وزير الخارجية يستقبل مدير عام المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة    منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لمن تقوم الدولة الإسلامية؟" .. بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي
نشر في سودانيل يوم 05 - 01 - 2011

إذا لم تكن الضجة السياسية الإعلامية التي صاحبت قضية جلد الفتاة، ولا كارثة انقسام البلاد المقبلة كافية لوقفة مراجعة لتجليات الفكر الإسلامي الحديث في السودان (ومن بعده العالم العربي) فإن في تجارب العقدين الماضيين ما يدعو لكثير من التأمل. وهناك الآن أكثر من تجربة معاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية، بدءاً من المملكة العربية السعودية التي مر عليها أكثر من قرن، ثم التجربة الإيرانية لأكثر من ثلاثة عقود، والتجارب الأفغانية المختلفة، وأخيراً التجربة السودانية، إضافة إلى تجارب جزئية في الباكستان واليمن ومناطق أخرى.
وما يجمع بين هذه التجارب هو غياب الديمقراطية، مما يعني عزلة السلطة عن الجماهير، وأيضاً استخدام كل آليات السلطة ليس لتطبيق أحكام الإسلام، وإنما للدفاع عن هيكلية الحكم وسيطرة أشخاص بعينهم على زمام الأمور. إلا أن إيران كانت هي الدولة الوحيدة التي نظرت لهذا الوضع وشرعت له ب "فتاوى" فقهية، كما جاء في نظرية "ولاية الفقية المطلقة" التي أعلنها الزعيم الراحل آية الله الخميني في عام 1988، وفحواها أن بقاء الدولة الإسلامية مقدم على تطبيق الشريعة وكل تعاليم الدين، بما في ذلك فرائض الصوم والصلاة والحج وغيرها. وعليه يجوز للإمام، إذا رأى أن بقاء الدولة مهدد، أن يمنع الحج ويهدم المساجد ويصنع كل ما يلزم للحفاظ على الدولة، وذلك بحجة أن وجود الدولة هو الأساس الذي لا قيام لفرائض الدين إلا بوجوده.
وإذا كانت إيران قد أسست لهذا المبدأ، بل نصت عليه في الدستور وأنشأت مجلساً خوله الدستور تحديد "مصلحة النظام" واتخاذ القرارات التي تحافظ عليها، حتى وإن خالفت الشريعة والدستور والقانون، فإن بقية الأنظمة تستصحب هذا المبدأ دون أن تنص عليه. فلا يسمح بما يمس سمعة النظام أو أقطاب الحكم، حتى لو خالفوا قاطع أحكام الشريعة، أو كانوا ضالعين في الفساد. وفي هذه الحالة فإن تطبيق أحكام الشريعة يخضع لمنطق بقاء النظام وسلطة قياداته النافذة، فلا تطبق الشريعة إن خالفت مصلحة النظام أو هددت سمعته أو سلطته. فالسيادة في هذه الأنظمة ليست للشريعة وأحكامها، وإنما هي للعائلة أو الحزب أو الفرد أو الثلة الحاكمة.
وهذا يطرح من جديد السؤال المحوري حول ما معنى تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع المعاصر؟ وكنت قد تناولت هذه المسألة من قبل في مقالة نشرت في مجلة "العربي" الكويتية عام 1978 بعنوان: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه قاضياً". وكان فحوى المقالة أن المحاولات المعاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية تغفل أن المهمة الأولى للدين هي إنقاذ البشر من سوء المصير في الدار الآخرة. وهذا لن يتأتى إلا إذا كان تطبيق أحكام الشريعة برضا وقبول الناس، لأن تطبيق الشريعة قهراً لا يحقق هذا الغرض، بل بالعكس، ينغص على الناس حياتهم الدنيا دون أن ينفعهم في آخرتهم.
