ajack deng [[email protected]] يا منْ أراني الدهرُ صحة َ ودِّه وسمعتُ بالخُلُقِ العظيمِ روايةً مُتواضعاً لله بينَ عبادِه لم تدرِ نفسك: ما الغرور؟ وطالما والودُّ في الدنيا حديثٌ مفترى فأراني الخلقَ العظيمَ مصَّورا واللهُ يبغضُ عبدَه المتكبرا دخل الغُرورُ على الكبار فصغّرا أحمد شوقي مُصيبةُ الموتٍ وخطبُها الجَلل: نَعى الناعون غداةَ العيد أستاذنَا مُحمَّد هاشم عوض فأسلمونا – عفى الله عنهم – إلى جذوةٍ من الحزن لا تخبو ولا تنطفئ، وكان أيسرَ ما لقينا من كربها ذهابُ بهجةِ عيدنا وأهونْ بها لمن لم نكن نذخرُ في فداه رغيبة. ولم يخفف من لاعج الحزن الذي أنشبَ أظفارَه في كل صدرٍ إلا استذكارَ قولِه تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) }آل عمران: الآية 145.{ إذن مضى لطيِتِهِ البروف وابقى مكارم لن تَبيد ولن تُنال، غير أن تلك المكارم ليست مما يُحسب بالدرهم والدينار والخميصة، كلا، واستغفرُ المعالي، ولكنها بلا ريب مما ترجُح به كِفتُهُ في موازينِ القدوةِ والتربيةِ والتفوق، وحسبُك بها من مآثر. غير أن في سيرةِ الرجلِ – بعدُ – ماهو خليقُ بالتأمل والنظر! كيف لم يُرد – سيقول أقوامٌ يستطع – أن يصبح ثرياً من المعدودين الذين يشار إليهم بالبنان، وقد كانت كلُ الأبواب مشرعةً أمامه في وقتٍ أحرزت فيه زعانفٌ ثرواتٍ تنوءُ العصبةُ أولو النُهى عن دَرَكِ مصادِرها، وهو الذي انفقَ عمرَه كلَّه في درسِ سبلِ جمع الثروة ومضاعفةِ رؤوس أموالها وإحسان تعهدها بالتثمير والتشغيل، وكان في كل ذلك من النابغين؟ وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان يغيظ طلابَه ومحبِيه- وأنا من بينهم – إلا أنه في رأيي آيةُ عظمِتهِ الكبرى ودليل تُفردِهِ المُبين. رَحلَ الفقيدُ عن حياةٍ طالما كان بها حفياً، فقد وهبه الله جلالَ طلعةٍ وبسطةً في الجسم، وكان فوق ذلك رياضياً مطبوعاً وحارساً لمرمي فريق الموردة أحد فُرق المقدمة زمناً طويلاً، كما كان معاصراً وزميلَ ملاعب لكلٍ من سبت دودو وصديق منزول وغيرهما من عباقرةِ الكرة في ملاعب السودان، أكسبه نشاطُهُ البدنيُ ذاك صلابةً في عُوده واتساقاً في بنيتِه ظلا يرافقانه إلى أٌُخرياتِ أيامه. وبدا حبُهُ للحياةِ جلياً في أخذه الآداب والفنون بجدٍ ظاهر، فقد ضربَ بسهمٍ في المسرح حيث عرض له المسرحُ القوميُ مسرحيته عن مأساةِ تاجوج، وشهدت مسارحُ أُخر غيرَها من أعماله، وقد ظل ارتباطُهُ بالمسرح قوياً منذ أيام الطَلَب الأولى في كلية الآداب على يَدي أستاذه المرحوم عبد الله الطيب وقرينته السيدة قريزلدا الطيب التي كانت ناشطةً في مجال الفنون آنذاك عبرَ طلاب الكلية حيث قُدمت معظم أعمال وليم شكسبير وبعض أعمال برنارد شو وآرثر مِيلر وغيرهم. كانت السيدة قريزلدا هي المخرجُ ومصممُ الأزياء ويتم كلُ العمل بدفعٍ منها ومن زوجها وبمشاركةٍ فاعلة من محمد هاشم، ومنذ ذلك الوقت أحبَّ الفقيدُ العزيز المسرح واتصلت علاقتُه به وكانت آخرَ مسرحياته (بقولوا مُعوق) التي أُديت عبر مسرح المعوقين ولقِيت استحساناً واسعاً، وقد أسعدني الطالعُ المبارك فكنتُ شاهداً على بعض بروفاتِها في منزله. كما لم يكن البروف أيضاً بعيداً عن الشِعر والغناء، فقد طالما سمعته يترنم بالجياد من القصائدِ القديمةِ وقصائدِ الدوبيت والحقيبة، وكتب الشعرَ الغنائي، وله عددٌ من الأغاني العاطفية لا تتقاصرُ كثيراً عن سماواتِ الإجادة والإحسان، وما الشعرُ إن لم يكن حباً للحياة ورغبة في تصوير مشاعرنا إزاءَها ووسيلةً لتعميقِ شعورنا بها. أضف إلى ذلك أفتتانٌ شديدٌ بالجمال واحتفاءٌ فطريٌ به. كنت بمنزله مرةً وأبديت إعجاباً بتنسيق حديقته الصغيرة، فقام من مجلسِهِ ومر بي على الأُصُص المنتشرةِ واحدةً فواحدة يحدثُني في إسهابٍ عن كل نبتةٍ ما اسهما؟ وما طبيعتها؟ وأين هو موطنها الأصلي؟ ومتى أدخلت إلى السودان أن لم تكن من نباته؟ وكيف ينبغي أن تُغرس؟ وكيف تجب العناية بها؟ وقد كنت ألحظُهُ يتحدث باهتمامٍ شديد واستغراقٍ كامل، ولم يكن من العسير على من لا يعرفه أن يظنه أستاذاً في أحد علوم الزراعة. وقد تَطفّلتُ على مكتبته ذاتَ مرة فما راعني إلا أن وجدتُ فيها كتابين عن الحمام الزاجل على أحداهما إهداءٌ من أحد الطلبة اليمنيين، فعجبتُ ماذا تفعل كتُبُ الحمام الزاجل في مكتبةِ أكبرِ عالمِ اقتصادٍ في البلد؟ كان هذا الحبُ الشديد للحياة في شتي مظاهرها يقابلُهُ ويكفكفُ من سَورتِهِ التزامٌ أشدُ بالأخلاق، وكانت أهم تلك الأخلاق التي يقدرها في الرجال الشجاعةُ، كما كان الكرم بمعناه الواسع يمثل القيمةَ المفتاحية لشخصيته، ولأمرٍ ما انتبه العرب إلى الصلة الواشجة بين تينكَ خَلَّتَيْنِ الممتازتين فقالوا : (كلُ كريمٍ شجاع)، وبماذا يمكننا أن نصف محمد هاشم بغير صفتي الكرم والشجاعة؟ القلةُ الأثيرةُ أم الكثرةُ الكثيرة : لقد كان الفقيدُ الكبير من نوع الرجال الذي يصفُهُ الغربيون بقولهم (born to Integrity) لأنه لم يكن يقول إلا ما يعتقد، ولم يكن يفعل إلا ما يقول، أسلمته هذه الصفةُ إلى هوايةٍ عجيبة واظب على ممارستِها إلى درجة الإتقان وهي ركلُ كلِّ وظيفةٍ تتحلبُ لها شفاه الطامعين متى ما تعارضت مع الحد الأدنى من قناعاته، وقد كان من بين هذه القناعات وقوفُهُ الحازمُ مع الأضعفِ ضدّ الأقوى إلى أن يعتدل نصابُ الحقوق، ومع الأكثرية من سوادِ أهل هذه البلاد في وَبَرِهم ومَدَرهم بلا هوادةٍ أو لين ضد تُرهَّاتِ ما يسمى بالصفوة وبِدَعِها إلى أن تضع هذه الصفوةُ المزعومةُ مصلحةَ العامة نُصبَ العُيون. دُعَّي وهو وزيرُ للتجارةِ والتموين في إحدى أمسيات العام 1979م، إلى القصر الجمهوري حيث كان السيدُ الرئيس القائد حينها قد تخلص من كل رقابةٍ عليه وأصبحَ الحاكم بأمره في طول البلاد وعرضها، كانت تلك من سنوات الانتقال التي عمل فيها بجد ليصبح، وهكذا فجأة، إماماً للمسلمين وقائداً للغُر المُحجلين، دَلفَ محمد هاشم إلى المكتب الأنيق فوجد عدداً من الوزراء وبعض الحاشية يحيطون بالرئيس وكرسياً من الخيزُران كان كأنما أعد لجلوسه، وبعد أن حيا الجميع جلس وأرخى سمعَه. فقال الرئيسُ القائد بأن هناك قراراتٍ ستذاعُ غداً في الناس وكان من بينها رفعُ أسعار السكر والخبز وغيرهما من السلع الضرورية، وكان الرئيس القائد يقرأ قراراته ويرفعُ رأسهَ كلَ حين ناظراً إلى أعين جُلاسه من فوق نظارتهِ قائلاً : (أي اعتراض ... أي اعتراض)، وتلك عادةٌ درَجَ عليها لما لمسه من تأثيرها في عددٍ غير قليل من صغار النفوس الذين يدورون حوله، لكن هيهات أن يكون لها من أثر على محدثه هذه المرة الذي كان نوعاً مختلفاً من الرجال، إذ رفع محمد هاشم يده وقال :(أنا أعترض يا سيادةَ الرئيس)، فرد عليه السيدُ الرئيسُ القائد بغيظٍ ظاهر:(على ماذا يا رجُل)، فقال:(على زيادة سعري الخبز والسكر خاصة، لأن هناك وسائل أنجع لتوفيرهِمِا وتثبيتِ سعريهِما في نفس الوقت بدلاً من رفع الدعم عنهما)، ثم قال كلاماً فحواه فرضُ المزيد من الضرائب على السلع الكمالية، فكان ردُ السيد الرئيس القائد هو أن: (هذه قراراتٌ قد تم اتخاذُها وأنت هنا لتُحاط علماً بها ليس إلا)، فما كان من محمد هاشم إلا أن وقف من فوره وقال :(إذن أنا استقل يا سيادةَ الرئيس، وسوف تكون استقالتي على مكتبِكم صباحَ الغد). كثيراً ما قيل بأن الرئيس القائد كان يلجأ إلى الأيدي والأقدام لإقناع مُجادليه من الوزراء متى ما أعيته الحجةُ واستغلقَ عليه البيانُ، بيد أنه ما كان ليجرُوء على ذلك مع هذا الوزير العنيد ذي القوام الفارع لأنه كان يعلم ما ينتظره على يديه. ومهما يكن من أمر، فقد أنطوى هذا الفعل على أمرين جديدين في أدبيات مايو لذلك العهد، أولهما أن يُقدم وزير في كامل قواه العقلية على الاعتراض الصُراح على قرارات السيد الرئيس القائد، وثانيهما أن يتقدمَ وزيرٌ مرموق باستقالتِه، فيما يُشبه الرَكلَ للوزارة، هكذا في منتهي البساطةِ وعلى رؤوسِ الإشهاد، أشهدُ أن هذا الفعل أندر من الكبريت الأحمر في تاريخنا عبر العقود التي انسلخت منذ الاستقلال. كان عددٌ ممن أحاط بالرئيس قد القى في رُوعه أن مؤسسات برايتون وودز هي الدرياقُ لكافةِ مشكلاتِ السودان الاقتصادية، وأنها ستجعلُ منه الأرضَ الموعودةَ التي تفيض خمراً وعسلاً ولبناً، وقد كان من السهل على الرئيس القائد حينها أن يبتلعَ الطُعم لاسبابٍ عديدة ليس من بينها الفِطانه، غير أن محمد هاشم كان يرى في كل ذلك قولاً مُسهَباً لا طائل تحته، والقول المُسهَب، بحسب الأعلمِ الشنتمري، هو قولٌ مستفيضٌ لا غَناءَ فيه، كان يعتقد أن في الأمر مؤامرة لاستدراج السودان توطئةً للتحكمِ في اقتصاده ودمجِهِ في النظام الرأسمالي العالمي وفقاً لشروطٍ في غير صالحه، وان ذلك سينتهي إلى نهبٍ للموارد والمزيد من التدمير للقطاعات الإنتاجية كافةً وبالتالي المزيد من الإفقار لشرائح واسعة من المواطنين. وبالرغم من هذه النهاية الدرامية لعلاقتِهِ بمايو، التي كان عضواً في مجلسِ شعبِها منذ العام 1974م، والتي استعانت به لاحقاً فيما عُرف بحكومة التكنقراط، إلا أنه لم يجحَد لها كل فضلٍ ويركب، فعلَ الانتهازيين، موجةَ التشنيع عليها وتبرير مشاركته في أجهزتها، بل صَدَفَ عن كل ذلك إلى ميدانِ عملِهِ الرئيس: التعليم، وماهي إلا سنواتٌ معدودةٌ حتى أَلْوَت الانتفاضة بمايو وقائِدها دَرَّاج المِحن. ومع بدايةِ ما عُرف بالديمقراطيةِ الثالثة عُرض على الرجل منصب مدير جامعة الخرطوم الذي كان منصباً مرموقاً آنذاك يسيل له اللعاب. كان العرض أن يأتي إلى المنصب بالانتخاب عبر تحالفٍ سياسيٍ شكله بعضُ أساتذةِ الجامعة مدعومٍ بأحد الحزبين الكبيرين، وكعادته لم يقبل العرضَ لأول وهلة، ولكنه وضعَ شروطاً كان من بينها ان يبدأ هو من حيث انتهي النظامُ المايوي في ترتيب بعض شئون الجامعة، وواضحٌ أن ذلك لم يكن شرطاً موفقاً يمكن أن يقدمه أيُ شخصٍ يَرغب فعلاً في ذلك الكرسي بأي ثمن، لأن الحكمَ حينها كان قد أذاعَ في الناس سياسته الموسومة ب(كنس آثار مايو) ولما لم يُجب إلى ما طَلب، كَنَسَ هو هذا العرض من أجندتِه. وقد شهدتُ ورودَ خبرٍ مكذوب عن وفاةِ الرئيس الأسبق نميري إلى البروف أواسط التسعينات من القرن الماضي، ورأيتُ كيفَ ترحَّم عليه وذكر محاسنَه واجري عدة اتصالاتٍ للتأكد من الخبر والتأهبْ لأداءِ وأجب العزاء، رأيتُ في ذلك اليوم من غرائبِ الوفاء في الرجالِ ما يُغني عن دروس ودروس. في سنوات الإنقاذ الأولي كان للكلام ثَمنٌ، ولم يكن محمد هاشم يحجمُ عن الإفصاح عن أي رأيٍ أرتاه مهما كان، وأمام أيٍ كان، ولقد كان أحدَ أكبر المعارضين لسياسات التحرير الاقتصادي التي أُعلنت بدايةَ التسعينات وما بَرِح يصُب على رأسها من حميم نقدِه، وأخيراً نُظمت ندوةٌ أريد لها أن تكون علميةً في جامعة الخرطوم. حضرناها في سنواتِ الطلب الأُوَل، كانت تلك مناظرةً مشهودة في قاعة الامتحانات الشهيرة على مقربةٍ من مكتبةِ جامعة الخرطوم، كانَ المناظرُ المقابل هو وزيرُ الاقتصاد حينها عبد الرحيم حمدي، سارت المناظرةُ بينهما قويةً حامية، وعلى الرغم من أنني وزملائي كنا نَضلُ الطريقَ ولا نُحكم فهم القضايا التي كانا