة من الصحة لأن المعروف بداهة هو أن الأنظمة الشمولية بطبيعتها نخبوية/إقصائية وبهذه الصفة فإن كافة الأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي تعاقبت على حكم السودان كانت تلك ميزتها الأساسية، وبالتالي ولإطالة عمرها في سدة الحكم عملت على تحطيم كافة المداخل التي تقود إلى إزاحتها وهو الأمر الأكثر وضوحاً في تجربة الإنقاذ، ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليفهم، فواقع خريطة التكوينات السياسية تتكلم عن نفسها. وبالمقابل فإن ضعف القوى المعارضة، وإضافة للأسباب الموضوعية والتاريخية التي سردها الأستاذ الصاوي، هناك سبب آخر لما يتعرض له. وصحيح إلى درجة (ما) أن ذلك لا يعود لضعف القيادة، ولكن السبب الأقوى من ذلك، هو ما يمكن إستخلاصه من تجربة التجمع الوطني الديمقراطي وتحديداً من بعد مؤتمر القضايا المصيرية. وهو ما يمكن أن رده إلى ضعف الإرادة السياسية الكلية للتجمع الوطني. ويأتي ضعف هذه الإرادة لأن القوى التي خاضت الحرب لم تكن جميعها متفقة على إحداث تغيير جذري للنظام على الرغم من إتفاقها في مؤتمر القضايا المصيرية على هذه الإستراتيجية وما شعار "إقتلاع النظام من جذوره" الذي كان سمة تلك المرحلة (1996 2000) إلا تعبير صريح عن هذا التوجه، لكنه سرعان ما تآكل بالتدريج حتى وصل إلى مرحلة السلام مع النظام في أكتوبر 2000 في مؤتمر مصوع. وعندما نمضي أعمق في التحليل لرؤية الأسباب، أعني أسباب ضعف الإرادة السياسية، نجد أن ذلك يعود إلى التباينات الآيديولوجية العريضة ما بين الأطراف المختلفة التي شكلت التجمع، ولعل البرهان على ذلك يكمن في طبيعة التحالفات الداخلية للتجمع نفسه إذ أنها لم تكن منسجمة مع طبيعة الآيديدولوجيات المتباينة بين التنظيمات، وفي أغلب الأحيان نجد التنظيمات المتقاربة آيديولوجيا متنافرة على صعيد مواقفها السياسية. فبينما هناك تنظيمات كانت ترى أن إزالة النظام كلياً هو هدفها الإستراتيجي، نجد أخرى كانت ترى أن إزالة النظام كسلطة سياسية فحسب يكفي، وهو ما أضعف عملية توازن القوى داخل التجمع، وبالطبع هناك مسافة كبيرة ما بين الإستراتيجيتين وعلى صعيد الرؤية. وقد كشفت عن ذلك في المراحل الأولية النقاشات التي دارت حول تحديد العلاقة ما بين الدين والدولة في الوثيقة الأساسية لمؤتمر القضايا المصيرية، والتي إنتهت إلى أن صيغت ب (فصل الدين عن السياسة) والتي كانت تلفيقاً واضحاً الهدف التكتيكي منه إستمالة القوى الطائفية. لذلك سمي مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا ب "المساومة التاريخية".
وإذا كان يمكن القبول بأن فرضية الإستنزاف للقوى المعارضة نتج عن سيطرة الشمولية، فإن القول بضعف القاعدة الإجتماعية لتبرير فشل التجمع، لا يمكن القبول به لوحده، والأصح هو أن الإستنزاف الحادث بسبب سد المنافذ أمام الطرق التقليدية للتغير عن طريق النقابات والإتحادات(ويمثل العامل الأصغر)، مضافاً إليه الضعف الذاتي والداخلي لتنظيمات التجمع بسبب التناقض الناشئ من تعارض الإرادات السياسية (ويمثل التناقض الداخلي العامل الأكبر)، جميعها شكلتا السبب الحقيقي لضعف عمل المعارضة ذلك لأن القاعدة الإجتماعية التي ساندت التجمع كان كبيرة بالفعل، إذ مثلت كل ألوان الطيف السياسي/الإجتماعي في السودان، وعدم القدرة على هزيمة النظام بكل محتوي رؤية التغيير التي أرستها بنود مؤتمر القضايا المصيرية، إلتفاف القواعد الجماهيرية حول التجمع، الدعم والسند الإقليمي والدولي، القدرات العسكرية والقتالية وغيرها من الأسباب لا تفسر هذا الفشل على الإطلاق، ما