بسم الله الرحمن الرحيم لا شك في أن واقع بلادنا السياسي "الأخطبوطي" الراهن و المتمثل في تحديات كثر يأتي في مقدمتها إنفصال الجنوب المرتقب ثم أزمة دارفور علاوةً على مشكلة أبيي قد بلغ، أي الواقع المشار إليه، مشارف التدهور الشامل. فوطننا ظل، منذ مدة طويلة، يترنح يمنةً و يسرةً و هو يحاول عبور مسالك وعرة و عقبات كأداء تعترض مسيرته الوطنية من وقتٍ لآخر دون أن يلوح ضوء في نهاية النفق يبشر بالإنفراج المأمول. و نظراً لمحاصرة هذا الوضع الشائك للبلاد بصورة مقلقة فقد تولدت لدي قناعة راسخة بأن الضرورة تقتضي، اليوم قبل الغد، تضافر الجهود و رص الصفوف و تصعيد و تيرة الإهتمام بقضايا الوطن وهو يمر بهذا المنعطف السياسي الخطر الذي يعمل، بحق و حقيقة، على تهديد وجوده. و على أبناء الوطن قاطبة أو بالأحرى القوى الوطنية المعنية الإنتقال الفوري بإهتماماتهم الآنية من القضايا "العادية" إلى القضايا "الحيوية" أو "الإستراتيجية" ذات العلاقة بمصير الوطن. إن"الوطنية" الحقة تقتضي، أولاً و أخيراً، إدراك القوى السياسية و التنظيمات الأخرى لهذا المعضل الإستثنائي الذي تعاني منه البلاد و التفاعل معه بقدرٍ عالٍ من الحساسية الإيجابية فضلاً عن إستيعاب مقتضيات المرحلة الراهنة توطئةً للعب دورٍ طليعي يستهدف إنقاذ البلاد من المآلات المدمرة المرتقبة في المستقبل المنظور. ذلك أن نذر الخطر و التي غدا إيقاعها يسير بخطى أسرع من أي وقت مضى لم تعد خافية على أحد كما لا تحتاج لبراهين تثبتها أو أدلة دامغة تؤكدها. و خلاصة القول أن واقعنا السياسي آنف الذكر يعد معضلاً عصياً على محاولات الحل في ظل ظروف معقدة، بعضها ذاتي المنشأ أي داخلي و بعضها الآخر دولي المنشأ. ذلك أن كل المؤشرات تدلل على أن إستفتاء الجنوب سيقود، على الأرجح، إلى إنفصال هذا الجزء الغالي من الوطن و أن أزمة أبيي أضحت مركبة و عصية على الحل كما أن محاولات التوصل إلى حل لمشكلة دار فور ما زالت تراوح مكانها. و على ضوء هذه المعطيات الباعثة على الأسى يكون المعضل السياسي السوداني قد بلغ حد الخطر الحقيقي. و يقول التحليل السياسي المنطقي، في هذا الصدد، أن مكمن الخطر يتمثل في أن حدوث إنفصال الجنوب يمثل بداية تفكك السودان نظراً لأن ثمة مناطق، و على رأسها دار فور، يليها شرق السودان، مرشحة للمطالبة بحق تقرير المصير المتوقع أن يفضي لإنفصال هذين الإقليمين. و بالقطع لا أحد يستطيع أن يجزم بأن الحكومة سوف يكون بمقدورها الحؤول دون هذه التداعيات الكبيرة و ذلك تأسيساً على أنه، في حال إنفصال الجنوب لا سمح الله، فإن من المتوقع أن تواجه البلاد وضعاً إقتصادياً حرجاً. و مما يؤكد أن إنفصال الجنوب أصبح مسألة وقت ليس إلا أن كل مواقف الحركة الشعبية و تصريحاتها باتت تدلل بجلاء على ترجيحها لخيار الإنفصال. و ليس أدل على ذلك من المؤتمر الأخير الذي دعت له الأممالمتحدة و الذي كان بمثابة التمهيد لإضفاء الشرعية الدولية على دولة الجنوب المرتقبة. و لا يختلف أثنان في أن أمريكا و إسرائيل تدفعان الحركة و تغريانها كما تمارسان ضغوطاً عليها لتغليب خيار "الإنفصال" على "الوحدة" لإعتبارات سياسية إستراتيجية قريبة و بعيدة المدى. كما أن مؤتمر جوبا الذي عُقد مؤخراً و ضم جميع القوى السياسية الجنوبية تقريباً و حضره كل الساسة الجنوبيين بمن فيهم أعضاء بالمؤتمر