ولعل هذه فرصة لتصحيح بعض الأخطاء التي وردت في تلك المقالة، خاصة العنوان. فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث هادياً وقاضياً، وأمر أن يحكم بين الناس بما أراه الله. ولكن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشترط فيه أن يكون المتحاكم من المؤمنين به، ومن شروط الإيمان أن يرضى المرء بالحكم ولا يجد في الحكم حرجاً. أما تحاكم غير المؤمنين (مثل اليهود) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد خير في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم، ولكن المهم أن يطلبوا هم التحاكم. أما إذا لم يطلبوا فلا شأن للرسول صلى الله عليه وسلم بهم، إلا فيما يتعلق بالقضايا المشتركة التي حكمتها المواثيق والعهود القائمة بين الطرفين. هذا التصحيح ضروري، وإن كان لا يؤثر جوهرياً على فحوى الرأي الذي اشتملت عليه المقالة، وهو أن التحاكم إلى الشريعة لا معنى له إن لم يكن برضا المتحاكمين.

وقبل حوالي شهرين نشر منبر الحرية بالاشتراك مع الأهلية للنشر في عمان (الأردن) الترجمة العربية للطبعة الثانية من كتابي "من يحتاج الدولة الإسلامية؟"، وذلك بعنون جديد رأيت أنه أنسب إلى محتوى الكتاب، وهو "لمن تقوم الدولة الإسلامية؟" ولا بد هنا من أن أؤكد أن قبولي أن يقوم منبر الحرية بنشر الكتاب لا يعني موافقتي على كل مواقف وأطروحات هذا المنبر الذي يتبنى سياسات الانفتاح الاقتصادي والليبرالية الغربية التقليدية بدون تحفظ. ومهما يكن فإن دار النشر لم تتدخل في محتوى الكتاب ولا أي من تفاصيله.
وكما هو معروف فإن طبعة الكتاب الثانية صدرت في لندن عام 2008، والنص العربي الحالي هو ترجمة دقيقة لتلك الطبعة التي احتوت إضافات، منها مقدمة الناشر، وتقديم آخر من قبل الأخ الصديق ضياء الدين سردار، أحد المسؤولين في دار النشر التي نشرت الكتاب لأول مرة في لندن عام 1991، ثم توطئة كتبتها لاستدراك بعض الأمور والتعليق على بعض النقاط التي أثارها عدد من المنتقدين خلال السنوات الماضية. وكانت في الطبعة الجديدة ملاحق، منها نص الرد الذي نشر في وقت سابق تعليقاً على انتقادات أحد قادة الجماعة الإسلامية في باكستان، ثم نص ورقة تقارن بين نموذج دولة المدينة وما وصفته ب "النموذج الدمشقي"، الذي تطور بعد ذلك إلى النموذج الأموي، ثم أعيد انتاجه في الدولة العباسية والفاطمية وكل النماذج الإسلامية التي أعقبت نموذج دولة المدينة، بما في ذلك الدولة الإيرانية الحالية والأنظمة السعودية والسودانية.
وخلاصة الحديث عن "النموذج الدمشقي" هو أن هذا النموذج لم ينشأ بعد سقوط دولة الخلافة الراشدة، وإنما تزامن وجوده معها. فقد نشأ هذا النموذج في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان في أيام خلافة عمر بن الخطاب، واستمر طوال عهد عثمان بن عفان، قبل اصطدامه بالإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعاً. من هنا يطالب الكتاب بنظرة متعمقة إلى هذا النموذج ودراسة لأسباب استمراريته في الوقت الذي انهار فيه نموذج الخلافة الراشدة، ويتطوع بإجابات تمهيدية على هذه الأسئلة.
أما خلاصة الكتاب فهو نقد لفكرة الدولة الإسلامية كما راجت في الأدبيات الإسلامية الحديثة، والمطالبة بأن يكون التركيز على قيام "دولة المسلمين"، وأن تكون الديمقراطية هي عماد هذه الدولة. وقد احتج الكتاب في تأييد هذا الموقف بأن مفاهيم الحركات الإسلامية ومفكريها عن الدولة الإسلامية تعاني من اضطراب وعدم وضوح رؤية بعد أن عاش الفكر الإسلامي ركوداً طويلاً، ولم يتمكن بعد من استيعات المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستجدة خلال فترة الركود هذه. ولهذا يحتاج المسلمون إلى فترة تتاح فيها الحريات كاملة للبحث والتقصي وتوسيع الحوار من أجل بناء إجماع جديد حول مقتضى حكم الشريعة في الواقع المعاصر. وبخلاف ذلك نكون كمن يخبط خبط عشوءا ويسير في الظلام. فتطبيق الشريعة لا يمكن أن يكون أداة لإقامة الدولة الإسلامية، بل لا بد أن يكون ثمرة قيام المجتمع الإسلامي. فتطبيق الأحكام الإسلامية (حتى لو كان تطبيقاً صحيحاً وسليماً مائة بالمائة) على قوم كارهون لها لن يخلق مجتمعاً فاضلاً كما يتمنى البعض، بل سيخلق مجتمعاً مشوهاً.