يخوضان فيها، ربما بحكمِ أننا كنا طُلاباً جُدداً، إلا أننا لا حظنا تفوق البروف محمد هاشم الساطع لقوةِ حُجته وموضوعيتِهِا وترتيبِ أفكاره وهدوء سمته بالإضافة إلى الاستحسان الواسع الذي وجده من النَظارة، وقد قال قائُلنا ونحن نغادرُ القاعةَ، وكان أحد المعجبين بالأستاذ: وابنُ اللَبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ لمْ يَستطعْ صَولةَ البُزلِ القَناعِيس كان يُصر ايضاً على أن الطريقةَ التي تم بها التعريبُ في مفتتح التسعينات ما هي لا تدميرٌ منظمٌ للتعليم العالي، وبأنه علينا أن نتعرف إلى لغة الانجليز ونحكمَها، لأنه ما من سبيلٍ إلى المعرفةِ الحق في شتي مجالاتِ العُلوم الحديثةِ إلا عبرَ إحكام تلك اللغة، وكان من قوله كذلك: (إذا لم تكونوا تُريدون التخرجُ كالأفندية، فإنه ليس أمامَكم إلا إتقانَ هذه اللغة). كانَ يقولُ ذلكُ و هو المسلمُ الهَوى و الهُوية، غير أن ارتباطَه الحميمَ بالإسلام كدينٍ وحضارةِ لم يَضعْهُ يوماً في تضادٍ مع حضارة الغرب وثقافتِه ولغاته، كيف يفعل ذلك ولقد عاش لتسعِ سنواتٍ في مدينة الضباب، أحد أكبر مراكز هذه الحضارة، والتي قالَ نَبيُ امبراطوريتِها الصَّيْدَاحُ روديارد كبلنغ في إحدى كَبواتِهِ، وما أخطرَ كبواتِ الفُحول،: الشرقُ شرقٌ والغربُ غربٌ ولن يجتمعا إلا إذا اجتمعت السموات والأرض. كان محمد هاشم هو النَفيُ النبيل لهذه القاعدة المُدعاة. فكم كانت غنيةً تلك السنونُ التي أنفقها طالباً للدراسات العليا ثم أستاذاً متعاوناً في مدرسة لندن للاقتصاد (London School of Economics ) وكفي بها للعلم مَثابةً، ثم كيفَ ينكرُ الانجليز وقد أصطفى من بين أظهرهِمِ قرينتَه الأولي وأُمَّ أولاده. كنا في تلك السنوات نحذُرهُ قائلينَ (بعضَ نَقدِك القوم)، فكان يردُ علينا بابتسامتِهِ العذبِة قائلاً، ما تنفك تصوبُهُ الغوادي،:(الحافظُ هو الله!). إبن ناوا الذي سَحَر القلوبَ: شَرُفنا في دائرةِ الأبحاث الاقتصادية والاجتماعيةِ بتوفير عربةٍ لتنقلات الفقيد أثناء اليوم لفترة تربو على الأربعة عشر عاماً، لذلك كان السائقون والإداريون أكثرنا ارتباطاً به وقد رَووا قَصَصاً أشبه بالأساطيرِ والأحاجي عن كرمِ الرجل الذي كان لا يخشى الفقرَ بالمعنى الدقيق لهذه الألفاظ، ولولا أننا كنا طلاباً لديه ونعرفُ فيه ذلك الخِيمَ لصعُبَ علينا تصديقُ ما نسمع. ومثلٌ يغني عن أمثال: كَفَلَ محمد هاشم أحد أصدقائِنا المقربين في الجامعة بعد أن ذهب إليه طالباً منه التوسط لإيجاد وظيفة صغيرة تُعينُهُ على إكمالِ دراسته، كانت تلك سنواتٌ صعبة علينا جميعاً رُفع فيها الدعمُ عن كلِّ شيء وتُركنا فيها مُسنتينَ عِجافاً، فأخبرنا ذلك الصديقُ عن أن محمد هاشم عَقَدَ معه اتفاقاً يقضي بأن يُعطيهُ البروف مَبلغاً شهرياً يكفيه إلى أن تكتمل سنواتُ دراسته بالجامعة، وبعد التخرج يقوم ذلك الصديقُ بردِ المبالغِ المُستحقة، ثم جاء التخرجُ فَقَصَدَ ذلك الصديقُ دارَ البروف مبشراً بتخرجِهِ وشاكراً له صنيعَه وواعداً برد المبلغ في أقربِ فُرصة تُتاحُ له، فما كانَ من البروف إلا أن قال له: (إذهب أيها الفتى واعمل بجد وكن لطيفاً مع كلِّ شخص، آمن بربِك و نفسِك ووطنِك وأخدُم أسرتَك، أنا لا أريدُ منك مالاً، هذا كل ما أريده منك). وبِحمدِ الله يعملُ الآن هذا الصديقُ العزيز أستاذاً ملءَ السمعِ والبصر بأحدِ الدول الأوربية. كم كنتُ أودُ الاستزادةَ من هذه القَصص التي بلوناها بأنفسنا، ولكن ضِيق المساحةِ وخوفَ الإملالِ ألجَما القلم. قَد كانَ أعرفَ بالزمانِ وصَرفِهِ من أن يُثمِّر أو يُجمِّعَ مَالا مِفتاحُ كل نَدىً، وربَّ معاشرٍ كانوا على أموالهِم أقفالا كانَ العجيبةَ في