= التعليم أصبح معادلة صعبة في كل ولايات البلاد بسبب ضعف الإنفاق عليه من قبل الدولة . رغم أن كل بلاد العالم المتقدم قد وصلت للمعادلة الصحيحة القائلة أن التعليم الجيد وراءه إنفاق جيد يضع المعلم - و هو رأس الرمح منه - في المكان الجيد . و قد فهم الناس على مستوى الأسر هذه المعادلة فصارت الأسر تنفق جل دخلها على تعليم أبنائها و لم تخطئ في حصاد النتيجة المرغوبة في نهاية المطاف . و لكن ما زال الجهد المبذول جهد أفراد و أسر و لم يصل بعد ليكون جهد مجتمع و دولة . = في ولاية شمال كردفان تبذل الجهود الواضحة ليل نهار بقصد الوصول للمعادلة المنتجة . و لكن الصعاب لا تفتأ تنهض عند كل منعطف و تظهر مع كل تحرك . و سيكون حديثي حول واحدة من تلك المشاكل العديدة التي ظهرت في السنين الأخيرة . إنها مشكلة تغطية المقرر . و حديثي مقصور على المرحلة الثانوية بولاية شمال كردفان و على ما يدور في الصفين الأول و الثاني فقط . فالمعلوم ان الكتاب المدرسي يجب أن يكتمل تدريسه من الغلاف للغلاف اذا سارت الأمور على النحو الطبيعي . و هذه مسؤولية تضامنية تقع على عاتق المعلمين في الفصول و الإدارات في المدارس و قيادات التعليم في الوزارة و أولياء الأمور و الطلاب على السواء . أما إذا سارت الأمور سيرا غير طبيعي فالنتيجة الحتمية هي عدم إكمال المقررات . = و بالفعل , وقع عدم إكمال المقررات في الكثير من مدارس الولاية منذ سنين و ما يزال . تضافرت العديد من الأسباب لتؤدي لعدم إكمال المقررات . عدم توفر الكتاب المدرسي أحد تلك الأسباب التي تصعب عملية التدريس من جانب المعلم و عملية المذاكرة من جانب الطالب . فإذا حدث نقص في الكتاب المدرسي و كان العام الدراسي غير مستقر ( بمعنى .. نقص أيام الدراسة ) فإن كارثة عدم إكمال المقررات لا يمكن تلافيها . و لكن الكارثة الحقيقية هي ما يترتب على عدم الإكمال من ضعف إعداد الطالب لإمتحان الشهادة الثانوية بوجه خاص و ضعف إعداده للحياه كلها بصورة عامة . = و كان العرف المعمول به منذ سنين عددا في المدارس الثانوية أن الإمتحانات الصفية ( أولى و ثانية ) بكافة مستوياتها توضع بواسطة معلمي كل مدرسة يضبطونها بما يتواءم مع متطلبات التعليم بصورة عامة و مستويات الطلاب المتفاوتة بحكم الضرورة بصورة خاصة . و لكن .. عاما بعد عام تدنى مستوى الجودة لتلك الإمتحانات التي يمكن القول أن بعضها أصبحت توضع لتغطي على ضعف أو إهمال بعض المعلمين , بينما البعض الآخر من تلك الإمتحانات صارت توضع فتسبب الفضيحة للمسؤولين من هول ما كانت تبدو عليه من بُعد عن المهنية و تدني في الإحساس بالمسؤولية . إلا أن الأدهى و الأمَر أن الزمن قد دار دورة كاملة و عمل عمله فأفرز ما يسمى بظاهرة ( تشاهد غدا ) . حيث عمد بعض المعلمين في بعض المدارس لجمع الطلاب في حصة مراجعة قبيل يوم الإمتحان يدفع فيها الطلاب مبالغ مالية تجلب كشف أسئلة الإمتحان للطالب و تجلب دخلا إضافيا محترما للمعلم . و قد قيل أن الحاجة أم الإختراع .. و لكن قيل أيضا .. لو كان الفقر رجلا لقتلته . فالعامل الاقتصادي هو المدمر الأول للإنسان و المجتمع و الشعب . فمن أجل إكمال المقررات و من أجل وقف ظاهرة ( تشاهد غدا ) فكرت وزارة التربية بالولاية في جعل إمتحان نهاية العام موحدا في كل مدارس الولاية . و طلب من كل موجه أن يضع إمتحانا لنهاية العام في مادته يلتزم بالموجهات التربوية و المهنية و يضمن إرتفاع نسبة الجودة . و تغلبت الوزارة على مشكلة التمويل بفرض رسوم على كل طالب نظير أعمال الإمتحان الموحد . و كانت اللجنة المنظمة لهذا العمل الجبار هي إدارة شؤون الطلاب و المدارس . و أثبتت هذه الإدارة أن الكفاءة في الأداء و الجودة في العمل ليست حكرا على الخرطوم وحدها . لقد ثبت أن الولاية مستعدة الآن لإدارة كافة أعمال تصحيح الشهادة الثانوية فعلا و بشكل أفضل من الخرطوم . = بعد بضع سنين , إستطاع الإمتحان الموحد أن يقضي قضاء تاما على ظاهرة ( تشاهد غدا ) و بنسبة نجاح بلغت 100% . و استمر المعلمون في عمل المراجعات و لكن بطريقة موضوعية بعيدا عن كشف الأسئلة الذي ما عاد في مقدور أحد بعد الآن كشفها . و لكن الهدف الثاني - و هو إكمال المقررات - لم يحقق نسبة نجاح تذكر للأسف و لم يغير من الواقع الذي طلبنا تغييره بفكرة الامتحانات الموحدة . و لم يعد البعض من المعلمين يكترث لإكمال المقرر لأنه يعلم أن الأسئلة التي ترد في الجزء الذي لا يدرس يمكن تعويض درجاتها للطلبة في أسئلة الإمتحان الأخرى . و فكرة التعويض هذه لم تكن من إبتكار هؤلاء المعلمين إبتداءا . لقد أفتت بها الوزارة في محاولة منها لمعالجة ما اعتبرته ( حالات منفلتة ) في بعض المدارس و في بعض المواد . و لكن الفتوى سرت كالنار في الهشيم و تحولت من فتوى هدفها رفع الضرر عن الطالب بسبب عدم إكمال المقررات الى آليه للتغطية على عدم إكمال المقررات كهدف في حد ذاته . و صارت هذه الفتوى / أو الآلية من المعلوم بالضرورة مع الامتحانات الموحدة للمعلمين و إدارات المدارس و أولياء الأمور و الطلاب . و إذا كان من المفترض في الإمتحان أن يكون مقياسا صادقا و أمينا لقدرات الطلاب فإن الإمتحان الموحد قد دمر هذه الفرضية تماما . = ثم وصل العلم بكل ذلك الى الوزارة الأمر الذي دفعها للبحث عن معالجة لهذه الثغرات المدمرة التي لا يمكن السكوت عليها . و لكن .. جاءت المعالجة على طريقة ( و داوني بالتي كانت هي الداء ) في فرض المزيد من الأمتحانات الموحدة . و كان القرار توحيد إمتحان نصف العام للصفين الأول و الثاني في كل مدارس الولاية . فأصبحت الوزارة هي ( المالك ) الوحيد لكل الإمتحانات للمدارس . كما تشددت الوزارة في إصدار خطط العمل المفصلة و خرائط الطريق الملزمة للكل .. معلمين و إدارات . و صارت نتائج الإمتحانات تخضع للتحليل الدقيق بقصد تبين مواضع الخلل و من ثم عمل المحاسبة اللازمة . أما المعلمون فقد لهثوا قدر الإمكان لملاحقة المستجدات و تحقيق الأهداف . لكنهم , و بسرعة شديدة , توقفوا عند منتصف الطريق . فقد شعروا أن إستحققاقاتهم المالية المفترض استلامها نتيجة تعديلات المرتب لا يصرفونها رغم محاولات النقابة بمستوياتها المتعددة من الولاية الى المركز في الخرطوم . كما شعروا أن العام الدراسي الذي تتوفر له الأيام و الأسابيع طولا و إتساعا , لا يتوفر فيه الكتاب المدرسي . و لكنهم شعروا بالاضافة الى ذلك بما لم يشعروا به من قبل .. شعروا بما سماه البعض