وبالطبع كان إصدار طبعة ثانية من كتاب أثار الكثير من الجدل في وقته مناسبة لاستدراك بعض الأخطاء والرد على بعض الملاحظات. وفي هذا الصدد سجلت في مقدمة الطبعة الثانية عدداً من الملاحظات، أولها أنني أرفض التصنيفات المستحدثة التي تقسم المسلمين إلى معتدلين ومتطرفين، ولا يسعدني أن أصنف في هذه الخانات، خاصة في ظل الهرولة التي شهدتها السنوات الأخيرة ممن يريدون أن يصنفوا في معسكر "الاعتدال". وقد كان الكتاب لدى صدوره واجه انتقادات عنيفة من بعض من أوشكوا أن يصموا صاحبه بالكفر والخروج من الملة. وعندما أقيمت ندوة في لندن لتقديم الكتاب، كانت هناك مظاهرة صغيرة من بعض المحتجين وزعوا منشورات تهاجم الكتاب وصاحبه، ويؤسفني أن أقول أنها لا تدل على أن من كتبوا تلك المنشورات قرأوا الكتاب. وبالمقابل فإن كثيراً ممن انتقدوا الكتاب من قبل أصبحوا يتبنون اليوم آراء تعتبر أطروحات الكتاب في مقابلها متطرفة. وقد أكثر هؤلاء من الإشادة بالكتاب، وهو أمر لم يسرني كثيراً.
من جهة أخرى بدا لي أنه لعل انتقاداتي للحركات الإسلامية وأطروحاتها في الكتاب كانت أكثر حدة من اللازم، مما عوق الاستفادة من اطروحاته من قبل هذه الحركات التي كانت مقصودة به قبل غيرها. ولكنني بعد تأمل خطر لي أن النقد ربما لم يكن قاسياً بما فيه الكفاية، بالنظر إلى الحوادث والتطورات التي استجدت في صفوف هذه الحركات منذ صدور الكتاب.
هناك ملاحظة أخرى تتعلق بالحديث عن الأمة الإسلامية بصورة مثالية أكثر من اللازم، في وقت يبدو فيه أن هذه الأمة بعيدة كل البعد عن الاضطلاع بدورها النظري عالمياً. فالأمة الإسلامية غائبة وممزقة ومنقسمة على نفسها، مما يجعل الحديث عنها في ظل الوضع الدولي الحالي غير ذي معنى. ولكنني رأيت أن هذا الفراغ قد يملأ جزئياً بقيام دولة "قيادية" في العالم الإسلامي تلعب دوراً يشبه الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة اليوم في قيادة المعسكر الغربي.
من الصعب بالطبع تلخيص كل مقولات الكتاب في هذ العجالة، لأن المواضيع التي يتناولها متشعبة ومتداخلة، بدءاً من فكرة الدولة الحديثة نفسها وتجلياتها في الفكر الغربي الذي أسس لها، ومقولات الفكر السياسي الإسلامي التقليدي حول الحكم، وأطروحات الحركات الإسلامية الحديثة حول الدولة الإسلامية ثم التناول النقدي لهذه الأطروحات. ولكن ما لفت نظري أثناء إعداد الطبعة الثانية للكتاب أنني لم أجد حاجة لتغيير أي من المقولات الأساسية حول ضرورة تقديم الديمقراطية على كل المطالب الأخرى باعتبارها الأساس الذي لا قيام لنظام سياسي سليم في غيابه.
ففي غياب الديمقراطية، لا بد أن تتسلط فئة بعينها على العباد والبلاد، وتحكم بأمرها لا بأمر الله، وتدخل الأمة المعنية بهذا في باب من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم (وفي حالتنا هذه، حكامهم ورجال أمنهم) أرباباً من دون الله، يشرعون باسم الدين ما ترتضيه نفوسهم ثم يقولون للناس هذا هو الدين. وفي هذا قمة ضياع الدين والدنيا معاً.