لم تتواجد أسباب أخرى، وبالنسبة لي في نهاية التحليل ذلك يقع ضمن نطاق أساليب القيادة والتنظيم إضافة إلى تناقض الإرادة، وجميعها عوامل ما كان من الممكن رؤيتها بوضوح كافي داخل أروقة التجمع في ذلك التوقيت. وقد كشفت التجربة العسكرية الميدانية عن خيط رفيع لذلك، لم تتمكن أطراف التجمع من قراءته بعمق وحمله على محل الجد (سواء إن كان على مستوى الإستراتيجيات العملياتية أو المناورات التعبوية)، بالإضافة للتنظيم على المستوى الجماهيري. وهذا مجال مطروح للدراسة لا يعنينا في الوقت الراهن، لكن الحلقة المركزية الرابطة لكل أطراف الإشكالية أن الجميع داخل التجمع ما عدا قلة ما كان بمقدروهم رؤية أن قواعد اللعبة قد تغيرت وأن محاربة النظام (سياسياً وعسكرياً) بنفس القواعد القديمة لم تعد مجدية، وبالتالي كان عليهم إبتداع قواعد جديدة من بعد الإمساك بصلابة على مقررات أسمرا. وهو ماحاول الأستاذ الصاوي التبرير لضياع بوصلته ب " أن اساليب وخطط العمل المجربة في ثورة اكتوبر 1964 وانتفاضة مارس/ابريل 1985 (تنظيم النقابات كنموذج) والمستحدثه (العمل المسلح كنموذج) إفتقرت لنوعية العقليه وخبرة العمل العام والقاعدة الاجتماعية التي تتجاوب معها" وهو الإستنتاج الغير صحيح بالكامل، إذ أن كل ذلك كان متوافراً وبكثرة. لذلك عندما نعود لنرى أزمة التجمع الوطني الديمقراطي ضمن سياق مشروع التنوير الذي يطرحه الأستاذ الصاوي، نجد أنه من الصعوبة بمكان طرح أي رؤية نقدية لهذه التجربة بعيداً عن تناول العنصر المركزي فيها قضية تباين الإرادة السياسية، وهو الشئ الذي يعيدنا مباشرة إلى أس الأزمة التي أشرنا إليها، وهي مسألة المشروع الوطني بمحاورها التي ذكرناها. وبالتالي فإن تجربة التجمع الوطني تقلصت إلى صراع في إطار نظام الحكم وليس التغيير. إن بناء إطار تحالفي جديد كالتجمع أمر ممكن وإنتصاره على نظام الإسلام السياسي أمر محتمل، لكن أن يعود بنفس التوجهات والإستراتيجيات القديمة فلن يفعل شئ سوى إعادة إنتاج الأزمة في ثوب جديد وقيادة جديدة. لذلك فإن دور حركة التنوير أن تعيد قراءة تاريخ تجربة العمل المعارض برمتها لإعادة توجيهها نحو أفاق التغيير الحقيقية.
كلمة أخيرة:
لذلك فإن الإستنتاج الذي ختم به الأستاذ الصاوي تحليله لجذور الأزمة السودانية بقوله: "... بناء علي هذا التشخيص للسبب القاعدي للازمة السودانيه فأن اي استراتيجيه عمل سياسي منتج لتقدم غير قابل للانتكاس لابد ان يكون مرتكزها الترافق بين إعادة استزراع مقومات الحداثه والاستناره وإعادة تأسيس المشروع الديموقراطي. بغير ذلك، كما تفعل بعض اوساط المعارضه والحركات المسلحه التي تضع إسقاط نظام المؤتمر الوطني ( الاسلامي ) الشمولي كشرط سابق لتقدم من اي نوع، ستبقي العوامل المؤديه للانهيار السريع للتجارب الديموقراطيه ولاعادة انتاج الازمه العامه فاعلة بما يولد أنظمة اكثر شمولي ". بإعتبار أن المعضلة هي في النظام الديمقراطي، ويجب بالتالي غرس الحداثة والإستنار وإعادة تأسيس المشروع الديمقراطي ستبقى حفراً في النتائج مع ترك الأسباب، وبنفس القدر إذا كان التفكير في إسقاط نظام المؤتمر الوطني سابق لأي تنظير حول برنامج إستناري سيعيد إنتاج الأزمة وتوليد أنظمة أكثر شمولية، فإن الدعوة لتصحيح البناء الديمقراطي دون إطار لمشروع وطني يؤدي لنفس النتيجة، لأنه مهما خلق من تجربة برلمانية نظيفة ومرتبطة بالشعب، غير أنها ستظل مرهونة بالمركز فقط. مالم يكون التفكير بالفعل هو أن ترتبط بالمركز وهذا موضوع آخر.
هوامش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.