كنت قد قدمت محاضرة عنوانها "الإرهاق الخلاق: نحو إستراتيجية للصلح القومي" بقاعة الشارقة عام 2000. وقلت فيها أننا قد بلغنا درجة من الإعياء الفكري السياسي حداً وصل بنا كلنا بلا فرز الي ما يسميه العلماء بنهاية السياسة. وقد شبهوا هذه الحالة بالعقارب المحبوسة في زجاجة يلسع واحدها الآخر حتي تفني. فالناس في عهد نهاية السياسة لا ينقسمون الي معارضة وحكومة بل الي طغم ذات شره قدسي للحكم وملذاته وعائده. فالسياسة في مثل هذا العهد لا تتجه الي ضبط الجشع كما قال قرامشي، بل الي إطلاق سعاره بغير قيد اوشرط. وقلت أن الإبداع الوحيد الممكن في هذا الزمن السخيف هو التواضع شفقة علي البلد والإعتراف بالفشل الجماعي والتواثق علي صلح وطني نوفر به بيئة صالحة تستعيد بها قوي الشعب الحية فعلها السياسي الذي إستاثرت به الطغم. وحكيت لبيان هذا المفهوم نادرتين. الأولى عن أحد ثوار الهنود الحمر الزابتيين في المكسيك الذين لفتوا إنتباه العالم بهبتهم عام 1994 بقيادة الكوماندور ماركوس. وقد سلبت عيون ماركوس الوضيئة،خلف قناعه الذي لا يظهر بدونه، بال الفتيات الناشطات في العالم أجمع. وسأل أحد الصحفيين الهندي الاحمر الثائر عما يريده من ثورته. فقال الجندي الذي حمل بندقية عفى عليها الدهر: "الإشتراكية علي ما اعتقد". أما النادرة الثانية فهي عن من لقي شخصاً يكرهه كراهة التحريم فبعد السلام سأله، ليتخلص منه، أن يدخلا الأستوديو القريب ليأخذا صورة معاً. وعلقت علي النادرة الأولى قائلاً إن الإرهاق السياسي يقع حين لا يعود الناشط واثقاً أن في الغاية التي طلبها سعادة الناس. فالهندي الأحمر ما زال باسلاً يريد التغيير ويسميه الاشتراكية مجازاً. فقد داخله الشك في الثابت الآفل.. واستعدت ذكري هذه المحاضرة بعد ان قرأت كلمتين واحدة للدكتور البوني بالصحافة والأخري للدكتور كمال حنفي بالرأي العام. فقد تجلت في كليهما بعض معاني الإرهاق الخلاق. فقد روي البوني عن زيارة إتحاد المرأة الحكومي للأستاذه فاطمة احمد إبراهيم "المقاشرة الحكومة واتحاد مرتها". ولا حظ البوني أن فاطمة التي قست علي زميلاتها الأزليات الأستاذة سعاد أحمد أبراهيم والدكتورة فاطمة بابكر في حديث صحفي قبلت هدية إتحاد المرأة الذي زارها بخروفين لزوم الكرامة. واجتمعت في هذا المشهد عناصر الإرهاق الخلاق كلها. فخصومة فاطمة لسعاد وفاطمة الأخري هو من باب "الإشتراكية فيما اعتقد". وأما قبول الهدية فهو أخذ الصورة مع الخصم الذي لم يعد هناك مفراً من لقائه وجهاً لوجه. وربما لم يكن جديداً علي فاطمة الحديث الي النساء كنساء برغم الخصومة. فقد حمدت لها يوماً انها قالت أن وجود نائبات نساء من الجبهة الإسلامية القومية في الجمعية التاسيسية في 1986 مثل الدكتورة سعاد الفاتح هو ايضاً نصر للمرأة. فالجنس للجنس رحمة. أما ما رواه دكتور حنفي فهو اعجب. فقد حكي عن زواج شيوعية وأخ مسلم التقيا في نيوزيلند بعدا تخرجهما بسنين من جامعة الخرطوم. وكانا كالشحمة والنار في أركان النقاش بالجامعة. ولما التقيا كان الإسلامي قد حلق ذقنه السياسية بينما وضعت الشيوعية طرحة علي شعرها . . . الذهب. وهذه تنازلات عقدية لم يكن فتي وفتاة أركان النقاش يظنان أن بوسعهما ارتكابها تطوعاً. وأذاب لقاء الغربة صدأ القديم ولجاجاته وتناجي عصفورا ريدهما. وأتفقا علي الزواج بالخرطوم وعقد قرانهما بمسجد الجامعة. وقد كان. وبالطبع من السهل التكهن أنهما أخذا تلك الصورة . . . صورة الإرهاق الخلاق. والعاقبة عندكم في المسرات.