عبدالوهاب الأفندي
"لمن تقوم الدولة الإسلامية؟"
عود على بدء
إذا لم تكن الضجة السياسية الإعلامية التي صاحبت قضية جلد الفتاة، ولا كارثة انقسام البلاد المقبلة كافية لوقفة مراجعة لتجليات الفكر الإسلامي الحديث في السودان (ومن بعده العالم العربي) فإن في تجارب العقدين الماضيين ما يدعو لكثير من التأمل. وهناك الآن أكثر من تجربة معاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية، بدءاً من المملكة العربية السعودية التي مر عليها أكثر من قرن، ثم التجربة الإيرانية لأكثر من ثلاثة عقود، والتجارب الأفغانية المختلفة، وأخيراً التجربة السودانية، إضافة إلى تجارب جزئية في الباكستان واليمن ومناطق أخرى.
وما يجمع بين هذه التجارب هو غياب الديمقراطية، مما يعني عزلة السلطة عن الجماهير، وأيضاً استخدام كل آليات السلطة ليس لتطبيق أحكام الإسلام، وإنما للدفاع عن هيكلية الحكم وسيطرة أشخاص بعينهم على زمام الأمور. إلا أن إيران كانت هي الدولة الوحيدة التي نظرت لهذا الوضع وشرعت له ب "فتاوى" فقهية، كما جاء في نظرية "ولاية الفقية المطلقة" التي أعلنها الزعيم الراحل آية الله الخميني في عام 1988، وفحواها أن بقاء الدولة الإسلامية مقدم على تطبيق الشريعة وكل تعاليم الدين، بما في ذلك فرائض الصوم والصلاة والحج وغيرها. وعليه يجوز للإمام، إذا رأى أن بقاء الدولة مهدد، أن يمنع الحج ويهدم المساجد ويصنع كل ما يلزم للحفاظ على الدولة، وذلك بحجة أن وجود الدولة هو الأساس الذي لا قيام لفرائض الدين إلا بوجوده.
وإذا كانت إيران قد أسست لهذا المبدأ، بل نصت عليه في الدستور وأنشأت مجلساً خوله الدستور تحديد "مصلحة النظام" واتخاذ القرارات التي تحافظ عليها، حتى وإن خالفت الشريعة والدستور والقانون، فإن بقية الأنظمة تستصحب هذا المبدأ دون أن تنص عليه. فلا يسمح بما يمس سمعة النظام أو أقطاب الحكم، حتى لو خالفوا قاطع أحكام الشريعة، أو كانوا ضالعين في الفساد. وفي هذه الحالة فإن تطبيق أحكام الشريعة يخضع لمنطق بقاء النظام وسلطة قياداته النافذة، فلا تطبق الشريعة إن خالفت مصلحة النظام أو هددت سمعته أو سلطته. فالسيادة في هذه الأنظمة ليست للشريعة وأحكامها، وإنما هي للعائلة أو الحزب أو الفرد أو الثلة الحاكمة.
وهذا يطرح من جديد السؤال المحوري حول ما معنى تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع المعاصر؟ وكنت قد تناولت هذه المسألة من قبل في مقالة نشرت في مجلة "العربي" الكويتية عام 1978 بعنوان: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه قاضياً". وكان فحوى المقالة أن المحاولات المعاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية تغفل أن المهمة الأولى للدين هي إنقاذ البشر من سوء المصير في الدار الآخرة. وهذا لن يتأتى إلا إذا كان تطبيق أحكام الشريعة برضا وقبول الناس، لأن تطبيق الشريعة قهراً لا يحقق هذا الغرض، بل بالعكس، ينغص على الناس حياتهم الدنيا دون أن ينفعهم في آخرتهم.
ولعل هذه فرصة لتصحيح بعض الأخطاء التي وردت في تلك المقالة، خاصة العنوان. فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث هادياً وقاضياً، وأمر أن يحكم بين الناس بما أراه الله. ولكن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشترط فيه أن يكون المتحاكم من المؤمنين به، ومن شروط الإيمان أن يرضى المرء بالحكم ولا يجد في الحكم حرجاً. أما تحاكم غير المؤمنين (مثل اليهود) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد خير في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم، ولكن المهم أن يطلبوا هم التحاكم. أما إذا لم يطلبوا فلا شأن للرسول صلى الله عليه وسلم بهم، إلا فيما يتعلق بالقضايا المشتركة التي حكمتها المواثيق والعهود القائمة بين الطرفين. هذا التصحيح ضروري، وإن كان لا يؤثر جوهرياً على فحوى الرأي الذي اشتملت عليه المقالة، وهو أن التحاكم إلى الشريعة لا معنى له إن لم يكن برضا المتحاكمين.