الرجالِ فأصبحوا من بعدِ غاربِ نجمِهِ أمثالا إي والله، لقد كانَ العجيبةَ في الرجال. بيدَ أن الكرمَ كما كان يعرفُه محمد هاشم لم يكن ليقتصرَ على بذلِ الأموال وإطعامِ الطعام والإعانةِ على نوائبِ الدهر، بل لا أخشى القولَ بأنّ ذلك كان أيسَره شاناً، لأن كرمَه كان واسعاً أصيلاً يشتمل على التضحيةِ بوقتِه وجُهدِه في خدمةِ كل من يطرق بابه، وكان من بديعِ خصاله وأحبِها إلى النفوس الابتسامةُ التي يقابل بها الجميعَ دون استثناء، تلك الابتسامةُ التي ما كانت تفارقُ مُحياه أبداً، إضافةً إلى بَذلِ الرأي والنصيحة متى ما طُلب ذلك إليه. كان هذا الكرمُ– بالمعنى الواسع للكلمة- هو الذي حدا بالبروف إلى أكنافِ التصوُف بحسب رأيي، فمعروفٌ عن الرجلِ ارتباطُهُ بالطريقةِ القادرية العركية، والقادريةُ واحدةٌ من أقدم الطرق الصوفية وروداً على السودان وانتشاراً فيه، وثَبتْ إليه الجبالَ وخَاضَت البحار من المغربِ الأقصى ثمّ شَرَّقت وغرَّبت، وكان انتشارُها الأكبرَ إثناءَ المئةِ الأخيرة للسلطنة السنارية (1504-1821) بعدَ تهرُوء بِنَى السُلطةِ المركزية والمؤسساتِ التقليدية في المجتمع السناري بحسب بعض المؤرخين، (أنظر كتاب عبد السلام سيد أحمد عن "الفقهاء والسلطة في سنار" براغ: 1992)، وتعتبر القادريةُ بمدارسها المختلفةِ الثِقل الحقيقي للتَصوف بالسودان المعاصر، ومعروفٌ عن هذه الطريقةِ إعلاؤها لشأن الكرم الفياض وإطعام الطعام وسيلة إلى التقرب إلى الله، بل إن إطعام الطعام بخاصة، بحسب هذه المدرسة، هو المدرجةُ الأهدى والجوادُ الأعدى إلى غاية نزول رحاب الله. فهذا أحدُ أكبرِ أقطابِها الشيخُ العبيد ود بَدر وقد أملَّه أحدُ لُوَّامِةِ على كثرةِ اتلافه الأموال على الطعام، فأجابَه الشيخُ الوقورُ المولعُ بالسجع :(كان ما عَجيني منو البجيني)، وقد كان ود بدر هاهنا مُتقَفياً خطى شيخٍ آخر للطريق أقدم منه هو الشيخ إدريس ود الأرباب أبو فركة، الذي سأله أحدُ مريدِيِه عن السبيل الذي أوصله إلى مقامِه الذي هو فيه، فأمسك بيد ذلك المريد إلى أحد المطابخ وقاده في ناحية منه حيث تُعاس الكسرة وقال له مشيراً إليها: هذه! سيذهب مؤرخو المجتمعِ مذاهبَ شتي في تأويلِ ظاهرةِ ارتباط القادرية الشديد بإطعام الطعام تُكَأةً في مَعارجِ الترقي، غير أنه ما من شك في أن تلك الظاهرة بعينها هي التي حبّبَت محمد هاشم عوض في أولئك القوم، بالاضافة الى خلالٍ أُخرَ منها الأخوةُ في الله والدعوةُ إليه والتذكيرُ الدائم به، وبناء المساجد والخلاوي وخدمةُ القرآن الكريم والتَّحاضُ على الخير والاجتماعُ عليه ...الخ. كان الحَسنُ البصريُ رحمة الله، صبياً حيياً بالكوفة يحرصُ على أن لا تفوتَه صلاةٌ خلفَ الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. وكان الإمامُ يقول واضعاً يده الشريفة على رأس الحَسن البصري:(إن كان أحدٌ يُفلحُ فهذا الغُلام)، ويعتبر الصوفيةُ المسلمون الحسنَ أحدَ أبكار أئمتهِم وأول من تلقى أصولَ مذهبهِم عن أمير المؤمنين، وللحَسن أقوالٌ ما ثورةٌ تجري مجرى الحِكم والرقائق منها قولُهُ عندما سُئل عن سرِّ زُهده العجيب في الدنيا: (أربعةُ أشياء: علمتُ أنَّ رزقي لا يأخذُهُ غيري، فأطمأنَّ قلبي، وعلمتُ أنَّ عَمَلي لا يقومُ به غيري فاشتغلتُ به وحدي، وعلمتُ أنَّ اللهَ مطلعٌ على فاستحييتُ أن يَراني عاصياً، وعلمتُ أنَّ الموتَ ينتظرُني فأعددت الزادَ للقاءِ ربي). ما رأيتُ أحداً في الناس ينطبقُ عليه هذا الدستورُ كما انطبقَ على النمطِ الذي ارتضاه محمد هاشم لحياتِهِ، فقد كانَ مُقبلاً بكليتِهِ على واجباتِه ومهامِه وهو مع كرمِه الواسع الذي وصفتُه آنفاً، يُؤلف الكتبَ ويُدبج المقالات ويُحاضر