العالمون ببواطن الأمور ، العارفون بخباياها ، والمتبرعون بالنصائح وما أكثرهم يقولون إنّ أقصر طريق إلى قضاء الحوائج في دواوين الحكومة وأقله زمناً يمرُّ عبر " ست الشاي " الجالسة تحت ظل النيمة أمام بوابة أيّة مصلحة حكوميّة ، فهي إمّا أن تُنجز لك معاملتك وإمّا أن تجد منها رائحة طيّبة ، رائحة الشاي بالنعناع والقهوة بالزنجبيل ، أو عبر " المراسلة " وهو أكثر خبرة من ست الشاي وأدنى منها قرابة إلى الموظفين وإن كانت هي أبعد منه شبهة وأجدر ألّا تُتهم ، وما حكّ جلدك مثل جيبك ! وإذا أردت "الملطشة " واستشعار الذّل والنظر إليك بعين الاستغراب ، فدونك السبيل التي اعتاد النّاس في كل بلاد الدنيا أن يسلكوها في قضاء حوائجهم وإنجاز معاملاتهم ، فإن فعلت ذلك فإنّك بلا أدنى شك " مثالي " تتعامل بقيم عفا عليها الدهر وأتت عليها العولمة ، ووطئتها سنابك خيل الإنقاذ ، وربما وُصفتَ بأنّك " ناشف وما فيك كدّة " و أشد ما يزعج موظف الدولة ويضايقه أن يعلم أنّ بينك وبين أحد الساسة الكبار و رجال الدولة التنفيذيين صلة قرابة أو زمالة فإنك بصلتك هذي تحرجه غاية الحرج وتعرّضه لامتحان عسير وتجعله بين أمرين أحلاهما مرّ ، فهو إمّا أن يقضي لك حاجتك فيسلم ويفوته صيد سمين وإمّا أن يمتنع فيعرّض نفسه للمساءلة التي ربما تنتهي به إلى سلة الصالح العام ، ولكن الخبثاء من الموظفين أصحاب الخبرة يسلكون سبيل غيرهذه المغامرة فهم يشبعونك تسويفاً وتطويحاً وتعليقاً ويحتالون عليك بأنواع الحيل ، ويأتونك من قوانين العمل ولوائحه ما يحول بينك وبين حاجتك أو يؤخّرها حتّى تياس فتترك الأمر أو تستسلم وتسلّم معاملتك إلى " ست الشاي " ، وما حكَّ جلدَك مثل جيبك ، وربما كنت مغترباً قد انقضت إجازتك وحفت قدماك وأدماها السير ولم تنجز شيئاً فتغادر وطنك مردداً مع شاعرنا " ملعون أبوك بلد " ! الموظف في السودان ينظر إلى المواطن نظرة استعلاء ويعامله معاملة من له فضل عليه ولا يحدثه إلاّ ريثما يصرفه ، ولا ينظر في معاملته إلّا ليبحث عن سبب يردها به وما أكثر هذه الأسباب ، وربما رمق صاحب المعاملة بنظرة حسد إن كان في معاملته ما يعود عليه بمال وفير أو كانت على سيماه مظاهر الثراء معبراً عن هذا الداء الذي يأكل دخيلته تصريحاً أو تلميحاً . لقد كنت أحسب وأنا خارج السودان أنّ المعارضين يبالغون في تصوير مظاهرالفساد ويضخمونه وكذلك يفعلون ولكنهم إن كانوا يعنون بالفساد ما أراه في دواوين الحكومة من مماحكات ومساومات وأساليب تجعل المواطن في دولة الشريعة يضطر للبحث عن مخرج فقهي يبيح له الرشوة لإنجازمعاملته فقد جهلوا حجم هذا الفساد وما فقهوا أساليبه فالأمر أكبر ممّا يظنون وأعظم ممّا يتصوّرون ، وما قصّروا في تصويره إلّا لأنهم هم أدنس يداً ممن ينتقدون ، وما ولجوا باب محاربة الفساد إلا من أجل الكيد السياسي فحسب . الولاة والوزراء الاتّحاديّون والولائيّون ومن أؤتمنوا على مرافق الدولة لا عذر لهم فيما يشاع من فساد في وزاراتهم والأقسام التابعة لها ، وإن طهُرت أيديهم ، فأكثرهم يسكتون عن هذا الفساد وبعضهم يسميه بغير اسمه ويحتال بعضهم على الشرع ليحله وأخرون يطلبون الدليل على الفساد من المواطن ، ومنهم عاجزون عن محاربته وتعوزهم القدرة على اتّخاذ القرارات الحازمة التي تحفظ للدولة هيبتها وللخدمة المدنية سطوتها واحترامها ، وليس سبب ذلك دائماً ضعف شخصيّة المسؤول أو قلة خبرته فيما أُوكل إليه من عمل بل سببه نظرة جديدة شاعت بين بعض المسؤولين فهم يفضلون الموظّف الموالي لرئيسه` وإن فسد وضعف أداؤه على المعارض أو صاحب الرأي المستقل وإن طهُر وحسُن أداؤه ، فالموظف الفاسد أجدر بأن يظل على ولائه لرئيسه ولا يكيد له ! وأمّا الولاء للفكرة أوالنظام الحاكم أوالسابقة في العمل الإسلامي فمما يجر الوبال والبوار وربما الدمار على