وقبل حوالي شهرين نشر منبر الحرية بالاشتراك مع الأهلية للنشر في عمان (الأردن) الترجمة العربية للطبعة الثانية من كتابي "من يحتاج الدولة الإسلامية؟"، وذلك بعنون جديد رأيت أنه أنسب إلى محتوى الكتاب، وهو "لمن تقوم الدولة الإسلامية؟" ولا بد هنا من أن أؤكد أن قبولي أن يقوم منبر الحرية بنشر الكتاب لا يعني موافقتي على كل مواقف وأطروحات هذا المنبر الذي يتبنى سياسات الانفتاح الاقتصادي والليبرالية الغربية التقليدية بدون تحفظ. ومهما يكن فإن دار النشر لم تتدخل في محتوى الكتاب ولا أي من تفاصيله.
وكما هو معروف فإن طبعة الكتاب الثانية صدرت في لندن عام 2008، والنص العربي الحالي هو ترجمة دقيقة لتلك الطبعة التي احتوت إضافات، منها مقدمة الناشر، وتقديم آخر من قبل الأخ الصديق ضياء الدين سردار، أحد المسؤولين في دار النشر التي نشرت الكتاب لأول مرة في لندن عام 1991، ثم توطئة كتبتها لاستدراك بعض الأمور والتعليق على بعض النقاط التي أثارها عدد من المنتقدين خلال السنوات الماضية. وكانت في الطبعة الجديدة ملاحق، منها نص الرد الذي نشر في وقت سابق تعليقاً على انتقادات أحد قادة الجماعة الإسلامية في باكستان، ثم نص ورقة تقارن بين نموذج دولة المدينة وما وصفته ب "النموذج الدمشقي"، الذي تطور بعد ذلك إلى النموذج الأموي، ثم أعيد انتاجه في الدولة العباسية والفاطمية وكل النماذج الإسلامية التي أعقبت نموذج دولة المدينة، بما في ذلك الدولة الإيرانية الحالية والأنظمة السعودية والسودانية.
وخلاصة الحديث عن "النموذج الدمشقي" هو أن هذا النموذج لم ينشأ بعد سقوط دولة الخلافة الراشدة، وإنما تزامن وجوده معها. فقد نشأ هذا النموذج في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان في أيام خلافة عمر بن الخطاب، واستمر طوال عهد عثمان بن عفان، قبل اصطدامه بالإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعاً. من هنا يطالب الكتاب بنظرة متعمقة إلى هذا النموذج ودراسة لأسباب استمراريته في الوقت الذي انهار فيه نموذج الخلافة الراشدة، ويتطوع بإجابات تمهيدية على هذه الأسئلة.
أما خلاصة الكتاب فهو نقد لفكرة الدولة الإسلامية كما راجت في الأدبيات الإسلامية الحديثة، والمطالبة بأن يكون التركيز على قيام "دولة المسلمين"، وأن تكون الديمقراطية هي عماد هذه الدولة. وقد احتج الكتاب في تأييد هذا الموقف بأن مفاهيم الحركات الإسلامية ومفكريها عن الدولة الإسلامية تعاني من اضطراب وعدم وضوح رؤية بعد أن عاش الفكر الإسلامي ركوداً طويلاً، ولم يتمكن بعد من استيعات المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستجدة خلال فترة الركود هذه. ولهذا يحتاج المسلمون إلى فترة تتاح فيها الحريات كاملة للبحث والتقصي وتوسيع الحوار من أجل بناء إجماع جديد حول مقتضى حكم الشريعة في الواقع المعاصر. وبخلاف ذلك نكون كمن يخبط خبط عشوءا ويسير في الظلام. فتطبيق الشريعة لا يمكن أن يكون أداة لإقامة الدولة الإسلامية، بل لا بد أن يكون ثمرة قيام المجتمع الإسلامي. فتطبيق الأحكام الإسلامية (حتى لو كان تطبيقاً صحيحاً وسليماً مائة بالمائة) على قوم كارهون لها لن يخلق مجتمعاً فاضلاً كما يتمنى البعض، بل سيخلق مجتمعاً مشوهاً.
