[email protected] (..يبدأ الواحد أول حياته مكافحاً في سبيل الحرية والمثل العليا، حتى إذا ما أرضى طموحه الشخصي، واستجيبت مطالبه الذاتية انخرط في سلك المؤيدين وتهادن مع خصوم مبادئه ومثله وانتهى به الأمر أخيراً للجلوس في مقعد وثير في صفوف الهيئة الحاكمة يسبق اسمه لقب، وتتبعه رتبة!) كفاح جيل – أحمد خير المحامي 1948م والحال كذلك لا زلنا حتى اليوم 2011م منذ أن قالها أحمد خير المحامي في نهاية الأربعينيات، حينما كان يحلل حركة الفكر في وقته، ومن الملفت حقاً أن الرجل كان يدرس حال المثقفين ليس في فترته هو، آخر الأربعينيات، بل منذ العام 1914م فتأمل، يقول إنه جلس إلى شيوخ فترة الأربعينيات ليتعرف على طبيعة دورهم في منازعتهم الصوفية والطائفية، وكيف انتهى الحال في الصراع بين المثقفين والتقليديين إلى أن يطرح السؤال الذي لا نزال نعجز عن توفير إجابة منطقية لصالحه، يقول: (هل كان الخريجيون، في مناهضتهم للصوفية في السودان مدفوعين بغريزة المنافسة لانتزاع القيادة من الزعماء الدينيين، وكانوا في دخيلة أنفسهم يثيرونها حرباً (طبقية)، سرعان ما انسحبوا منها وتنكروا على مبادئهم وزملائهم عندما مدت إليهم (الصوفية) أيديها وارتبطت مصالح زعمائهم معها، شأنهم في ذلك شأن الانتهازيين في كل زمان ومكان. يبدأ الواحد أول حياته مكافحاً في سبيل الحرية والمثل العليا، حتى إذا ما أرضى طموحه الشخصي، واستجيبت مطالبه الذاتية انخرط في سلك المؤيدين وتهادن مع خصوم مبادئه ومثله وانتهى به الأمر أخيراً للجلوس في مقعد وثير في صفوف الهيئة الحاكمة يسبق اسمه لقب، وتتبعه رتبة!)، أليس من حقنا القول إن حالة المثقفين (الانتهازية) لا تزالت مستمرة حتى الآن، ولم نمض خطوة واحدة إلى الأمام منذ مطلع القرن السابق، وحتى اليوم، فهل تغير الحال؟ إن منطلقات أحمد خير المحامي في وصم المثقفين بالانتهازية، قد يكون مردها فشل مشروعه هو! ذلك أن الرجل كان سياسياً متقدماً أبناء جيله، ومثقفاً بامتياز، وما قاله يصدق على كثير من مثقفي تلك الفترة، ولنكن أكثر صدق، بل على مثقفينا اليوم، ولست أهاب القول إن الانتهازية جينُ (من جينات) في جسد وعروق الثقافة السياسية السودانية، وأزمة المثقف النقناق (كثير الخطابة، عظيم الطلب، ضعيف الحيلة) لكنه دوماً مستعد للالتحاق بقطار السلطة متى ما ناله من بريقها شيء، إنها أزمة مستمرة، ومشهد ثابت في شريط الفلم السياسي الذي عشناه منذ ما قبل الاستقلال وحتى يوم الله هذا، فحين تفتح وعي القراءة لدى الكثيرين، وأسسوا منابرهم ومنتدياتهم كآلية فرز من قطاع الجهالة المتمثل حينها في جمهور الطائفية وزعمائها، وبيت الشعر الذي صدر به أحمد خير الصفحة الخامسة عشرة من كتابه كفاح جيل (وما ضرت العلياء إلا عمائم – تساوم فينا وهي فينا سوائمُ)، ذلك لأن حركة المثقفين حينها كانت تنحو إلى انتزاع القيادة من الشيوخ؛ شيوخ الطرق الصوفية، وبالتالي الإدارة الأهلية، التي لجأ إلى إحياءها المستعمر، بعد ثورة 1924م، حتى يسحب البساط أمام أي حركة تنوير يقودها الخريجون الموظفون والطبقة الوسطى، المتشكلة والصاعدة حينها. وشهد العام 1953م تم إقرار الحكم الذاتي، وجرت انتخابات فاز الأزهري زعيم حزب (الأشقاء) وجماعته وصار الرجل رئيس الوزارة (1954- 1956م)، وغضب الفريق الثاني بسبب ما قالوا إنه دعم مصري لجماعة الاتحاديين، هي