زمان رديء ..وثورةٌ تأكل بنيها حينما وقف أمير المؤمنين عمر الخطاب في فجر الإسلام في منبر المسجد النبوي الشريف بعد توليه الخلافة وقال لجموع المصلين : ((أيها الناس.. ما تقولون لو أني قلت برأسي هكذا ؟؟)) فوقف من المصلين من جرد السيف من جرابه وقال : (( إذاً نقول بالسيف هكذا )) فيبتسم أمير المؤمنين وهو يقول : (( الحمد لله الذي جعل في أمة الإسلام من يقوم عمر )) ..مافعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه هو معيار صادق للشفافية في إدارة شئون الحكم والعدالة في الرعية .. وما فعله ذلك الإعرابي المسلم هو الصدع بالرأي والتعبير عنه بصدق حتي في حضرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله وأحد المبشرين بالجنة . حينما تضيق الدولة وولاة الأمور بالراي المخالف وتعجزها الحجة تلجأ دوماً كدأب الأنظمة الديكتاتورية إلي تكميم الأفواه والإعتقالات وسياسة الإرهاب وهذا يعني بكل بساطة أن الحكومة قد (( أفلست )) وعجزت عن إقناع معارضيها والمناهضين لسياساتها بالتي هي أحسن رغم أن الدفع بالتي هي أحسن يجعل الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم ..ورغم وجود الجيوش الجرارة من المستشارين القانونيين والصحفيين في دواوين الدولة والصحفيين المواليين والمتواليين مع النظام تلجأ الإنقاذ إلي إستخدام أجهزتها الأمنية والعدلية لوأد حرية الرأي والتعبير رغم أن حرية الرأي والتعبير هو حق دستوري لكل مواطن إلا أن الدولة غالباً ما تستعين بنصوصها القانونية الفضفاضة والمبهمة لجعلها وسيلة تحقق بها غاياتها وهي دفن حرية التعبير ووأد الديمقراطية . حكومة الإنقاذ كما يذكر مساعد رئيس الجمهورية ونائب حزب المؤتمر الوطني الحاكم في اللقاء الذي بثه التلفاز القومي في الأيام الماضية لاتشبه الحكومة التونسية (( لأنهم دولة جاءت عبر صناديق الإقتراع )) وذلك يعني لأنها ليست دولة عسكرية أو ديكتاتورية ..فلماذا تجعل المعارضة حينما تصدع برأيها صدرالحكومة ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ؟؟ لست هنا في موضع تقييم لأداء زميل جليل وهو الأستاذ الفاضل كمال الجزولي والذي في يقيني قد بذل جهداً ضافياً وهو يمثل الدفاع في محاكمة الصحفي مدثر علي الأمين ويقيني أنه كان يعلم مآلات تلك المحاكمة ...وإذا صح ما ذكر من أن المواد التي بموجبها قد قدم الأستاذ مدثر علي الأمين للمحاكمة أمامك قاضي جنايات محكمة الخرطوم شمال القاضي مدثر الرشيد هي المواد (50 – 64 – 66 من القانون الجنائي لسنة 1991م) ومن يطلع علي المواد المذكورة فإن المادة التي تجوز الحكم بخمس سنوات أو أكثر هي فقط المادة (50) وهي تتحدث عن الأفعال وليس الأقوال وتقرأ : ((50 من يرتكب أي فعل بقصد تقويض النظام الدستوري للبلاد أوبقصد تعريض استقلالها أو وحدتها للخطر، يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد أو السجن لمدة أقل مع جواز مصادرة جميع أمواله.)) والمادة (64) من ذات القانون تتحدث أيضاً عن العمل علي إثارة الكراهية أو الإحتقار .....