لن يأمل أكثر الناس تفاؤلاً أن يستوعب المؤتمر الوطني درس هجليج ليتواضع على سياسة تأخذ فى الاعتبار العاطفة الغائبة: الوطنية. فقد ضاع خيط هذه العاطفة على المؤتمر طويلاً. كرّه فيها خصومه حتى قال أحدهم (وهو ليس بطابور خامس) بإزاء هجليج: "حريقة في وطني إذا كان معنى ذلك أن اقف في صف المؤتمر الوطني". وتحرج آخر من معارضي النظام أن يشمت في وطنه في مناسبة اقتطاع جزء منه. ولما لم يعد للمؤتمر مفهوماً للوطن، ولا ممارسة بحقه، اكتفى بالحديث إلى نواة مؤيدية في الدفاع الشعبي والصوفية وجماعة من العلماء. فتجدهم عادوا بعد هجليج إلى نفرة الصوفية وتجييشهم في كتائب جهادية بما يجعلهم "دراويش وفرسان" الذي هو عنوان كتاب معروف للتيجاني عامر. وخرج طرف من هذه النواة يهدم "بيعاً" في الجريف غرب بغوغائية. وبالطبع وجدت هذه الجماعة إلهامها من خط المؤتمر الوطني بأن السودان الآن ملة واحدة بانفصال الجنوب وتبخر التنوع الثقافي. خرج هذا النفر يزيل "الدغمسة" في عبارة للرئيس البشير. لن يقوى المؤتمر الوطني على تجيير تدفق هذه العاطفة الوطنية لصالحه. وأعتقد أنه لم يحاول. وهذا عقل كبير منه. لقد نبه المعلقون إلى تلقائية هذا التعلق بالوطن الذي تجافته صفوة الحكم والسياسة. فقد كاد يبكيني خبر سيرة العرس التي أهملت غرضها "الذي مرقت له عصر" وعاجت على القيادة العامة لتكون من بين احتفلوا بالسودان "سيدا". وصار الوطن نزاعاً بين "قبائل" تلك الصفوة على دار للأب خربت، اتسم بشره وبائي للسلطان المُدر للمال، لا تلطفه ثقافة ولا يلجمه ميثاق. وهي الحالة التي وصفتها ب"الهرج البرجوازي الصغير". وفي فوضى هذا الهرج تمارس هذه الصفوة خفة يدها وعقلها معاً. ومصدر أكثر قساوتهم إنهم خلو من الثقافة. فلم ترقرق فؤادهم مثلاً مسرحية الألماني برتولد برخت "الأم شجاعة" الإنجيلية التي لم تقبل فيها الأم الحقيقة صراعاً مع امرأة إدعت بنوة طفلها لأن الصراع كان سينتهي إلى تمزيق الطفل إربا. ربما كانت القوات المسلحة أكبر الغانمين من عودة هذه العاطفة الغائبة. كتبت في بداية هذا القرن في كتابي (الإرهاق الخلاق) أن عقيدة تلك القوات الأصل قامت على الوطنية بمعنى حماية بيضة الوطن. ولكنه صار عظمة نزاع طويل حتى تلاشى أو كاد. وظلت خلال خمسة عقود تتبتكر العقائد القتالية في حرب ظلت فيها كالسيف وحدها "تتبضع" لها من سوق الأفكار الغالبة بين الصفوة السياسية. فقام قسمها على الدفاع عن وطن اشتراكي في وقت صعود نجم الاشتراكية. ثم جعلت حربها جهاداً كما رأينا منذ آخر الثمانينات. وها هي العاطفة الغائبة تعود ويأتي بها غمار الناس حتى بوابة القوات المسلحة. فالوطن في هذا العالم الكوكبي وطن غمار الناس كما لم يكن أبداً. فمعروف في التاريخ ان الطبقات الثرية لا وطن لها. فمثلاً كانت برجوازية روسيا القيصرية فرنسية اكثر منها روسية. وأزدادت وتيرة انتماء أهل الحظوة لغير وطنهم في عهد العولمة. فهم بغير حاجة لمستشفياته. فتأمينهم الصحي مكفول بالدولة أو بغيرها للعلاج في الخارج. ومن لم يبعث بولده للتعليم بالخارج دفع به إلى مدرسة أجنبية أو خاصة. ناهيك عن دور بالخارج وقصور. وبقى الوطن، مستشفياته ومدارسه المهملة، لمن لهم الله وعيشة السوق. وكان انفعال غمار الناس بهجليج ووجهة مسيرتهم هي شوقهم إلى وطن حر سعيد كريم. Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]