إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدستور؟! (3) .. بقلم: د. عمر القراي
نشر في سودانيل يوم 03 - 09 - 2011


ماهي الشريعة؟!
جاء عن معنى كلمة شريعة (شرع يشرع شرعاً وشروعاً: تناول الماء بفيه. وشرعت الدواب في الماء أي دخلت. والشريعة والشراع والمشرعة المواضع التي ينحدر الى الماء منها... والشريعة في كلام العرب مشرع الماء وهو مورد الشاربة). فالشريعة لغة، تعني المدخل أما من حيث المصطلح، فهي تعني الأحكام المتعلقة بالعبادات، والمعاملات، والعقوبات، التي بممارستها يدخل الإنسان الى الدين.. فهي إذن قاعدته، والمدخل إليه.. والعبادات والحدود، أقرب الى روح الدين، التي يمثلها التوحيد، وهي، من ثم، موظفة لتهذيب نفس الفرد.. والنفس البشرية قديمة، وسابقة لنشأة المجتمعات، ومأثرة فيها، ولم يكد يجري تغير في جوهرها.. ومن هنا، كانت العبادات- ما عدا الزكاة ذات المقادير – والحدود، ثابتة في مبناها، لا تتغير، وإن تم تطور الافراد في مضمار العبادات بفهم مراميها، أو المجتمعات في مضمار الحدود، بدرئها بتطور العلم واتساع دائرة الشبهات.. أما تشاريع المعاملات، فإنها متغيرة، متطورة، لانها تعتمد على النظم التي تقوم على العقل البشري، وهو في حركة دائبة، بفضل الله، ثم بفضل العلم المادي التجريبي.. ولما كانت شرائع الأديان، قد جاءت لتنظيم المجتمعات، فإنها قد تأثرت بمستوى حاجة، وطاقة تلك المجتمعات، وإختلفت باختلافها، الذي جرى في الزمن.. قال تبارك وتعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). هذا بينما ظل التوحيد باق على مر الزمن لا يختلف، وإن تفاوت الناس في فهم أبعاده، وتحقيقه.. وإلى ذلك إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي لا اله إلا الله).
ولقد تنزلت شرائع الاديان، الى الأفراد والمجتمعات، من كلمة التوحيد، وجعلت موظفة لتحقيق هذه الكلمة في سلوك الأفراد، وفي تنظيم المجتمع.. وفي هذا المضمار، فإن العبادات وقيم الأخلاق أقرب الى كلمة التوحيد، من قوانين المعاملات في المجتمع، على نحو ما ذكرنا أعلاه.. وعندنا في الإسلام، نجد ان بعض تشاريع المعاملات أقرب للتوحيد من غيرها.. ولهذا أعتبرت أصول. ومن هذه الأصول تنزلت تشاريع أخرى، كانت أبعد من التوحيد، فاعتبرت فروع. والميزان لذلك هو الحرية.. لأن المعنى الحقيقي لكلمة "لا اله الا الله"، هو: لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها إلا الله.. فإذا استقر هذا المعنى في القلوب، تحرر صاحبه من الخوف والطمع، فأصبح بذلك حراً.. ولا تتأتى الحرية للأفراد، عموما، إلا بقيام نظم المجتمعات على تشاريع توقف الظلم، وتحقق العدل، بالقضاء على أسباب الصراع حول الثروة، والسلطة، بتوفير المساواة الإقتصادية، والمساواة السياسية.. فالتشاريع التي حوت الحرية هي الأصول، لأن غاية كلمة التوحيد هي تحرير الإنسان من رق الأشياء، وإخلاص عبوديته لله.. والتشاريع التي لم تحو الحرية، بل صادرتها عند طريق الوصاية، هي الفروع. وإنما اعتبرت فروع متنزلة عن الأصل، لأنها حكيمة في وقتها، وبها تدرجت المجتمعات نحو الأصول.. ولقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة، يدعو الى التوحيد، وماتنزل عنه من أصول من عبادات، ومكارم أخلاق، دون أن يفرض وصاية على القرشيين، الذين كانوا يعبدون الصنم، ويقطعون الرحم، ويئدون البنات. بل كان يدعوهم الى الإسلام