بالجامعة ويُشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه وينشئُ الصُحف ويرأسُ مجالس إدارات البنوك والشركات ويتولي الوزارات والمهام العديدة على المستويين القاري والعربي، ويساهمُ مع الطريقةِ التي اختارها في شئون الدعوة إلى الله، لقد كان كما رأيتُ وشهدتُ مُعجزاً في طريقةِ تقسيم وقتِه على هذه المهام كما كان نابغةً في ضبطِ إيقاع يومه، وإني لا عجبُ كيف يَستطيع رجلٌ أن يؤلف بين كل هذه المهام دونَ إمدادٍ وبركة من الله العَلي القدير. إنما عاشَ مُعلماً: ما ذُكرتْ كلمةُ "البُروف" في رُدهات كليةِ الاقتصاد بجامعة الخرطوم إلا فَهِم السامعُ أن المتحدثَ لا يعني إلا شَخصاً واحداً هو محمد هاشم عوض لا ينصرفُ الذهن إلى غيره بحال، وقد نال، رحمه الله، تلك المكانَة، ليس لأنه حصل على رِقعة الأستاذية في العام 1976م، ولا لقدرتِه على صَوغِ حججٍ يصعبُ دفعُها من واقع إلمامِهِ التام والشامل بمجال تخصِصِه الدقيق، ولا لأنه أدرَكَ أن تلك المعرفةَ الدقيقةَ ليست بالكافيةٍ وحدها لتكوين المُعلم الصَنَاع الذي لا مَفر أمامَه من أن يُتقن كذلك مهاراتِ التواصُل مع الآدميين الذين انتهت تصاريفُ الحياةِ بهم طُلاباً لعلِمِه، ليس لهذا ولا لذاك، ولكن لأن عنده من الدُربة والمِران ما جَعَله يُطور أسلوباً للتواصُل العقلي بينه وبين طِلابه تَمَكنَ عبرَه من إشراكهِمِ في النفُوذ إلى قضايا العلم المركزية شيئاً فشيئاً بما يُنمي فيهم الفضول ويدفعُهم لبذلِ المزيد من الجَهد للتَعرُف إليها والإحاطةِ بها وبتفريعاتِها الكثيرة. كان منهجُهُ لبلوغِ تلك الغايِة ما يمكن أن أُسمِيَّه (Simple Stories: Complex Issues)، إذ كان غالباً ما يبدأ درسَه بقصةٍ قصيرة تَفتح الشهية تكونُ قد واجهته هو شخصياً أو من النوعِ الذي يمكن أن يواجه أياً منا في مجرياتِ الحياةِ ودوربِها العديدة، بشرط أن تكون واضحةً دائماً وفيها مسحةٌ من فكاهة في أغلب الأحيان، وما بين تعليقٍ جاد وآخرَ ساخر حتي نجد أنفسَنا رويداً رويداً وقد دخلنا إلى عالم مُعقد من الأفكار والجداول والمُنحنيات والمُعادلات، وأخذنا نتَخاطب مع صفوةِ العقول التي أَغنتْ الفكرَ الاقتصادي لحضارة ابناءِ آدم من أمثال أبي يُوسف القاضي، عبد الرحمن ابن خلدون، ديفد ريكاردو، جيرمي بنثام، آدم سميث، كارل ماركس، جون ستيوارد مِل، جون كينز وهلمجرا. وأكثر ما كان يزعجُه ويضطُره لإعطاءِ أقل الدرجات إذا ما رُدت بضاعتُهُ إليه على ورقةِ الاجابة وأعادَ المُمتَحن ما كان البروف قاله قبلاً في قاعاتِ الدَرس. ذلكَ لأنه كانَ يسعى لدفعنا لاستخدام عقولنا لمقاربة ما نسمع، ويَجهَد لتطويرِ ملكاتِنا النقدية بَعيداً عن استشعارِ الرهبةِ أمامَ تلكَ الأسماءِ الكبيرة، وبعيداً عن التَلقين الببُغائي لنتاجِ قرائحهم : قِيلَ لأحدِ العلماء، الذين يستحقون هذا الاسم، أن تلميذَك فلاناً قد حفظَ متنَ البخُاري، فما عَتَم أن أجابَ الشيخُ الثَبتُ: (لقد زادتْ نسخةٌ في البلد!). وأقولُ جازماً أنه لولا تلك القَصص البسيطة التي كان يَفترعُ البروف بها محاضراته لما كانَ بوسعنا أن نحسنَ فهمَه، وذلك فضلُ اللهِ يُؤتيه من يَشاء. كان هذا حالُنا ونحنُ طلابٌ بالصف الأول والثاني بالجامعة، ولما كنتُ قد فارقتُ درسَ علم الاقتصاد بعد هاتين السنتين إلى غيره، فإنه ليس لي إلا معرفةٌ ضئيلةٌ بأساليبِهِ مع طُلاب السنواتِ المُتقدمة بالكلية، ولكنني أقطعُ بأنها كانتْ محاضراتٍ ممتعةً وشائقة لأن عدداً من غير طلاب الكلية، بل ومن غيرِ الجامعة، كان كثيراً ما يختلف إليها بعضُهم لأن شهرةَ الأستاذ قد أخذته وآخرون يُريدون المزيدَ من المعرفة، ومَع مَن مِن الناس يمكن أن ينالوا تلك المعرفةَ إن لم يكن مع البروف؟ كان من السهلِ علينا حينما أن نُدرك الفرق بين "البروفسور" كلقبٍ أكاديمي وبين غيرِه من ألقابِ حاملي الدرجاتِ العلمية بالكُلية الذين كنا نقضي معهم زمناً عسيراً أحياناً لتتبع أفكارهم التي كان يحاولون شرحها في إخلاص، غير أَنهم لم يكونوا يصُيبون دائماً شاكلةَ الرَمي، وذلك لان الأمورَ ربما لم تكن واضحةً في أذهانِهم هُم وضوحَها لدي البروف الذي عادةً ما كنا نُمضي معه وقتاً خِصباً مُمتعاً، وهكذا فهمنا عملياً الفرقَ بين هذه الألقاب الجامعية. كان أذا أتاه أحدُ الطلبة مستفهما أجابهَ إلى طِلْبَتِه، وسَيخرجْ ذلك السائلُ من مكتبه لا محاله مُثقلاً بعددٍ من الكتب والفُصول المصورةِ وأوراقِ الدراساتِ التي تحتوي على الإجابة المُفصلة لما سَأل، حاضاً إياه على مطالعتها. وكم كنا نستعذبُ طعمَ أقداحِ الشاي ونجدُ لها لذةً ومذاقاً مُختلفاً في مكتب محمد هاشم، إذا تصادفَ ووجدناه في إحدى فُسحاتِه، وما كانَ أقلَّ تلك الفُسحات، غيرَ أننا كنا نتواصى بان لا نسأل البروف سؤلاً واحداً أبداً، لأن هناك إجابةً واحدةً مكرورة تنتظرنا دائماً وذلك السؤال هو (أين يجب أن أعملَ بعد تخرجي) ستكون الإجابة جاهزةً وسريعة: "حاولْ أن تجدَ لك عملاً في رِهيد البِردي". ولأننا كنا نستهجنُ هذه الإجابة التي تُريد أن تحملْنا بعيداً عن الحواضر، لا سيما الخرطوم محل الطيارة بتقوم، إلا أننا وبعد كل هذه السنوات أدركنا أن البروف كان يريد لنا في أعمارنا الغَضةِ تلك، أن نختبرَ الحياةَ الحقيقيةَ لعامة السودانيين الذين هم في الغالب في الأريافِ الفسيحة، تلك الأريافُ التي أتى منها البروف نفسه. ماذا بقي من محمد هاشم: لقد كانَ محمد هاشم عوض هو الرجلُ الذي صاغَ شعارَ( السودان سلةُ غذاءِ العالم العربي)، ذلك الشعارُ الذي عُقدت لأجله المؤتمراتُ وتَدفقت على أساسه المنحُ والاستثماراتُ والقروض، ومِن عجبٍ أن الرجلَ الذي صاغَ البرنامجَ وفصله إلى خططٍ ومراحلَ عملية لم يحظَ بتطبيقِه، إذ سُرعان ما أختطفَه آخرون ملأوا به أشداقَهم وأوكلوه هِممَهم الباردةَ فانتهت به إلى لا شيء. لم يكنْ الرجلُ من غَوغائية الشعاراتِ في شيء، إلا أنه كان يؤمنُ فعلاً بأن قدراتِ السودانِ وإمكاناتِه مما يؤهلُهُ بقليلٍ من إحكامِ التنظيم وزيادةِ رأس المال المُستثمر، من أن يحققَ تلك الغايةَ الحُلم. كما أنه لم يرفعَ عقيرتَه يوماً بشعاراتِ "الإسلام هو الحل"، وصنوه الآخر "لا شرقية ولا غربية"، إلا أنه مضى مستهدياً بالمعرفةِ التامة التي حصَّلها في علمِ الاقتصاد وبالمبادئ العامة للدين الذي عَرَفَه فأحبَّه محاولاً رسمَ الخطوطِ العامةِ لاقتصادٍ إسلاميٍ رشيد مزاوجاً بين طموحاتِ القِيم الهادية ومُمكنات الواقع وسُننه. كانَ جانباً من نقدهِ للنظامِ الرأسمالي، بحسب ما فهمتُهُ عنه، يقومُ على أنه اقتصادٌ أزمويٌ من تلقاءِ طبيعته، وإذا استعرنا رطانةَ أهل اليسار لقلنا بأنه يحملُ داخلَه بذورَ أزماته، بكلِ ما تنطوي عليه تلك الأزماتُ من مُعاناة إنسانية تفوقُ حدودَ الوصف، ذلك لأنه يقومُ على النظام الربوي الذي هو العمودُ الفِقَرِي لنظامِ الإقراض، فلا يمكنْ، وفقاً لهذه الرؤية، أن يُسترد رأسُ المال الذي تم إقراضُه زائداً الفائدة الربيويةَ إلا إذا عَجز أحدُ المدينين أو عددٌ منهم عن الوفاء بأصول الدين إضافةً إلى فوائدِهِ، تلكَ هي السبيلُ الوحيدة التي ستُمكن الآخرين من الوفاءِ بالتزاماتهم لتدور العجلةُ مرةً أخرى، وسوف تتأكد هذه الرؤية بأخذِها للتطبيقِ على الصعيد العالمي واضعينَ في الاعتبار حجمَ النقد المتداول والذي هو التعبيرُ الاقتصاديُ الوحيد عن القيمة. كانَ محمد هاشم يُؤمن بتواضِعِه الأثير