عدم العدالة و عدم الإنصاف و سماه البعض الآخر الظلم و الغبن . شعر المعلمون أن أموال الإمتحان الموحد لا يصلهم منها الا ما أسموه الفتات . فما كان من هذا الشعور الا أن زاد البعض منهم تلكؤا في أكمال المقررات و إمعانا في استخدام آلية التعويض التي أشرنا اليها آنفا . فالمعلم و الادارة و الطالب يدخلون جميعهم على الامتحان الموحد كأنه أمر لا يعنيهم . و صارت المسؤولية و الجدية في التعامل مع الامتحان هي آخر ما يعمل من أجله الكافة . = و مرة أخرى , تسرب العلم بهذا الواقع الجديد الى المسؤولين في الوزارة الذين أجتهدوا كثيرا في معالجة أمثاله مرات كثيرة سلفت . فبدا لهم هذه المرة أن إحكام المراقبة على ما يدور في المدارس كفيل بإعادة الهيبة و الرهبة للامتحان الموحد و التي كان قد فقدها تماما . ففي كل المحليات ينتشر الموجهون على المدارس و يبقون أطول فترة ممكنة لإحداث التأثير الإيجابي المطلوب . و في بعض المحليات جرت محاولات لتكليف الموجهين بما سمي الإشراف على المدارس حيث ينطلق الموجهون معظم الأيام الى المدارس يتابعون سير اليوم الدراسي و يتعرفون على المشاكل التي و قعت أو تلك المحتمل وقوعها فيرفعون التقارير بهذه و تلك الى الجهات المسؤولة لعمل ما يمكن عمله . المفاجأة كانت .. أن الأمور في المدارس في كافة مستوياتها كانت تسير على خير ما يرام الا في تلك المستويات التي إستعصت على المركز و على النقابات فيما عرف بإسترجاع الحقوق المالية المتأخرة , أو تلك التي تحتاج الى حلول إسمها مليارات الجنيهات لدعم البنى التحتية للمدارس , أو تلك التي تحتاج الى إعادة صياغة المجتمع و صنع النظام الجديد الذي يمكن للمعلم فيه أن يصبح هو الرقم الأول و هو الصانع الأول و هو الملهم الأول .. ليس لأنه يريد ذلك .. و لكن لأن المجتمع هو الذي يريد ذلك . و يبدو أن هذا الذي يطلبه المعلم و يطلبه المجتمع ليس - باي شكل من الاشكال - في مقدور الوزارة . و هنا تبرز أهم نظريات الإدارة .. إذا أراد الرئيس - في إدارية ما - إحكام السيطرة على المرؤوسين بحيث يؤدوا العمل الذي يريد و بالطريقة التي يريد , فعليه أولا إعطاءهم ما يريدون و إحقاقهم ما يستحقون . و كما قلنا .. فهذا ليس في مقدور الوزارة . = و نتيجة لذلك فشلت نظرية الإمتحانات الموحدة في معالجة مشكلة عدم إكمال المقررات . ونتيجة لذلك تدمرت آلية القياس التي كان يقوم بها الإمتحان منذ القرون الأولى . نعم , لقد قلنا وداعا لظاهرة ( تشاهد غدا ) منذ سنين .. و لكننا إستبدلناها بظاهرة أن قطاعا كبيرا من المعلمين لم يعد مدربا على وضع الإمتحان الموضوعي بمقاييسه التربوية و مواصفاته العلمية التي كانت معروفة لكل معلم في القرون الخوالي . و اخشى أن نكون قد إستبدلناها بما رأيناه في بعض الولايات - التي سارت على نفس الطريق – من ( تجميل و ترقيع ) للنتيجة بغرض تجنب رد فعل الوزارة الغاضب اذا ما تركت لترى الواقع كما هو . إن معادلة التعليم – حسب الواقع المعاش - ليست فقط معادلة صعبة .. و لكنها .. أيضا .. تزداد صعوبة مع صباح كل يوم جديد . = معادلة التعليم الصعبة .. في شمال كردفان بقلم / نوري حمدون – الأبيض – السودان nuri hamdoon [[email protected]]