بالتي هي احسن، ويعطيهم الحق في قبول الدين أو الكفر به، هاديه في ذلك قوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) وقوله (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) وقوله (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) وقوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) والكثير مما ورد في القرآن المكي، وطبقه النبي الكريم بالاصرار على الدعوة وتوصيلها للناس- وفيها خير معاشهم ومعادهم- دون أذى، بل كان يتحمل أذاهم، دون ان يدافع عن نفسه، أو عن اصحابه، الذين يمر بهم وهم يعذبون، فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)!! هذه المرحلة، التي بدأت بالبعثة، واستمرت على مدى ثلاثة عشر عاماً، أرست جوهر الإسلام، الذي يقوم على المسئولية، والحرية، والمساواة بين جميع البشر.. في تلك المرحلة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).. وفيها كانت الدعوة بالحسنى، إتباعاً للامر الإلهي (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). ورغم ان الدولة لم تقم في تلك المرحلة المكية، فإن القرآن قد حوى تعاليم عامة، يمكن ان تعتبر دستوراً، وتستمد منها تشاريع الديمقراطية والإشتراكية والمساواة الإجتماعية، والحرية، والسلام، وقبول الإختلاف، والتعدد في الوطن الواحد.. ولكن علماء المسلمين السابقين واللاحقين، لم يعتبروا المرحلة المكية مرحلة تشريع، وإنما اعتبروها مرحلة ترسيخ الإيمان، والأخلاق الرفيعة.. ولعل السبب في ذلك، هو ان المسلمين كانوا قلة مستضعفين، ولم تقم لهم دولة، ومن ناحية أخرى، كان سائر القرآن المكي، يوجه بصور عامة لا تحوي التفصيل الذي يقتضيه التشريع.. وفات على سائرهم، ان القرآن المكي، حوى ثلثي القرآن، وان التركيز عليه، كان بسبب انه الأصل، وأن فيه جوهر الدين، وأصل التشريع. ومن ابرز علامات القرآن المكي، ان الخطاب وقع فيه بلفظ "يا أيها الناس" أو "يا بني آدم" ما عدا سورة البقرة والنساء.. في حين يقع الخطاب بلفظ "يا أيها الذين آمنوا" في عموم القرآن المدني، ما عدا سورة الحج.. ومن علاماته أيضاً انه لم يرد فيه خبر عن المنافقين، لأن الدعوة للدين قد كانت بالحسنى، ولم يعلن الجهاد بالسيف، حتى يدخل البعض الإسلام خوفاً، فيظهروا الإسلام ويبطنوا الكفر..
نسخ الأصول وإحكام الفروع:
على ان المستوى الرفيع الذي جاء به القرآن المكي لم يُقبل من كفار قريش بل انهم تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه فدلوا بهذه الفعلة الشنعاء إنهم دون المستوى الذي قُدّم لهم، وأنهم لا يستحقون المعاملة الإنسانية الكريمة.. فأُمر النبي الكريم بالهجرة وبدأ التدرج في نسخ القرآن المكي العظيم والتمهيد لقتال غير المسلمين بالاستعدادا للمواجهة، ثم أذن له في القتال بعد تدرج وئيد، كان من وجوه الحكمة فيه إنضاج الرعيل الأول من الأصحاب.. فهم بعد أن جاهدوا أنفسهم بالصبر والإحسان في مقابلة الأذى، وتحمل الظلم والقهر، واتقنوا العبادة واللجأ إلى الله، امتحنوا بالهجرة عن أرضهم، وترك أهلهم وذويهم، وكل ما يملكون ورائهم، فرارا إلى الله بالتجرد له، وتفريغ البال مما سواه. وبعد أن نجحوا في الاستفادة من هذه التربية العظيمة في التوكل على الله، والصبر والتواضع، أصبحوا مأذونين في ترشيد غيرهم وحملهم على مصلحتهم بالقوة، ولهذا أعطوا حق الوصاية على الكافرين، وفرض عليهم جهادهم.
