هناك مقولة شائعة تقول (السودانيون يحبون بعض أكثر من حبهم للسودان، المصريون يحبون مصر أكثر من حبهم لبعض)، ولو فحصنا هذه المقولة لوجدناها صحيحة يسندها واقعنا المعاش. لا ادري لقد تبدل حالنا، أم اعترتنا لعنة السياسة والتسييس الذي دمر حياتنا كلها ومجتمعنا، لقد طالت السياسة كل الفعاليات الحياتية للسودانيين، والسياسة باختصار مهما قيل عنها تسعين في المائة منها كذب ونفاق حسب ممارساتنا لها، فالساسة يقولون ما لا يفعلون، فلنقل معظمهم احقاقا للحق لأن قليل منهم من يصدق مع نفسه وشعبه. وذلك يتضح في مسألة الانتخابات في عهد الديمقراطبات التي تعاقبت على السودان، ففي البرامج الانتخابية تغص قائمة المرشحين بالعديد من البنود (الأجندة) التي يتعهد المرشح بالعمل على تنفيذها حال فوزه بالمقعد، ولكن عندما يضمن وضعه في البرلمان ينسلخ من وعوده وعهوده التي أقسم أمام جماعة دائرته الانتخابية على تحقيقها وتنفيذها وتتبخر الاحلام وتصير سرابا. ونحن منذ استقلالنا لم نجلب الى البلاد والشعب سوي الكلام والكلام والأقوال الفارغة والوعود الكاذبة ... الى ما الى ذلك من عناصر مايعرف ب (الديمقراطية) السودانية. فمعظم الأحزاب التي تغص بها الساحة تحمل توجهات تفتقر الى الممارسة الصحيحة للعمل السياسي، والامر من أساسه تعتوره العديد من المتناقضات التي تحد من عمل تلك الأحزاب بدءا بالهيكل والفكر الأساسي السياسي الذي ترتكز عليه كبنية أساسية، فقد سيطرت بعض القيادات الطائفية على تسيير تلك الأحزاب مهمشة دور غيرهم من القيادات الوسطية التي قد تؤهل مستقبلا لادارة تلك الأحزاب بعد أن تكون تلك القيادات العليا قد شاخت أو أصابها الوهن أو (الخرف) السياسي، وهذا ملاحظ ليس في القطاع الطائفي بل في غيره من بنيات الاحزاب الأخرى الفاعلة في الميدان السياسي، مما أوهن عمل وفعالية تلك الأنظمة السياسية وجعلها حكرا على أقلية (منتهية الصلاحية)، دون تجديد لدماء أفكارها واصابتها بالجمود والتصلب والفقر الفكري المزمن. وتفتقر اجندات معظم تلك الاحزاب الى مسألة الولاء للوطن ولترابه ولسكانه، حيث تغطي فقط جماهيرها ومريدي سادتها بشكل فاضح واضح يستأثر به هؤلاء على نصيب الأسد من الخدمات والمناصب الرفيعة وحتى وظائف الخدمة العامة لن تجد لها من سبيل الا عبر قنوات ذلك الحزب الحاكم وفق معايير ذاتية يأتي على رأسها الولاء للحزب ورجالاته وتنتهك فيه أهم شروط المنافسة الحرة من كفاءة علمية أو أكاديمية عملية وغيرها من عوامل يقرها العرف وتحددها الأصول، مما يترتب عليه ضرر جسيم يصيب هياكل وبنيات الخدمة العامة من جهة ويؤثر سلبا على معنويات الكفاءات الوطنية التي سلب حقها وتم تهميشها واستبعادها جورا وظلما، الأمر الذي يولد الضغائن والاحن بين أبناء الشعب الواحد ويكرس روح الكراهية والتفرقة وسط أفراد المجتمع بل داخل العائلة الواحدة، فيوكل الأمر الى غير اهله وتفسد بذلك الحياة العامة، مما يكون له كبير الأثر على تردي الخدمات العامة وتدهورها وبالتالي انهيارها، وتنهار مؤسسات التعليم العالي لتزعزع تقة المجتمع فيها لاختلال معايير التقييم والاختيار للوظائف العامة للدولة. وفي نظري فان الخلل جسيم يحتاج الى حل جذري في البنيات الأساسية المتعلقة باستراتيجيات الأحزاب وهزة شديدة في بنية المنهج التعليمي التربوي (التربية الوطنية) الذي يغرس و يكرس حب الوطن والولاء له والعمل من أجله وبناء الثقافة ونمط السلوك الذي من شأنه العمل على ترسية ركائز حركة التغييرفي نفوس أبناء الوطن وفي وسط أفراد المجتمع ونسيجه متعدد الأعراق، عليه لابد من بدء حركة اصلاحية شاملة تضع نصب عينيها مصلحة الوطن ثم الوطن ثم الوطن بعيدا عن النعرات القبلية، الحزبية، الجهوية وغيرها مما قد يؤثر على نجاح تلك الحركة الاصلاحية. وهذا بالطبع لن يؤتي أكله بين عشية وضحاها انما يحتاج الى بعض الوقت ليثمر. ولكن في هذه الأثناء يجب الا نقف مكتوفي الأيدي على نحو سلبي بل علينا ان نسعى جاهدين الى عملية التغيير والاصلاح الذي بموجبه يمكن تلافي كل النواحي السلبية التي نعاني منها في شتى مناحي الحياة، ولا ننسى أن يكون السودان دائما في قلوبنا والمصلحة العامة تكون هي محط الأنظار والمطمح الاستراتيجي المنشود، دون النظر الى تحقيق المصالح الذاتية الشخصية المحدودة، وبالله التوفيق.