السبب في الحاق الهزيمة بالأنصار وحزب الأمة، فتعقد الوضع جداً، واضطربت الأحوال، فجماعة السيد علي الميرغني (1873- 1968م)، وقفت بجانب الاتحاديين وساندت الأزهري، وجماعة السيد المهدي وقفت بجانب المحجوب وعبد الرحمن على طه، وكاد الاستقلال ألا يحدث بسبب تشاكس الفريقين، وقام الزعيم الأزهري بإعلان الاستقلال بخفة يد يحسد عليها، وبدل مواقفه بسرعة مذهلة، ورفع علم الاستقلال، ثم أُسقط الأزهري بعد أقل من عام، وتحالف الغاضبان الميرغني والمهدي وجيء بالأميرلاي عبد الله بيك خليل رئيساً للوزارة.. والمثقفين الذين يقصد أحمد خير، كانوا بداية يشكلون معسكر أبي روف؛ تلك الجماعة التي تعاهدت على مدارسة أدبية، بقيادة حسين وأحمد الكد، ومعية خضر حمد، وعبد الله ميرغني، والنور عثمان، ومكاوي سليمان وآخرين، وقيل إن الراحل أحمد خير كان يغشاهم، فهؤلاء الشباب الذين توصلوا لحيل جديدة في تحصيل المعرفة، كانوا ينظرون بغضب للدور الكبير الذي تقوم به الطائفية، ولذا قرروا الاستعداد لمنازلتها، والحط من قدر زعماءها، بل وسعوا في سبها، وأحمد خير يدلل على ضعف الرابطة بين هؤلاء المثقفين، لأنهم انقسموا على انفسهم وبذلك أضروا المجال السياسي في البلاد، ويحكي أن سبب انقسامهم الأول هو حادث عرضي يقول: اندلعت نيران الخصومة إثر حادث عرضي بسيط ...، فقد قرأ أحد المتخرجين من الشبان، مقالاته في (حضارة السودان) والتي جاء فيها مس بشخصية الأمير عمر طوسون (ولد في الإسكندرية يوم 8 سبتمبر 1872.- توفي 2 يناير 1944) وقد وجدت أن الرجل كان يعد السودان امتداداً طبيعياً لمصر، وكتب ذلك وضمنه مذكراته، وكان لا يذكر السودانيين إلا بما يليق بهم، ويبدي إعجابه بكفاحهم. وحين شُكلَت لجنة لوضع الدستور المصري برئاسة حسين رشدي باشا سنة (1341ه= 1922م) كتب إليهم قبل أن تبدأ أعمالها مذكراً بأهمية السودان واعتباره ضمن حدود البلاد كما كان قبل الاحتلال، وبوجوب تشكيل مجلس النواب من السودانيين والمصريين على حدٍ سواء يعمل للمصلحة المشتركة التي لا انفصام لها أبداً. وكان لهذا الخطاب أثره في مناقشات لجنة وضع الدستور (راجع مقال: أثرياء مصر زمان.. والآن (9) عمر طوسون..الأمير المستنير، مدونة قبل الطوفان)، لنعد لحديث أحمد خير حول هشاشة الوضع والثقة بين الخريجين، يقول أن الخريج الشاب عاد لمقالات أحمد خير، وتوقف عند اسم الأمير أحمد طوسون وكتب بالخط العريض (واسوأتاه)، وأثبتها على لوحة النادي (نادي الخريجين) فوقع الخلاف والذي انتهى إلى شرذمة الخريجين وانقسامهم إلى فريقين الشوقست (المهدي) والفيلست (الميرغني). وهو الانقسام الذي حال دون الخريجين وأن يكونوا قوة تشق طريقاً مستقلاً لها في السياسة السودانية (راجع مقال عبد الله علي إبراهيم: ثلاثية محمد أبوالقاسم حاج حمد سودانيز أونلاين)، ترى ألا يزال يعاني مثقفنا السودان من هشاشة وضعف كبيرين، وهو على حالته من العجز، لن يكون إلا إضافة مملة للحياة السياسية اليوم وغداً، وفي المستقبل أيضاً.. وأحمد خير المحامي؛ نفسه ألم يلجأ للتعاون مع ضباط الجيش في انقلابهم 1958م، وتبوأ منصب وزير خارجية العسكر، أليست هذه هي الانتهازية ذاتها التي كرس قلمه لفضحها؟ فهل فعل ذلك (كيتاً) في الخريجين الذين أقصوه؟ أم هي ردة فكرية لرجل أوقف حياته لتجذير الديمقراطية والعقلانية في أوساط المثقفين! نواصل..