صاحبه فالمسؤول الذي اكتنز مالاً وامتلأ لحماً و نزّ شحماً لا يريد أن يرى من يذكّره بأيام لا أعاد الله سيرتها ولا حرمه من أجرها. كثير من موظفي الدولة سماسرة يصطفقون في الأسواق وقلّ أن تجدهم في مكاتبهم ولا يحرصون على وظائفهم إلا إذا كبُر راتبها وكثرت حوافزها أو كانت هي نفسها من أعظم أسباب السمسرة . وبعض كبار الموظفين ممن جعل الله تحت إداراتهم وتصرّفهم مالاً كثيراً ومنافع للنّاس لهم سماسرة خاصون ينوبون عنهم في لحس جيوب النّاس ولهم المرباع ممّا يكسبون و لا يجدون حرجاً أن يحلفوا لك أنهم وسطاء خير وشفعاء لا يصيبون ممّا يلحسون إلا شيئاً قليلاً مقابل جهدهم ، وهل يكون جهد بلا مقابل ! وأكثر الموظفين في دواوين الحكومة لا يحترمون المواطن ولا يلقون إليه بالاً إذا جاء باللبس القومي ( الجلابية والعمامة ) فهو عندهم جاهل أو " عربي ساكت " لا يعرف حقوقه ، ومن جهل حقوقه فهو بعمولة الموظف أجهل وبسقوط حقه أجدر ! و كثير من هؤلاء الموظفين يفتقرون إلى المهنية وقلة الرغبة في التدريب والتعلّم فكم من مدير أمامه أحدث جهاز حاسوب لا يعرف كيف يتعامل معه ، وبعضهم يظن أن ذلك من عمل السكرتيرات ولا يجوز في حقّ الفحول من رجال الخدمة المدنيّة ! ولو التفتت وزارة الموارد البشريّة إلى التدريب وأشاعت ثقافته وبيّنت أهميّته في نهوض الخدمة المدنيّة وسعت في توفير المال والرجال له لأدت بذلك خدمة عظيمة للبلاد وللإنسان السوداني . ساقني قدري إلى مكتب مدير مصلحة في إحدى المحليّات في إحدى الولايات المغلوبة على أمرها فسألته عن معاملة كنت قد أعطيته إيّاه لسبعة أيّام خلت فقال : إنت سلّمتها لمنو ؟ سلّمتها ليك إنت . طيّب أمش شوفها عند منو من الموظفين وجيبها . وكيف أعرف الموظّف ؟ إنت عايزني أمشي أجيبا ليك أنا لا ، ولكن عندك مراسلة وسكرتيرة ! المراسلة غائب والسكرتيرة مشغولة . خلاص أمشي ونحن حانرد على الجهة الجبت منها الجواب وما حانسلمك الرد في يدك . وأخيراًً سمعت إحدى الموظفات هذا الحوار ، ويبدو أنها على علم بحماقته ، فدخلت المكتب وسالتني عن اسمي وتاريخ المعاملة ونوعها ثم ذهبت وبحثت عنها وأخرجتها من وسط الملفات الكثيرة وأتت بها ولكنّا كأنّا ياعمرو لا رحنا ولا جئنا ولا ضاعت إجازتنا نركض خلف أمر أحقر من أن تهدر من أجله الكرامة وتغبّر في سبيله الأقدام . والمواطن لا يذل أمام المسؤول وحده فحسب بل يبدأ ذلك من البوابة الرئيسة ففيها حارس ليس كمن عهدنا من قبل فهو يتزيّا بزي رسمي يتبع إلى شركة أمنيّة ولكنه أصبح بسبب ممارسات مدير مكتب الوزير أو الوكيل درقة لهذاالمدير يتّقي به سخط العامة والمسكين يكذب ليمنع العامة عن المدير ، ولا يدري أنه يبيع آخرته بدنيا مديره ، فالمدير عنده دائماً لم يأت بعد أو مشغول أو خرج في مشوار لا يدري أحد متى يعود منه ! وربما قال لك : اليوم الخميس وهو يوم إداري ، واليوم الإداري عند مبتدعة دواوين الحكومة يعني عدم العمل مع الجمهور والله المستعان . وإذا قُدّر لك بعد شق الأنفس أن تدخل إلى مدير مكتب الوزير أو الوكيل فستجد فهمه لإدارة المكتب ليس بأفضل من الحارس ، فهو يحجب الوزير بالحق أو الباطل فالوزير دائماً ليس في مكتبه أو في جولة على الأقسام خارج الوزارة أو في اجتماع أو إيش موضوعك وسأعرضه على الوزير حين عودته ، وإيّاك أن تصدقه فتعطيه أوراقك فإنه سيكون هذا آخر عهدك بها . أمّا مقابلة بعض الولاة فهذا لا مطمع لمسكين فيه . والوزارات قبائل وأقسامها بطون وأفخاذ ، والموظفون فيها كبارهم وصغارهم يظاهر بعضهم بعضا في الباطل ، ويرفعون شعار "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" بمفهومه الجاهلي فلا يجد المواطن من يزيل شكاته إذا اشتكى ، ولا يسألونه عمّا جاء في شكواه برهاناً ، فهو عندهم كاذب وإن صدق مخطيء وإن أصاب والله المستعان .