اشتهرت مدينة القضارف بزراعة الذرة والسمسم وارتبطت بها وكان حظها من الإبداع والمبدعين أقل من حظها في الزراعة ولكن حواءها رغم ذلك انجبت الدكتور عبدالواحد عبدالله يوسف شاعر نشيد الاستقلال (اليوم نرفع راية استقلالنا) وقبله أنجبت عمالقة الصحافة السودانية محمدالخليفة طه الريفي وعوض برير وأحمد طيفور وأنجبت الشاعر خليل عجب الدور و الصحافي والشاعر المقل ابراهيم عوض بشير الذي ما زال الناس يرددون كلماته مع الكابلي ، ابن حواء القضارفية هو الآخر، وهو يبكي على سلماه "أنا أبكيك للذكرى ويجري مدمعي شعرا".. ومن مبدعي القضارف بابكر الطاهر الذي وقف يحمل كبده المنفطر في ليلة فرح الآخرين "في الليلة ديك لا هان علي أرضى وأسامحك ولا هان علي أعتب عليك". لكن حواء القضارفية أصابها من جور الأزمنة البخيلة ما أصاب غيرها ، فلم تعد تنجب أمثال أولئك العمالقة. وفي عتمة هذا التصحر الإبداعي والمعرفي جاء منتدى شروق الثاقافي نقلة حضارية كبيرة وقفزة كبيرة للأمام من جوف الظلام وعلامة فارقة في مسيرة المدينة التنويرية التي اتخذت بمنتدى شروق لأول مرة شكلا مؤسسيا في مجتمع لا يرفض التنوير والحداثة بقدر ما تعوزه الوسائل والأسباب لذلك. نشأ منتدى شروق الثقافي في شهر يونيو 2007م وتم تسجيله في دفاتر مسجل الهيئات في وزارة الشئون الاجتماعية والثقافية في القضارف كهيئة طوعية، تشكل أعضاؤه من جميع الخلفيات الثقافية والفكرية ومن أعمار مختلفة وإن كان يغلب عليهم الشباب ، وكان فتحا جديدا غير مسبوق، لم يكن له مقر يزاول منه أعماله واعتمد على منازل أعضائه وكان يقيم ندواته حيثما يتيسر .. في الأندية الاجتماعية ومدرجات جامعة المدينة ، بلا سند مالي سوى مساهمات أعضائه المتواضعة ، ولكن صوته وفعله كانا أعلى من امكانياته فاستطاع أن يقيم أكثر من مائة وأربعين ندوة وفعالية خلال سنوات عمره الثلاث، ناقشت هذه الندوات الفنون والبيئة والتعليم وإعمار الشرق ومشاكل المدينة الاجتماعية والاقتصادية والرياضية، واستضاف المنتدى مسئولي الدولة والخبراء والمهنيين والأكاديميين والمتخصصين والمبدعين، وحقق انتشارا طيبا في مدينة منهكة بتعاقب مواسم الزراعة الفاشلة والديون الممسكة بخناق أهلها الذين يعتمد معظمهم على الزراعة في عيشهم . ولم يكن الطريق سهلا في كل مرة، ولكنها كانت "مستورة والحمد لله" حتى كانت قاصمة الظهر حينما أعلن المنتدى عن قيام ندوة في شهر نوفمبر الماضي لمناقشة الآثار الاقتصادية لانفصال الجنوب ، وهو شأن عادي تناقشه المنابر والمنتديات والصحف المختلفة في الخرطوم، ولكن كان لأهل الأمن في المدينة رأي آخر، فاستدعوا على عجل القائمين على المنتدى ونهوهم عن إقامة ندوتهم تلك، وذهبوا لأبعد من ذلك فسحبوا رخصة المنتدى مرة واحدة، وكانوا كرماء مع أمينه العام فاكتفوا بتحذيره وسبه ، ربما لأن الرجل ، رغم كل ما يحيط به من روعة وشموخ وشهرة، يمشي على كرسي متحرك، ولكنهم كانوا أقل كرما مع شقيقه ومرافقيه، حسبما ذكرت البيانات الصادرة من منتدى شروق. واستكمالا للمشهد السيء ، أو تقنينا له ، أمرت وزارة الشئون الاجتماعية والثقافة والإعلام ، بمكتوب رسمي، بإيقاف المنتدى "لخروجه عن أهدافه الثقافية" لحين إعداد لائحة تنظم عمل المنتدى يجيزها الوزير، "بصورة تمكنكم من أداء رسالتكم الثقافية"، على حد تعبيرهم، وغير ذلك مما يدخل في إطار "الكلام المجاني". هكذا أغلق ملف منتدى شروق بقرار فوقي ورؤية فردية، لا يملك أحد لردها سبيلا، ولكني أعتقد أن المساحة المتاحة من الحريات والعدالة كفيلة بمعالجة مشكلة منتدى شروق وعودته لمواصلة مسيرته التنويرية الرائدة، ولو ببعض التنازلات الضرورية التي تحفظ ماء الوجوه والتي يفرضها واقع الحال،تحقيقا لغرض أسمى، لا سيما وأن العديد من شاغلي المناصب الدستورية والمسئولين الحاليين والسابقين في الولاية، ومن بينهم السيد الوالي نفسه، لا يحملون في أنفسهم غلا على المنتدى ولكنهم، فيما يبدو، لديهم مشاغلهم التي تصرفهم عن الهم الثقافي. السؤال الملح...مناقشة الآثار الاقتصادية المحتملة لانفصال الجنوب شأن وطني عام متاح، حتى لحظة كتابة هذه السطور، للصحف والقنوات الفضائية ومحطات الإذاعة والمنابر والمنتديات الثقافية والسياسية والإعلامية المختلفة في الخرطوم، فلماذا لا يكون لمنتدى شروق الثقافي في القضارف نفس الحق المكفول للآخرين؟ (عبدالله علقم) [email protected]