طفل لم يتجاوز التاسعة من العمر، و قد كان حينها طالباً في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية؛ ذات يوم طلبت منهم إدارة المدرسة إحضار عشرة قروش دعماً لواحد من أنشطتها.أخطر والده بذلك، و بحكم مهنته دلف الأب عصر ذلك اليوم إلى مقر الصحيفة التي كان يعمل بها ليفاجئ مدير المدرسة بمقال رصين في صبيحة الغد. لم تمر ساعة من اليوم الدراسي حتى دخل المدير الفصل و أمر الطالب بالحضور إلى مكتبه. دخل صاحبنا مكتب المدير و هو يرتعد من الخوف و الحرج ولكن يا للمفاجأة فقد بدا المدير مضطرباً تبدو عليه علامات القلق والانهيار المعنوي. بادر المدير بسؤال الطالب: يا الطاهر حسن التوم ما هذا الذي فعلت؟ هل طلبت منك شخصياً إحضار أي مبلغ من المال؟ وما هذا الذي كتبه أبوك؟ لم يكن الطاهر يدرك ما حدث حتى تلك اللحظة ولكن مدير المدرسة أشار إلى الصحيفة واضعاً يده على عنوان المقال. علت الدهشة محيا الطفل الذي أصيب بارتباك شديد ولكنه أدرك في تلك السن المبكرة أن الصحافة شيء مخيف للمديرين و متخذي القرار. هذه القصة الواقعية دليل قاطع على ما يمكن أن تحدثه الصحافة والإعلام عموماً في سلوك الحكام و وولاة الأمر والمجتمع بشكل أوسع ولذلك حق لها أن تسمى بالسلطة الرابعة. و إذا كان ذلك المقال قد غير من طبع المدير وسلوكه تجاه الطلاب إذ لم يعد يزمجر ويتوعد كما كان يفعل من قبل فما بال ما تقوم به مواقع التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية خاصة موقع "الفيس بوك" الذي كان السبب المباشر في إزكاء الثورات الشعبية التي تطالب بالحرية و الديمقراطية والشفافية و العدالة و حكم القانون و محاربة الفساد في عدد من الدول العربية الآن. ولقد شاهد العالم كله ما قامت به قناة الجزيرة من نقل حي و مباشر لصور الثورات العربية من تونس و مصر و ليبيا و اليمن و سوريا وغيرها حتى تعرضت مكاتبها للإغلاق و شوشت أجهزة المخابرات العربية على إرسالها عبر الأقمار الصناعية . وليس بعيداً عنا ما فعله موقع ويكي ليكس من فضح لسياسات الدول الغربية حتى لجأت لملاحقة صاحب الموقع قضائياً على الرغم مما تدعيه من حرية صحافة ونشر ولكن قد ثبت أنها تضيق ذرعاً عندما لا يكون استخدام الصحافة و الإعلام في صالحها. و أنظر كيف استخدم الإعلام المغرض لتلفيق التهم ضد قادة السودان بسبب الفتنة في دارفور؛ وكل ذلك محض هراء ما كان له أن يجد أذناً صاغية لولا آلة الإعلام الغربي الضخمة التي تستخدم لتخويف الناس وإذلالهم من أجل تمرير أجندة باتت مكشوفة للجميع. وبالنظر إلى الصحافة والإعلام في السودان حدد الطاهر التوم في منتدى رابطة الإعلاميين بالرياض جملة من المشاكل يعتقد أنها قد قعدت بالإعلام السوداني وأضعفت دوره تماماً. فكثير من وسائل الإعلام المرئي والمسموع تميل إلى بث الطرب و الترفيه دون نشر الثقافة و الفكر والأدب والعلم و خدمة الوطن، مع جمود ملحوظ و ضعف في الأداء والبرامج ناتج عن عدم التدريب والممارسة المهنية الرفيعة وغياب الخبرة الإعلامية المطلوبة. كما أن أجهزة إعلامنا لا تعنى بمعرفة آراء الناس و توجهاتهم إلا عبر استطلاعات ضعيفة لبعض البرامج حسب الحالة وفي مناسبات محدودة و هذه تستهدف فقط عامة الناس دون خاصتهم من الطلائع المستنيرة. و ليس هنالك دور للإعلام في خدمة الاقتصاد والسياحة والتعليم العالي و غيرها من المجالات الحيوية. من ناحية أخرى ما زال الإعلام السوداني حائراً بين المهنية وقبضة الإعلان و معلوم أن النظرة التجارية و محاولة كسب المعلن وإرضائه تحد من حرية الإعلام و الصحافة ذلك لأن الإعلان يجعل هذه الأجهزة تتنازل عن مهنيتها. أما الصحافة السودانية فلها عللها المزمنة أيضاً؛ أولها وجود الصحافة الحزبية الفاشلة ذات النظرة الضيقة و وقوعها تحت الوصاية مما يحرمها من ممارسة دورها في مناقشة قضايا الوطن المصيرية بكامل حريتها. هنالك "شللية" في الصحافة السودانية حرمت الناس من كثير من الأقلام المبدعة و المستنيرة وعلى حد قول أحد الحضور فإن الصحف السودانية بهذه الممارسة الصحفية الضعيفة و غير الملتزمة بقضايا الناس تشتري لك تذكرة طرد من الوطن و لذلك فقد الناس الثقة فيها. و من أكبر المشاكل عدم وجود دار أو شركة توزيع و ليس هنالك دور نشر و طباعة محترفة حتى تحسن و تجيد إخراج الصحف بطريقة حديثة تليق بصحافة عريقة مثل الصحافة السودانية. حتى صياغة الخبر الصحفي تعتمد على الانطباع الشخصي وليس المهنية و تعاني الصحف من تدني كبير في مستوى اللغة و تميل في بعض الأحيان إلى استخدام اللهجة العامية أو الدارجة خاصة في عناوين المقالات حتى تجذب القارئ و هذا مرده لعدم التدريب و تدني المهنية مع انعدام المؤسسات الصحفية الكبيرة التي من شأنها أن تحسن من الممارسة الصحفية الفاعلة و المؤثرة في المجتمع حتى تلعب الدور المنوط بها. نحن نريد إعلام وطني فاعل ليس مطبلاً للحكومة و إنما ناقداً بموضوعية يعمل على تصحيح الأخطاء و المساهمة في الشأن الوطني، و يلتزم بعدم التعرض لقضايا تمس أمن الدولة و الأمن الاجتماعي و من أجل هذا لابد أن يكون الإعلامي و الصحفي مهنياً بالدرجة الأولى و لذلك يلزم تطوير الفرد الصحفي والإعلامي السوداني وتأهيله مهنياً و فنياً مع إعطائه الفرصة للحصول على المعلومات الصحيحة بكل حرية إذا كنا نريد النهوض بصناعة الصحافة والإعلام في السودان بعيداً عن مقص الرقيب و سيف السلطة و قبضة الإعلان . بقلم/ محمد التجاني عمر قش- الرياض