إلخ وتقرأ : ((64 من يعمل على إثارة الكراهية أو الاحتقار أو العداوة ضد أي طائفة أو بين الطوائف بسبب اختلاف العرق أو اللون أو اللسان وبكيفية تعرض السلام العام للخطر، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز سنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً.)) وتبقي في لائحة الإتهام المادة (66) وإن صحت فيها الإدانة فإن عقوبتها لاتجاوز الستة أشهر وهي عقوبة وجوبية لايستطيع القاضي أن يحكم أكثر من العقوبة المحددة وتقرأ المادة كما جاءت في القانون الجنائي في الباب السابع الخاص بالفتنة : ((66 من ينشر أو يذيع أي خبر أو إشاعة أو تقرير، مع علمه بعدم صحته قاصداً أن يسبب خوفاً أو ذعراً للجمهور أو تهديداً للسلام العام، أو إنتقاصاً من هيبة الدولة، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز ستة أشهر أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً. )) وأقول إذا كان سبب المحاكمة هو المقال المذكور فهل كانت محكمة الموضوع علي علم بالعقوبة ؟؟ وكيف أثبتت الأفعال والأعمال الواردة في المواد ( 50 – 64) من ورقة الإتهام وماذا كان قرار محكمة الإستئناف والمحكمة العليا في حيثيات ذلك الحكم ؟؟ صدقاً هذه حقائق أجهلها ولا علم لي بها وما أعلمه وفقاً لمعطيات الوقائع وأسباب التهمة فإن عقوبة الأستاذ (( مدثر علي الأمين )) إذا صحت إدانته فهي ستة أشهر وليست خمس سنوات ... وما فعله الأستاذ ((مدثر علي الأمين )) هو ما فعله (( عبد القادر باكاش)) وهو رئيس تحرير صحيفة ((برؤوت )) الولائية وهي صحيفة حكومية تتبع للمؤتمر الوطني بالولاية ومقال ((البيان الأول )) هو صوت خفيض يتنامي يوماً بعد يوم وتردده مجالس الجبنة و(( السكناب)) في فيافي وسهول وجبال ووهاد البحر الأحمر وفي المقال ماخفي ومياه تجري تحت الجسر لا يلتفت لها الحزب الحاكم ولا حكومة المركز كأن الشرق لا يعنيها وهو يعاني من الفقر والجهل والمرض وشح مياه الشرب وغلاء الأسعار وتردي الخدمات الضرورية وتفشي الحميات مجهولة التشخيص وإنتشار الذباب والباعوض ..ومنذ أحداث يناير من العام 2005م وحتي تاريخ اليوم لم تتصالح الحكومة المركزية مع أبناء الشرق وأحفاد الأمير المجاهد عثمان دقنة مع إنهم جزء من الناخبين الذين أوصلوهم لكراسي الحكم. ويبقي الأخ ((مدثر علي الأمين)) و((عبدالقادر باكاش )) هم من أبناء المؤتمر الوطني إختار أحدهم المفاصلة مع شيخه ومضي الآخر في خطي المؤتمر الوطني .. جردا سيفيهما للنطق بالرأي ولم يبتسم ولي الأمر ويحمد الله من جعل في شعبه وناخبيه من يرده إلي جادة الطريق إذا حاد عنها . فهل يضيق صدر الحزب الحاكم ويصبح ضيقاً حرجاً حتي من أصوات ابنائه ؟؟ وهل أصبحت الثورة قطة تأكل بنيها ؟؟ وفي تقديري الشخصي وأنا أكتب هذا المقال ليس مهماً صحة الحكم أو تحقيق العدالة كقيمة إنسانية ولكن المهم أن حكومة الإنقاذ وهي حكومة منتخبة كما يقولون لا زالت تمارس القمع وتكميم الأفواه والإعتقال ضد الشعب السوداني الذي إنتخبها عبر صناديق الإقتراع وعليها أن تبحث حقاً عن أسباب ممارسة تلك الأعمال الوحشية والقمعية ضد ناخبيها ومن أوصلوها إلي كراسي الحكم فمثل هذا السلوك والأفعال لم تفعله حكومة منتخبة في العالم كله ومنذ تاريخ الإنسانية الأول ومثل ذلك المواطن كان حقاً علي حكومته سماع صوته وتحقيق آماله وتطلعاته وليس الزج به في غياهب السجون حتي ولو كان صوته في صندوق الإقتراع ((لا)) لأنه عبر عن إعتقاده .. وحتي لو كان إبناً من أبنائها أو عاقاً صدع بكلمة الحق معبراً عن رأيه في زمان رديء يسمي عهداً ديمقراطياً وفيه تكمم الأفواه.