في ظل المشروع الحضاري والدولة الرسالية، عزف معظم السودانيين في الخارج عن المشاركة في التنظيمات السودانية الطوعية ،ومن بينها الجاليات، خوفا من توظيف قدراتهم لخدمة ذلك المشروع ودولته ، ثم انقشع بعض من الضباب الذي كان يعكر صفو الحياة و بدا للرائي توجه جديد للتعايش مع الرأي الآخر ،وإن كان في حدود معلومة ، بعد فشل المعالجات السابقة . وفي ظل هذا المناخ الإيجابي نوعا ما، أخذ السودانيون يسعون لاسترداد منظماتهم بعد بيات طويل لم يكن الذين تسللوا فيه لقيادة تلك المنظمات الخيار الأفضل. وبناء على هذه الخلفية ظلت مجموعات كبيرة من السودانيين المقيمين في المنطقة الشرقية، المملكة العربية السعودية، تسعى لترشيد أداء الجالية السودانية والعمل على وضع إدارتها في أيدي الأفضل الذين تجمع عليهم الأغلبية الفعلية، ولم يكن ذلك أمرا سهلا في ظل نظام أساسي شيطاني يحكم الجالية تم تفصيله بذكاء شديد ليجعل التغيير دونه خرط القتاد وليجعل من الانتخابات مجرد عملية شكلية لا يسمع فيها صوت الأغلبية. ورغم ذلك تحلى الساعون للتغيير بالصبر بعض الوقت حرصا منهم على وحدة النسيج الاجتماعي للسودانيين حتى لو بنيت تلك الوحدة على غير هدى ولا طريق منير، ولكنهم رأوا مؤخرا في سجلات الجالية ما لا يجب السكوت عليه من وجهة نظرهم، فقام خمسة عشر منهم من مناطق ومهن وثقافات وتوجهات مختلفة برفع مذكرة في أواخر شهر يناير الماضي لأمين عام جهاز المغتربين والسفير السوداني في الرياض يطالبون فيها بالتحقيق فيما أسموه مخالفات ارتكبتها الجالية ممثلة في رئيس لجنتها التنفيذية على وجه الخصوص وبعض معاونيه، وذكروا في مذكرتهم أيضا أنهم يعون تماما أن الجالية عمل اجتماعي طوعي ومنظمة من منظمات المجتمع المدني مستقلة عن سلطة الدولة ، ولكن الدولة ممثلة في السفارة درجت على وضع مبالغ مالية كبيرة كل سنة في يد الجالية لمعالجة الحالات الإنسانية والمشاكل الاجتماعية وسط السودانيين المقيمين في المنطقة الشرقية، وبالتالي فإن هذا يعطي الدولة الحق في الإشراف على هذه الأموال العامة والتيقن من سلامة مصارفها. كان هذا هو تبريرهم لمطالبتهم جهاز المغتربين والسفارة بمساءلة إدارة الجالية، وفي نفس الوقت لم يفت على أصحاب الشكوى أن دعوتهم لهذا التدخل قد تفتح شهية السفارة والجهاز للعودة لممارساتهم السابقة والتدخل في أدق شئون الجاليات وما يتركه ذلك من أثر سلبي علي مجتمعات المغتربين السودانيين،ولكن للضرورة أحكامها، رغم أن أصحاب المذكرة والسودانيين في المهاجر ليسوا جزءا من السلطة أو الثروة التي قسمتها نيفاشا. الدبلوماسي له رصيد كبير من الاحترام والثقة وسط المغتربين السودانيين في المملكة رغم توجهه السياسي المعروف. ويبدو أن أمين عام جهاز المغتربين لم يجد الوقت الكافي ليولي الشكوى الاهتمام الذي كان يتوقعه مرسلوها. دارت الشهور وطال الانتظار وانتقل خلال ذلك أحد مقدمي الشكوى إلى رحاب الله الكريم. ونفذ الصبر.ثم أخيرا استطاع المسئول الدبلوماسي،بعد شهور من الانتظار، التوصل لحل لا يتجه لجوهر المشكلة ، وجوهر المشكلة هو التحقيق في ما يزعم من تجاوزات أتى بها رئيس الجالية وبعض معاونيه، وأعد مع آخرين "طبخة" على عجل مدعوما برصيده الكبير من الاحترام والثقة وسط السودانيين(وهو رصيد قابل للتآكل مثلما هو قابل للزيادة) وقضت "الطبخة" بتخلي الرئيس عن منصبه الذي ارتبط به سنوات طويلة و"تعويضه" برئاسة أخرى هي رئاسة مجلس الجالية الذي يمثل نظريا الجمعية العمومية، وصرف النظر عن مبدأ التحقيق في المزاعم المثارة، وقضي الأمر الذي كانوا فيه يستفتون، رغم أن التحقيق ممارسة حضارية وعدلية لا تنتقص من قدر أحد ولا تعني تجريما مسبقا لأحد. هذا الحل غير الموفق يشبه إعادة تعبئة نفس الدواء الفاسد القديم في عبوة جديدة أو خياطة الجرح دون تطهيره، مما يعني إعادة مؤكدة لإنتاج الأزمة، ولو بعد حين، وبشكل أعنف. جميعهم في اعتقادي أخطئوا بدرجات متفاوتة في معالجة المشكلة.. أخطأ ابن عمنا أمين عام جهاز المغتربين بعدم منح المذكرة ما تستحق من أولوية رغم ظروف العمل الضاغطة المقدرة المعروفة لمن هو في منصبه. أخطأ الدبلوماسي الناشئ حينما تعجل بطرح وجهة نظره الشخصية في قضية لا تحتمل الاجتهادات. أخطأ زميله الأكبر درجة حينما انصرف عن معالجة أم المشكلات إلى توزيع الرئاسات. أخطأ رهط رئيس الجالية السابق حينما استعصموا بالصمت الذي ليس هو من ذهب في كل مرة واخطئوا مرة ثانية وثالثة حينما أصروا على نصر أخيهم ظالما ومظلوما، وبئس الورد المورود. أخطأ المعارضون وحداة التغيير حينما قبلوا بليل بهذه "الطبخة" المستعصية على الهضم من وراء ظهر قواعدهم وبلا تفويض منها. الطرف الوحيد من أطراف المشكلة الذي تصرف بذكاء معروف عنه ، في اعتقادي، هو رئيس الجالية السابق الذي قبل بأقل الخسائر وهي الانتقال من موقع رئاسي لموقع رئاسي آخر ثم الانتظار بعد ذلك عسى أن يحدث الله أمرا. الرئاسة حتى لو كانت شرفية خير من طلاق وجاهة المناصب وبريق الأضواء. المشكلة ستتجدد كل يوم، والمزاعم أو الاتهامات بسوء التصرف في أموال الجالية ستظل قائمة ما لم يتحقق من صحتها، والمذكرة المرفوعة في انتظار الرد من أمين عام جهاز المغتربين والسفير،حتى لو كان بعلم الوصول، وهذه التسوية الوقتية قصيرة النظر التي تمت قد تعقبها تسويات مماثلة أخرى سيكون ضررها أكثر من نفعها، ضعف الطالب والمطلوب. وقد يدفع كل ذلك الأغلبية ،الصامتة المتزنة حتى الآن، للجوء لحلول أخرى صارمة المعايير، وهي حلول كانت ،وما زالت، في متناول اليد. سنواصل مرة أخرى تناول هذه القضية ومعالجاتها المعيبة. (عبدالله علقم)