وبالطبع كان إصدار طبعة ثانية من كتاب أثار الكثير من الجدل في وقته مناسبة لاستدراك بعض الأخطاء والرد على بعض الملاحظات. وفي هذا الصدد سجلت في مقدمة الطبعة الثانية عدداً من الملاحظات، أولها أنني أرفض التصنيفات المستحدثة التي تقسم المسلمين إلى معتدلين ومتطرفين، ولا يسعدني أن أصنف في هذه الخانات، خاصة في ظل الهرولة التي شهدتها السنوات الأخيرة ممن يريدون أن يصنفوا في معسكر "الاعتدال". وقد كان الكتاب لدى صدوره واجه انتقادات عنيفة من بعض من أوشكوا أن يصموا صاحبه بالكفر والخروج من الملة. وعندما أقيمت ندوة في لندن لتقديم الكتاب، كانت هناك مظاهرة صغيرة من بعض المحتجين وزعوا منشورات تهاجم الكتاب وصاحبه، ويؤسفني أن أقول أنها لا تدل على أن من كتبوا تلك المنشورات قرأوا الكتاب. وبالمقابل فإن كثيراً ممن انتقدوا الكتاب من قبل أصبحوا يتبنون اليوم آراء تعتبر أطروحات الكتاب في مقابلها متطرفة. وقد أكثر هؤلاء من الإشادة بالكتاب، وهو أمر لم يسرني كثيراً.
من جهة أخرى بدا لي أنه لعل انتقاداتي للحركات الإسلامية وأطروحاتها في الكتاب كانت أكثر حدة من اللازم، مما عوق الاستفادة من اطروحاته من قبل هذه الحركات التي كانت مقصودة به قبل غيرها. ولكنني بعد تأمل خطر لي أن النقد ربما لم يكن قاسياً بما فيه الكفاية، بالنظر إلى الحوادث والتطورات التي استجدت في صفوف هذه الحركات منذ صدور الكتاب.
هناك ملاحظة أخرى تتعلق بالحديث عن الأمة الإسلامية بصورة مثالية أكثر من اللازم، في وقت يبدو فيه أن هذه الأمة بعيدة كل البعد عن الاضطلاع بدورها النظري عالمياً. فالأمة الإسلامية غائبة وممزقة ومنقسمة على نفسها، مما يجعل الحديث عنها في ظل الوضع الدولي الحالي غير ذي معنى. ولكنني رأيت أن هذا الفراغ قد يملأ جزئياً بقيام دولة "قيادية" في العالم الإسلامي تلعب دوراً يشبه الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة اليوم في قيادة المعسكر الغربي.
من الصعب بالطبع تلخيص كل مقولات الكتاب في هذ العجالة، لأن المواضيع التي يتناولها متشعبة ومتداخلة، بدءاً من فكرة الدولة الحديثة نفسها وتجلياتها في الفكر الغربي الذي أسس لها، ومقولات الفكر السياسي الإسلامي التقليدي حول الحكم، وأطروحات الحركات الإسلامية الحديثة حول الدولة الإسلامية ثم التناول النقدي لهذه الأطروحات. ولكن ما لفت نظري أثناء إعداد الطبعة الثانية للكتاب أنني لم أجد حاجة لتغيير أي من المقولات الأساسية حول ضرورة تقديم الديمقراطية على كل المطالب الأخرى باعتبارها الأساس الذي لا قيام لنظام سياسي سليم في غيابه.
ففي غياب الديمقراطية، لا بد أن تتسلط فئة بعينها على العباد والبلاد، وتحكم بأمرها لا بأمر الله، وتدخل الأمة المعنية بهذا في باب من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم (وفي حالتنا هذه، حكامهم ورجال أمنهم) أرباباً من دون الله، يشرعون باسم الدين ما ترتضيه نفوسهم ثم يقولون للناس هذا هو الدين. وفي هذا قمة ضياع الدين والدنيا معاً.
Abdelwahab El-Affendi [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.