بأن الاقتصاد الإسلامي، كما يفهمُه هو، يُمكن أن يسهمَ في تقديمِ حلٍ ممكن للخروج من هذه الدائرةِ الشريرة. تبقى هذه الرؤية – إذا أحسنتُ عرضَها – واحدةً من إسهاماته الفكريةِ التي تتسم بالطَرافة والجِدة، وهي حقيقةٌ بأن تخرجَ إلى الناس بين دفتي كتابٍ واحد يعالجُها بالتفصيل، أرجو أن يتصدى لذلك أحدُ طلاب الفقيد النابهين، وما أكثَرهم. كما أُعجبتُ أيضاً من بين أعمالِه التي قرأتُها بكتابِهِ (الاستغلالُ وفسادُ الحكم في السودان) الذي أصدَره في العام 1965م، حيث ناقشَ في ذلك الكتابِ التَصدُعْ في بنيةِ الدولة بعد سنواتٍ قلائلَ من أيلولتِها للنُخب الوطنيةِ التي ناطحت الاستعمارَ حتي أجلَته، وقد أبانَ فيه كيف أن هذه القوى نفسَها انقلبتْ على بعضِها في صراعٍ محموم على المغانم عشيةَ تحقيق حُلمِها الكبير. كانَ هذا الكتابُ صادماً من عِدة وجوه، أهمها إزالتُهُ عن ناظريَّ تلك الغِشاوة الرومانسية التي كنتُ أرمق بها جيلَ "الآباء المؤسسين" وكيف أضرت التهارشاتُ والتحالفاتُ بين تلكَ المجموعاتِ المتنافسةِ على الحكمِ ومغانمِه بجهازِ الدولة، وأضاعتْ من ثَمَّ فُرصاً ثمينةً للنهوض، ويبدو لي - وقد أكون مُخطئاً في ذلك – أن تلك اَلرؤيةَ كانتْ الأساسَ الذي إبتَنى عليه محمد هاشم قرارَ انضمامه إلى مؤسسات مايو وحكومةِ اختصاصيها فيها بعد، فلقد كانَ واضحاً لمُتصفحِ ذلك الكتاب بأن هنالك حاجةً للخروج من عَباءة هذه النُخب المُتعفنة التي ارتبطَت بالرأسمال الخارجي والداخلي وتماهت فيه بدافعٍ من أنانيتِها، تلك هي السبيلُ الوحيدة إن كان ثَمَّةَ أملٌ في إحداثِ أي تنميةٍ حقيقية، عَلاوة على أن الكتابَ يلقي أضواءاً كاشفة على بعض جوانب الواقع التَعس الذي نَجني المُر من ثمرهِ اليوم. سَيبقي عليكَ الحُزن ما بقي الدهر: كان الفقيدُ العزيز، ولا نزكيه على الله، مِن ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)}البقرة: الآية 46{، أوردَ الأمامُ البَغوي في تفسِيره أن كلمةَ يظنون هاهنا تعني يستيقنون، كانت هذه الفكرةُ المركزية المسيطرةُ مصدرَ إمدادٍ بطاقةٍ حيوية لا ينضبْ معينُها جعلتْ من محمد هاشم نسيجَ وحدِه. لقد عاشَ هذا المرءُ حياتَه كلها وما من رجلٍ يَفري فريَه في أَمري الدين والدنيا، كانَ كأنما نُصبَ أمامَ عينيه هدفٌ ماثلٌُ فهو ما ينفكُ رافعاً بصَرَه إليه ومنطلقاً لبلوغه في آن، ولم تكن هناكَ أدنى فرصة لكي يَزيغ عن بلوغِ مُرامه أو أن يترددَ دونه، وها هو الآن وقد بلغ الغايةَ واستراح متوسداً صَعيداً طيباً يأرجُ بعدما حوى السماحةَ والمروءةَ والندى، فعليه سلامُ الله في الخالدين. ويَقولُ مَن لم يَدرِ كُنهَك إنهمْ نَقصوا به عَدداً من الأَعدادِ هَيهاتَ! أَدرَجَ بينَ بُرديكَ الردى رَجلَ الرجالِ وأَوحدَ الآحادِ لو تمثلَ حبُ هذه البلاد رجلاً يمشي بين الناس، لما كانَ هذا الرجلُ إلا محمد هاشم. بيدَ أن حبَه لها لم يكن فلسفياً محضاً مُعلقاً في الهواء كلا، بل كان ضَرباً من ضُروب التصوف يُجَددُ صاحبُه عزماتِه كلَّ يومٍ ويُخرجُها كَدحاً إلى حيزِ الإِمكان والفعل بعزيمةٍ لا تعرفُ الكَلال إلى أن أتاهُ اليقين. لقد حباه اللهُ بقدرٍ غير عادي من سحرِ الشَخصية وبساطةِ السلوكِ والطباع، كانت هذه الخصالُ مع الشجاعةِ التي لا تتزلزل والتي أظهرها طوالَ سِني حياته هي التي ربطته بطلابهِ ومحبيهِ وعارفي فضله بروابطٍ لا يمكنُ فَصمُها. وهو، بلا أدنى ريب، أحدُ أنبلِ الشَخصيات التي يمكنُ أن يصادفَها المرءُ في حياتِه، ومِن سُوءِ حظِنا في السودان أنْ أمثاله نوادرٌ قليلون، بكاه كلُ من عَرفَه بالدموع، ورثاه أحدُ طلابِه بالشعر، وأبَّنتُه أنا بقصيدةٍ طَويلة هي هذه الكَلمات.