الوطني أكد على ضرورة إجراء الإستفتاء في موعده دون إعطاء فرصة للتأجيل. و قد كانت لهذا المؤتمر رمزيته فضلاً عن دلالاته ذات الصلة بإستعداد كل ألوان الطيف السياسي الجنوبي للإلتفاف حول إقليمهم و الإتفاق على قضاياهم. و في تقديري أن هذا الموقف يستوجب من قادة حزب المؤتمر الوطني مراجعة سلوكياتهم الإقصائية و مواقفهم المستهترة بالآخر و سياساتهم المتصلبة من أجل كسب دعم القوى السياسية الشمالية المعارضة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد. و لا يتأتى هذا الأمر إلا إذا أقدم حزب المؤتمر الوطني على تقديم تنازلات حقيقية تتيح لهذه القوى تحقيق ما ترومه و ذلك على النحو الذي يشبع طموحاتها. و بالطبع فإن البديل لهذا الموقف هو تجذر الإستقطاب الحاد في الساحة السياسية الشمالية و إستشراء الغبن أكثر و أكثر الأمر الذي يقود إلى الضعف في جسد القوى الشمالية جمعاء ما يفسح المجال للدور الأجنبي الهدام حيال البلاد. إن إعتماد منهج واقعي و مرن للتعاطي مع الشأن السياسي يعد من المقتضيات الأساسية للحنكة السياسية التي تنم عن سعة أفق حقيقي، لا سيما إذا كان التعنت غير المتبصر يقود إلى عواقب وخيمة. هذه، في نظري، هي "السياسة" بمفهومها البراجماتي "الذكي" الذي يُعول عليه في تحقيق المقاصد الوطنية المبتغاة، و ما عدا ذلك فهو تخبط ليس إلا. إن "المأزق الوطني" الراهن و الذي ظل مقيماً حيث هو، لا يتزحزح و لا يبرح مكانه.. كأنه متشبث بتراب هذا الوطن صار محيراً و مربكاً و في حاجة ماسة لجهود فوق العادة تعمل على تحطيم أسطورته. و لا أخالني في حاجة لسرد تفاصيل هذا "المأزق" نظراً لأنه أضحى معلوماً للكافة. و تمثل الأزمة القديمة الجديدة التي حدثت بين شريكي الحكم و لا زالت تلقي بظلالها القاتمة على تعاطيهما مع الشأن السياسي الوطني تمثل وجهاً من وجوه هذا المأزق. و بعيداً عن الخوض في تفاصيل هذه الأزمة يمكن، إيجازاً، التأكيد على أنها تدلل، على نحوٍ جلي، على أن هناك بون رؤيوي شاسع يفصل بين مواقف شريكي الحكم حيال القضايا الخلافية العالقة مثل ترسيم الحدود و مشكلة أبيي و تقسيم الديون الخارجية و غيرها من القضايا التي يتوجب التوصل لحلول لها قبل موعد الإستفتاء المضروب. الجدير بالإشارة أن محصلة هذه الأزمة تتمثل في أن شريكي الحكم أصبحا على طرفي نقيض في العديد من مواقفهما السياسية. و تبعاً لذلك فإن لسان حال المؤتمر الوطني بل و لسان مقاله يؤكدان أنه يبحث عن وسيلة يمكن، من خلالها، تأجيل الإستفتاء حتى يتمكن و شريكه في الحكم من تسوية الخلافات العالقة في حين أن الحركة الشعبية صرحت، مراراً و تكراراً، بعدم موافقتها على تأجيل الإستفتاء و لو ليوم واحد. و إزاء هذه الخطوب التي أطبقت على البلاد يتعين على القوى السياسية ألا تقف في الرصيف لأي سبب أو مسوغ من المسوغات بل تبادر بصنع الأحداث من خلال التفاكر الفوري المسؤول و الجاد، الهادف إلى وضع حد لهذا المأزق التاريخي. إن المسؤولية الأخلاقية و الواجب الوطني يحتمان على كل القوى الوطنية أن تكسر حاجز "السلبية" و تلبي "نداء الوطن" من خلال التصدي للقضية السودانية الراهنة بهدف الإبقاء على الوطن موحداً و متماسكاً في ظل العدالة و المساواة و سيادة حكم القانون. و عليها ألا تتقاعس عن ذلك بحجة أن المؤتمر الوطني قد دأب، مثلاً، على سلوك سياسي