Email: [email protected] د. عباس محمد السراج طبيب نفسى - بريطاني قادنى البحث الى أن أعرف أن ابانا ادم – عليه السلام – هو أول من اغترب . وكما هو معلوم فأن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق ادم اسكنه هو وزوجه الجنة . قال تعالى : (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)(1) . و لا يوجد نزاع بين العلماء فى هذا ، ولكن اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء ؟ وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد ؟ أو جنة أخرى؟ فقال ابو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني هذه الجنة في الأرض وحملا الأهباط على الأنتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ (2) ، ثم أوردوا حججا اخرى (4) – لن ندخل فى تفاصيلها - ولكن الذى عليه جمهور الائمة والمفسرين أن الجنة المذكورة هى جنة الخلد ، التى سيدخلها المتقون يوم القيامة ان شاء الله . وهذه الجنة مخلوقة وموجودة الان فى مكان ما من هذا العالم الواسع الكبير . و لم يزل أصحاب رسول الله والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد ، على اعتقاد ذلك وإثباته . مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم فإنهم دعوا الأمم إليها وأخبروهم بها . ولم يشذ عن ذلك الا شذاذ الافاق سواء فى ذلك الزمن ، أو فى زماننا هذا من المعاصرين الذين يعشقون كل شاذ وغريب ، ممن أدمنوا احداث الفرقعات الجوفاء ، دون سند أو دليل . ولهذا يذكر السلف في عقائدهم أن الجنة والنار مخلوقتان . والذين صنفوا فى المقالات من علماء الاسلام يذكرون أن هذه مقالة أهل السنة والحديث قاطبة لا يختلفون فيها ، فهذا هو الامام أبو الحسن الاشعري في كتابه ( مقالات الإسلاميين واختلاف المضلين) يقول :( جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله لا يردون من ذلك شيئا وأن الله تعالى اله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبه ولا ولدا وان محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله تعالى على عرشه كما قال ( الرحمن على العرش استوى ) . وقوله أن الجنة حق . يعنى انها مخلوقة وموجودة الان . وكذلك النار . وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المآوى ) (4) . وقد رأى النبي سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأسراء . وفي آخره ( ثم أنطلق بي جبريل حتى أنتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدرى ما هي . قال ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ) . وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله ( قال أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، أن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وأن كان من اهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى يوم القيامة . والاحاديث التى وردت فى هذا الباب كثيرة . ومن اراد التوسع فليعد اليها فى موضعها . فهذا ليس غرضنا من هذا البحث ، ولكن غرضنا أن نقول بان ابانا ادم كان موطنه الجنة وأنه عاش فيها الى ما شاء الله له أن يعيش ، حتى حدثت فتنة ابليس ، التى بسببها قال الله تعالى لهم (قلنا اهبطوا منها جميعا)(3) فغادروا على وجه السرعة . اذن خرج ابونا ومعه امنا . وخرج معهما ابليس اللعين . وحكاية ابليس هذا ، حكاية يجب ان تروى من جديد . لأننا – كما سنرى لاحقا - لعب و لا يزال يلعب دورا محوريا فى تنغيص كيان البشر ، وتقليب مواجعهم ، وافساد أمزجتهم ، دون كلل أو ملل . ولئن أغفلت كتب علم النفس الحديث الاعتراف به ، أو الاشارة اليه ، فذلك بسبب خلل رهيب فى طرق ومنهجية البحث والدراسة فى ذلك العلم – كما سنوضحه لاحقا ان شاء الله - . فالشاهد فى الأمر اذن أن ادم ليس من أهل الارض ابتداءا . وكل الذى يربطه بها هو أن عنصر خلقه – اى التراب – قى جىء به من الأرض ، كما قال تعالى ( منها خلقناكم ، وفيها نعيدكم ، ومنها نخرجكم تارة اخرى ) (3) . أما بداية خلقه ، وحياته الأولى فلقد كانت فى مكان اخر بعيد ، اسمه ( الجنة ) . كيف كانت حياة ابينا فى الجنة ؟ ، وكيف كان يقضى أوقات فراغه ؟ ، وكيف كان مأكله ومشربه ؟ ، وكيف كان سعيدا هناك ؟ ، فهذا كله من الأمور المعروفة بالبداهة ، فلن ندخل فى تفاصيلها هنا . ما يعنينا هنا ، هو كيف كانت حياته فى غربته ؟ . كيف أمضى ايامه ، ولياليه ، حزينا ، متعبا ، وكئيبا ؟ . كيف حاول أن يتكيف مع البيئة الغريبة الجديدة ، والتى وجد نفسه فيها فجأة وبدون أى مقدمات ؟ . أنا لا اريد أن اعيد سرد التاريخ . ولكنى معنى فى المقام الأول بمحاولة تفسير التاريخ تفسيرا نفسيا . وغايتى فى ذلك ان اصل الى المنهج الذى اتبعه ابونا ادم ، فى التغلب على الصعوبات النفسية التى مر بها فى عالمه الجديد . وفى ذلك بصر لكل صاحب نظر . وأرى ان النتائج المستخلصة من ذلك ، يمكن أن تشكل لنا منهاجا وشرعة نسلكها فى امر الغربة ومصاعبها الكثر ، ومشكلاتها العويصات . ويجب أن لا نتأسف أبدا على أن القران الكريم أغفل الحديث عن الفترة التى اعقبت نزول ادم . أو المصاعب الحياتية الكبيرة التى واجهته . ولا عن الابتكارات التى ابتكرها والابداعات التى ابدعها فى سبيل التخلص من مصاعبه الحياتية . فهذه الاشياء وان اهتم بها علم الانثروبيولوجى ، وعلم التاريخ ، وخصوصا علم التاريخ الاجتماعى ، وبدرجة أقل علم نفس المجتمع ، فان القران الكريم أهملها ، لأنها لا تشكل أهمية كبيرة فى الهدف ألاساسى من نزول القران ، وذلك لأنه اصلا كتاب هداية ، يهدى الى التوحيد والتقوى فى المقام الأول . ولا يعنى بسرد التاريخ الا اذا كانت الحكاية المسرودة تتصل بهذا الهدف الآسمى اتصالا مباشرا . واذا تأملنا كل القصص القرانى، نجدها وردت ضمن هذا السياق . وخدمة لهذا الهدف حصرا . ولكن هناك قصة مهمة وردت فى القران الكريم ، وقعت احداثها فى السنوات الأولى من اغتراب ابينا أدم . يجب التوقف عندها بتفصيل كبير . وفى ظنى ان الله سبحانه وتعالى ذكرها بتفاصيلها ، لما فيها من الدلالات النفسية ، والاجتماعية ، والتربوية . هذه القصة هى قصة هابيل وقابيل . هذا وبالرغم من أن المفسرين ، وعلماء الفقه ، وعلماء التصوف والسلوك ، قد وقفوا فى هذه القصة وقفة طويلة ، وتناولوها بالشرح ، والتعليق ، الا انهم تناولوها من جانبها التاريخى ، والاجرامى ، والانحرافى . وفى ظنى ان الجانب النفسى – الذى لم يتكلم فيه أحد – حسب علمى – على قدر كبير من الأهمية . وهذا ما سوف أحاول تجليته وسبر غوره ما أمكن الى ذلك سبيلا . وهو موضوع حديثنا فى المقالة القادمة ان شاء الله . ما ظنكم ايها السادة ، برجل وأمرأة هبطا من الجنة لتوهما ، مغضوبا عليهما . يلفهما الحزن والأسى . ويملأؤهم احساس بالذنب كبير . ولكن ، ولأنه ادم ، كان احساسه بالذنب اكبر من شعوره بالحزن على فراق وطنه - الجنة - . كان أكبر همه هو أن يتوب الله عليه . ولما جاءت التوبة والغفران بدأت رحلة الغربة والخوف والعذاب . لم اعثر عند علماء الاسلام على اى اثر يتحدث عن غربة ابينا ادم ومعاناته تلك . على غزارة المواضيع التى كتبوا فيها . اللهم الا من اشارات عابرة وردت فى قصيدة يتحدث فبها الامام ابن قيم الجوزية عن فضل الجنة ونعيمها . أوردها فى كتابه المسمى ( حادى الأرواح الى بلاد الأفراح ) . وفى القصيدة يعدد حسنات الجنة وما أعده الله سبحانه وتعالى لعباده من النعيم المقيم . وفيها ابيات تتحدث عن أننا غرباء فى هذه الدنيا . نعيش فيها كأسرى حرب عند ابليس ومن ثم ويحفزنا أن نجد العمل ، ونحاول ان نتخارج من هذا الأسر كى نعود الى أوطاننا الأولى – الجنة – ونسلم من هذا العذاب . القصيدة جميلة وطويلة . سوف أذكر هنا تلك الابيات التى تعنينا فى هذا الأمر . ومن اراد الاستزادة فليرجع اليها فى كتابه المذكور أعلاه . يقول ابن القيم : وأن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ولم يك فيها منزل لك يعلم فحي على جنات عدن فأنها منازلك الأولى وفيها المخّيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي إغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم ...... ...... فيا بائعا هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك معصية وإن كنت تدري فالمعصيبة أعظم (4) ابن القيم يرى أن أى حديث عن غربة الأوطان ، يتوارى خجلا أمام غربتنا الأم ، غربتنا الكارثة ... غربتنا الأصل التى فارقنا فيها جنة الرضوان . أما فحول الشعر العربى فلم يتحدثوا كثيرا عن تجربة ابينا ومعاناته فى الغربة . ولعل ابلغ ما وصلنا هو قول ابى الطيب المتنبىء أبوكم ادم سن المعاصى وعلمكم مفارقة الجنان .... ولو كان قال : ابوكم ادم سن الاغتراب وعلمكم مفارقة الاوطان ... لكان أبلغ ، أدق وأليق ....والله أعلم . 1- سورة البقرة ايه 35 2- سورة البقرة اية 61 3- سورة البقرة اية 38 4- حادى الأرواح لبلاد ألفراح – ابن قيم الجوزية . نواصل ان شاء الله .