و لعل أول ما ورد به الخطاب الإلهي في أمر الجهاد هو عدم موالاة الكافرين، من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).. ولم يقصد المشرع بهذه المعاملة، كل الذين كفروا، وإنما عنى بالتحديد، الذين قاموا بإخراج المؤمنين من ديارهم واضطروهم للهجرة.. و لذلك يقول من نفس السورة (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).. ويجدر بالملاحظة إن هذه الآيات، لم تأمر بقتال الكافرين، رغم إخراجهم للمؤمنين وذلك لأن الإذن بالقتال لم يجيء إلا بعد ذلك في قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
و لقد استمر التمهيد لقتال المشركين، حتى نزلت الآية المشهورة عند المفسرين بآية السيف، من سورة براءة، وهي قوله تبارك تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لقد حددت هذه الآية الكريمة، زمان قتال المشركين بمجرد انقضاء الأشهر الحرم، وحددت مكان القتال بأنه حيث وجد المشركون، وحددت إيقاف القتال معهم، بأن يتوبوا ويقيموا هذه الشعائر!! ولقد نسخت هذه الآية، حسب رأي معظم المفسرين، آيات الاسماح والحسنى والصبر على الكافرين.. وعلى هذه الآية جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وأمرهم إلى الله) أما في حق أهل الكتاب، فقد جاء في سورة التوبة قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).. وبناء على هذا التوجيه الواضح، كانت تتوجه رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الفرس والروم (أسلموا تسلموا يكن لكم ما لنا وعليكم ما علينا فإن أبيتم فأدوا الجزية وإلا فاستعدوا للقتال)!! هذه هي خيارات الإسلام، في مستوى فروعه، لأهل الكتاب: إما الإسلام أوالجزية أو القتال..أما بالنسبة للمشركين، فهما خياران لا ثالث لهما: الإسلام أو القتال.. ويجدر بالقول أن الجزية ليست ضريبة دفاع، يدفعها أهل الذمة من يهود ونصارى للمسلمين، لأنهم يقومون بحمايتهم، كما ذكر بعض الدعاة الإسلاميين. ولكنها إقرار بالخضوع لسلطان دولة المسلمين، وإشعار بالمهانة والمذلة، حتى يضطر الذمي إلى الدخول في الإسلام. ولذلك جاء في كتب التفسير في شرح قوله تعالى (وهم صاغرون): "أي ذليلون حقيرون مهانون ولذلك لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)" ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، ذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: "كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر بين الخطاب أمير المؤمنين من نصارى كذا وكذا، أننا لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا نحي منها ما كان خططا للمسلمين. وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا، ولا ندع إليه أحدا. ولا نمنع احداً من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراده. وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا، إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة ولا عمامة ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم. ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا. ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور. وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيث كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وألا نظهر الصليب في كنائسنا. وأن لا نظهر حلينا ولا كتبنا في شيء من طريق المسلمين، ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا، وان لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا، في شيء من حضرة المسلمين ولا نرسل شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا. ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهم من سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم)" قال: "فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه (ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق) .. هذه المعاهدة لا تحتاج إلى تعليق، ولقد أوردتها كاملة، كما جاءت في تفسير ابن كثير، حتى لا نخدع أنفسنا بأن الإسلام في مستوى فروعه، يمكن أن يحقق الكرامة لمواطن غير مسلم في الدولة الإسلامية. وهكذا قامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، على الوصاية، فصادرت حق المشركين في الحياة بموجب آية السيف، وحق غيرالمسلمين في المساواة بموجب آية الجزية. كما فرضت وصاية الفرد على الجماعة بموجب الخلافة، وفرضت وصاية الرجال على النساء في داخل المجتمع المسلم، بموجب القوامة.. ولم يكن من الممكن ان يتم ذلك، لو لا أن الآيات المدنية الفرعية -والأقل درجة- قد نسخت الآيات المكية -الأرفع درجة- بسبب عجز مجتمع القرن السابع الميلادي، عن ان يطيق الأصول.
د. عمر القراي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.