لأول مرة تبدو أمريكا سعيدة وفرحة مما يجري في السودان. الذي يقرأ تقارير الصحافة الأمريكية ومقالات كبار كُتّابها وتصريحات مسئوليها يلحظ تلك الفرحة العامرة التي انتابت القوم، فيتعجب ويظن أن الأمريكيين تحولوا بين عشية وضحاها ل (دينكا)!! ما السر وراء هذه البهجة الأمريكية التي لم يستطيعوا إخفاءها عن صحافة العالم؟ الغريب أن أمريكا وطيلة الفترة الانتقالية لم تُبدِ حماساً تجاه الجنوب ودعمه. فإذا استثنينا مبعوثيها الذين أدمنوا التجوّل في مدن الجنوب لم يكن هناك أي دعم فعلي لشعب الجنوب. وخذلوا الجنوبيين في أعقاب توقيعهم لاتفاق نيفاشا حين وعدوهم بالمنِّ والسلوى بشهادة العالم، ولكن ما أن جفّ حبر الاتفاق حتى (عملوا نايمين) فلم تتدفق المليارات على خزائن الجنوب، وتركوا الجنوب يكافح وحده ليأكل من خيرات بتروله دون أن تمتد له يد الدعم الأمريكي. مرة أخرى في أعقاب أوسلو حين اجتمع العالم ليبذل مزيداً من الوعود الخُلّب التي لم تمطر حتى انطوت الفترة الانتقالية بخيرها وشرها. ها نحن مرة أخرى أمام وعود أمريكية جديدة بذات الملامح والشبه. وزيرة الخارجية كلينتون في زيارتها الأخيرة لقطر أعلنت أن الجنوب والشمال يستحقان دعم أمريكا لما أنجزاه في الاستفتاء الرائع الذي التزما فيه بإنفاذ اتفاقية السلام الشامل. قبلها بذل أوباما وعوداً بدعم الدولة الجديدة في الجنوب حال الإعلان عنها!! أمريكا لم تترك مجالاً للجنوبيين لتصديق وعودها، وليس هذا ما يشغلنا الآن، بل تشغلنا مسببات تلك السعادة الأمريكية التي انتابتها بسبب قيام دولة الجنوب. أمريكا في علاقتها مع السودان عرفت كآبة متصلة منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً لم تهنأ فيها يوماً بعلاقة سوية معه. ففي فترة الديمقراطية نكّد عليها الإمام الصادق عيشتها بتحالفه مع العراق وإيران؛ وكلاهما أعداء ألدّاء للنظام الأمريكي. ثم جاءت الطامة الكبرى في العام 1989 حين جاءت رياح التغيير بالإسلاميين لسدّة الحكم فجنّ جنونها وتحولت لعدو للنظام من يومها وحتى ساعة كتابة هذا المقال. الفترة الوحيدة التي سعدت فيها أمريكا طيلة العقدين الماضيين حين تم توقيع نيفاشا في العام 2005. الآن يبدو لي أن هنالك سببين رفعا معنويات الإدارة الإمريكية الحالية فبدت في سعادة وحبور تحسد عليهما: السبب الأول الذي أبهج الإدارة الأمريكية هو خلوّها من أي إنجاز خارجي، فلقد خابت الآمال في وعود أوباما وتحولت أحلام التغيير لكوابيس. ظلت رجلا أوباما متوحلتين في طين الصراعات العسكرية في العراق وأفغانستان، وسقطت سياساته الاقتصادية في بئر الإفلاس، فتدنت شعبيته لدرجة مخيفة، وجاءت النتائج سريعاً حين فقد الحزب الديمقراطي أغلبيته في مجلس الشيوخ. من جنوب السودان بالقرب من مسقط رأسة لاحت إمكانية إنجاز وحيد تقدل به إدارة أوباما؛ وهو استقلال جنوب السودان. ومن هنا أبدت إدارة أوباما اهتماماً غير مسبوق بالشأن السوداني لدرجة أنها ظلت تتابع يومياً جدله المتصاعد عبر مبعوثيها وبعثتها الدبلوماسية وعبر وزارة خارجيتها. فسيْل التصريحات الصادرة من الإدارة الأمريكية خلال الشهر الماضي حول الاستفتاء لم تصدر في أي شأن آخر بما في ذلك الشأن الإيراني أو شؤون الشرق الأوسط.. يا له من إنجاز... ميلاد دولة على يد القابلة الأمريكية من شأنه أن يرتفع بشعبية أوباما المتدهورة ويجعل جماعات الضغط والسود والمسيحيين أكثر تعاطفاً مع أوباما مما يصعد احتمالات فوزه في الانتخابات القادمة. السبب الثاني أن ميلاد دولة الجنوب بهذه السلاسة والسهولة جنّب أمريكا احتمالات كارثية كانت ستواجهها في حال تورّط الجنوب في نزاع مسلح مع الشمال بسبب الاستفتاء. إذا فسد الاستفتاء ستواجه أمريكا نزاعاً معقداً لا تستطيع التورّط فيه، ولن تسطيع تحمّل نتائجه. جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي في آخر زيارة له لنيروبي قال إن آخر ما تتمناه أمريكا هو قيام دولة فاشلة في جنوب السودان. فالخوف الأمريكي من قيام دولة فاشلة تتحمل تبعاتها المالية والسياسية؛ هو الذي دفع أمريكا للاهتمام وإبداء هذا الحرص على إجراء استفتاء آمن يقود لميلاد طبيعي دون حاجة لعملية قيصرية. فما إن جاءت تباشير ولادة الدولة دون صعوبات حتى بدت أسارير أمريكا تنفرج وتكاد تطلق زغرودة وترقص وسط الدائرة.!!. نصيحتي لإدارة أوباما أن تؤجل فرحها الأعظم لحين التأكد من فلاح المولود. كان جدّي الشيخ الريح رحمة الله عليه إذا ما أطلّ مولود ذكر في الأسرة وأطلقت النساء حناجرهن بالزغاريد، هبّ في وجههن (ما تزغدن عارفاتنو يطلع شنو). يا أمريكا خذي الحكمة من جدّي!!