إقصائي و مستهتر إلى حد القهر، و بذا يجب أن يُترك و شأنه ليجني الشوك من ثمرات غرسه. و يتوجب عليها، بدلاً عن ذلك، القفز فوق الجراحات الأليمة و القيام بحراك "وحدوي" فاعل بعيداً عن منابر الحكومة، إذا إقتنعت بأن المؤتمر الوطني يريد كسبها لدواعٍ مصلحية حزبية آنية ضيقة فحسب، حتى تبرهن للشعب السوداني أنها تقوم بمفردها بمسعى يروم وحدة الوطن. و في هذا الإطار يتعين على الجميع تناسي الخلافات و التواضع على "برنامج عمل" منقذ للبلاد و من ثم تُحشد الطاقات و تُجيّش كل الآليات كي تعبر البلاد إلى بر الأمان. و على الجميع إستيعاب حقيقة هامة مفادها أن صيرورة السودان إلى "الوحدة" أو "الإنفصال" أصبحت قاب قوسين أو أدنى و أن الأخير إذا ما قدر له أن يتحقق سيعمل على مسح خارطة السودان القديم من على الخارطة الدولية لتحل محلها خرط أخرى كثر و لن يتأتي، حينها، إعادة الأمور إلى أوضاعها السابقة. كما أن على القوى السياسية إدراك حقيقة فحواها أن باب التدخلات الدولية المحتمل في الشأن الوطني سيأتي برياح عاصفات. فهو سيؤدي إلى إنتهاك سيادة البلاد و الوصاية عليها و كذا إلى تأثيرات سالبة تعد خصماً على المصلحة الوطنية. و من المعلوم أن التدخلات الدولية، و مهما تذرعت بحسن النوايا، لا تخلو من شبهة "المصلحة". ذلك أن العلاقات الدولية المعاصرة غدت موسومة بصراع المصالح الذي تُراعي كل دولة، من خلاله، مصلحتها البحتة. لذا فإن التعويل على القوى الأجنبية لحل ا لمشكل السوداني لا طائل من ورائه. و مع قناعتي التامة بأن قرب الموعد المضروب للإستفتاء و بعد الشقة بين شريكي الحكم فيما يتعلق بالقضايا الخلافية فضلاً عن سرعة تلاحق الأحداث علاوةً على تأثيرات البعد الدولي في قضية لها جذورها العميقة مع قناعتي بأن كل هذه العوامل تجعل من الصعوبة، إن لم يكن من الإستحالة بمكان، تدارك الموقف، إلا أن المآلات المدمرة المتوقعة يفترض أن تدفع سائر القوى الوطنية إلى المحاولات الحثيثة و الدؤوبة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو على بلادنا أرضاً و تاريخاً و حضارةً و نخباً سياسية و طبقة مثقفة و شعباً السلام. غني عن البرهان أن هذه الصورة الكارثية للوضع السياسي بالبلاد ليست نسجاً من الخيال كما أنها لا تجسد إتجاهاً تشاؤمياً بقدر ما أنها إنعكاس لظروف واقعية حية ذات جذور ضاربة في الماضي القريب و البعيد بكل تراكماته السالبة. لذا فإن من الضروري بمكان التعاطي معها بحسبانها "معضلة" واقعية خلقتها ظروف تاريخية معينة فظلت، لمدة طويلة من الزمن، تتشكل حتى شارفت بلوغ أشواطها النهائية. و إستناداً إلى كل هذه الحيثيات ذات الصلة بالمعضلة آنفة الذكر يتعين على القوى الوطنية أن تنأى بمحاولاتها الرامية إلى التوصل إلى حل لهذا الوضع الشائك من المناورات السياسية و تتحرى، بدلاً عن ذلك، الصدق و الشفافية و التجرد ليتسنى لها بلوغ المرام قبل أن يقع الفأس في الرأس. ذلك أن السلوك السياسي المؤسس على المناورات السياسية و لي عنق الواقع هو الذي قاد إلى الوضع الراهن. لذا فقد آن الأوان لإنتهاج نهج مغاير للنهج القديم إذا أُريد لبلادنا أن تخرج من عنق الزجاجة الحالي. ملحوظة: تم نشر الموضوع أعلاه بجريدة "الأخبار" السودانية قبل حوالي شهر. لذا فإن إيقاع مجريات الأحداث السياسية ربما يكون قد تجاوز بعضا مما ورد فيه.