تعرضنا في السودان – في الآونة الأخيرة – إلى إمتحانات عسيرة فيما يخص حياتنا وآدميتنا وكياننا الإنساني، إذ صادفتنا محن ومصائب غريبة الشكل والتكوين، كان لنا في بعضها الأغلب يد عجلت بهذا الهول والعسف المستعجل . الكلام عن ظلم الحاكمين مردود، فهو مكرر وعادي ويشبه الجور الذي إرتبط في التاريخ بالسلطة المطلقة والجوع اللئيم للسيطرة والنفوذ، فما من زمان مر على هذه البلاد وبين حاكميها وناسها وداد أو رحمة.. لكنها دائماً المناكفة والتغول وسلب الناس الحق والمستحق . وما من عصر عبر البلاد إلا وفيه ضربة سيف وطعنة رمح من هذا الحاكم أو ذاك، فآل مصير الناس إلى الذُل وصارت حياتهم إلى هوان، فأصبحنا نعبر الحياة منكسي الروح والرؤوس نفتش في أرواحنا عن الأمل بفانوس ضعيف . نجوع ونشقى ونمرض ونقتتل ونموت وكأننا لا نستحق الحياة . فقدنا البوصلة وسط هذا الذهول الكبير، وضاعت هويتنا التي إختصرناها في الدين أو الجهة الجغرافية التعيسة .. تحولنا إلى جماعات تقسم بأنها ستقاتل (ضد من، لأجل من؟.. ما معروف( فقدنا تلك الكينونة الفريدة، وتاهت منا الشخصية الذاتية التي كان من المفترض أن يبنيها الواحد فينا بتجاربه ومعاركه الفكرية الحرة وإحتكاكه .. فقد ملأنا الخوف من الجهر. الجهر بما نحن عليه من حال .. ولكن ، كيف نجهر بما لانعرف ؟ أننا نحيا عمراً بأكمله دون بصيرة ولا تأمل لحالنا وكأننا نعيش هذا الدهر والعمر ولا ننظر ولو لمرة في المرآة . ومن نحن ؟ .. نحن الأفراد ..فردأ ، فرداً .. أبناء هذا السبيل الوطني المُعنوَن بالسودان . نحن المواطنون المذكورون في شهادات الميلاد وإحصاءات السجل المدني وفي بطاقات الهوية وفي الغدو والمرواح ، نحن المعرفون بأسمائنا، العابرون الشوارع الصامتون دهراً الناطقون كفراً ، الساكنون المشردون، الفقراء والأغنياء، أصحاب الحاجة، الطلبة، التجار، الدائنون والمدينون، الخائبون، الفالحون، الرجال والنساء، المتأكدون والمتوهمون، الشعراء، سائقي العربات، السابلة الذين يمشون على الدرب هوناً (أو بسرعة )، أبناء الناس (والناس الآخرين)، السيدات والسادة، لطاف المعشر واللئام ، أصحاب الفكرة والتاركين أمرهم على الله؛ لا أحد ! لم ننتبه يوماً لنسأل: أليس لدينا من أمنية أخيره؟ أن نكون فقط محترمين، ولو أمام أنفسنا ؟ كيف لا نرفض ما لا يستقيم مع أبسط تطلعاتنا في الحياة الكريمة؟ كيف لا نرفض ذلنا وهواننا الذي يتسبب فيه من يسوى (وقيل في رواية أخرى، من لا يسوى)، كيف لنا أن ننام بكل هذا الضيق في التنفس والمرارة في الجوف؟ أخرج كل يوم في الصباح لأغوص في الشوارع الخرطومية وبي خوف من أمر مجهول وجاثم، وعمري الشاب يتبعثر بين هذا الخوف والحزن الشديد على أمري وأمر البلاد ... فالشوارع تملأها المراقبة والعربات المدرعة والشتيمة والترصد وإحتمال وقوع مكروه في كل اللحظات؛ وأمشي وأن أتحسس قلبي الضعيف (خلقة) خشية السقوط في ألم مباغت لا يرحم . هل هذه بلادي ؟ ومن أين أتت بهذه القسوة تجاه ساكنيها من الناس ؟ من أين جاءنا هذا الفقر والعوز ؟ هذه الاوبئة، أي الحدود عبرت، وبإذن من؟ لتسكن هذه الأجسام المتعبة المرهقة أصلاً ؟ وهذا الفساد الكبير ، والعنف القاسي؟ من أشار لهما علينا؟ والظلم ؟ من حدثه أن : توجه إلى السودان فإنك منصور ؟ هل هو نصيبنا وبختنا المائل ؟ أم أن الامر مجرد سوء تقدير وتدبير من الناس عموم ؟ إننا أمام محك حقيقي وإختبار عميق ، محك وإختبار لقدرتنا على المراجعة والتقدم ، فالأمر لا يسر ولا الحال يفرح .. هويتنا الداخلية العميقة ، بإعتبارنا ناس ونتنفس ونحلم ، مهددة بإنقراض إبدي لن ينجح أن نبحث عنها بعد سنوات ( ولو في خشم البقرة ) . فغير أن بلادنا مشرورة ومعلقة على حبل غسيل العالم كقميص اليتيم ، فإننا لم نعد حتى قادرين على رؤية مواقع أقدامنا . توازننا النفسي مفقود ، وثقتنا في نهاراتنا ضعيفه ، وصبرنا ممل ؛ أعوام طويلة تنقضي وتمر من عمرنا المبحوح على ناصية الكلام، لا شيء ينجدنا من هذا الضياع الحار المستمر ، سلكت الخمر أجسامنا وأكبادنا وهردتها، عسى من غيبوبة تلطف بالحال ، فضاع أكثرنا في محنة الإدمان أو تجربة الموت الحي ! فقدنا ، ونحن – بعد – في عمر الشباب ما نملك من مزايا: أمننا الإجتماعي ، إنبساطتنا العادي وطموحاتنا الشخصية في بلاد يفترض أنها لنا بالميلاد والعشرة وحسن الإطلاع .. تربصت بنا أحزان قاسية ، ونال من عافيتنا سأم . تهنا في العالم الكبير ، مسافرين ومهاجرين ونازحين ولاجئين، لا نطلب من بلاد الناس مناً ولا سلوى، فقط : تعليم ومسكن وما يعين على الآدمية؛ فإنخرطتنا في صفوف الغوث والأمم المتحدة ومنظمات الهجرة وإعادة التوطين .. وتشرذمنا في الديار العالمية لا تجمعنا إلا تلك الذكريات البعيدة: أغان الكاشف وصوت مصطفى سيداحمد ، سيرة الباباي، وقع العود والمندلين، ليل الأحاجي، منظر النيل في إتجاهه الشمالي، وجوه الأمهات ورنين جلبة الأصدقاء .. حتى مدننا الأثيرة ، الخرطوم وامدرمان وعطبرة ، لم تنج من هذا التجريف العميق، فضاعت ملامحها بالهدم والسحل ،ولم يبق بها ما يدل عليها ؛ فبعد أن دهن المغوار "يوسف عبد الفتاح" واجهاتها ومفاتيحها باللون الأخضر الغبي، وأنطبقت على حياة ساكنيها قوانين النظام العام والحشمة الكاذبة ، صارت هذه الأمكنة أمسخ ما تكون ، فإنعطف فيها العشق والهوى عن مساره ليصبح جريمة مخلة بالقانون، وصرت يا صاحبي ترى البنات يسرن في جلاليب سوداء والرجال منكسي الرؤس مخدوشي الكرامة، فاقدي الإعتبار . إنهدمت السكة الحديد في عطبرة بتاريخها العالي، وساح في فوضى السوق مسجد الخليفة وملأته رائحة غريبة. أما الخرطوم، فأمرها عجب ، لا شيء فيها يستوقفك سوى يد ممدودة بالسؤال لقرش فقير، و مبانيها المحترمة التي بناها أهلنا وناسنا بكدهم وعرقهم (ورأس ماليتهم) ذابت . غاب عن المدينة شارع الجمهورية ، وشارع القصر أصبح أكثر حزناً من ذي قبل، فلا هو شارع وطني ، ولا هو حكومي: مجرد ممر للحافلات السيارة عابرة الطريق . كم نحن مساكين.. أوجاعنا مفرطة وألامنا غير محتملة وغربتنا أبدية وممتدة، ولا شيء في هذا الجسد لم يتسمم بعد بكل هذا الحزن .. نعاني في كل مكان نحاول أن نرتاح فيه، في الحل والترحال .. ليس يغير من شأننا مغادرة مكان إلى آخر، فكل الأماكن في الهم شرق، نتنفس فيها بصعوبة وننام ليالينا خائفين ؛ نخاف من أمسنا ومن غدنا . نسأل عن عافية الروح وهدأة البال وليس من مجيب ؛ فنغوص في إمتحانات الصبر والبلاء . talal afifi [[email protected]]