الثورة هي تعبير عن رفض لواقع مفروض، وتتخذ من الوسائل ما يتدرج من الكفاح المدني إلى الكفاح المسلّح وما بينهما لتحقيق الأهداف، الطريق إلى ترجمة الثورة من مرحلة كونها بذرة و إلى أن تُنْوِر وتثمر ليس سهلاً ولا ممهداً، هو سجال من المجابهة مع مقتضيات الرعاية ومهددات الفناء، هي صراع بين ظالم ومظلوم، شجرة الثورة عندما تُثمر تتكالب الأكلة على ثمارها كما تتكأكم العُقب على قصعتها. ليس عيباً أن تأكل الثمار وتُبقي على الشجرة قائمة أملاً في دورة جديدة من الإثمار، فهي بذلك تُسمن جوعتها وتُجزي ثمناً لإعراقها من تسارعها خلف الطريده، وتُمني نفسها بدورات أُخر. والثورة شجرة مشاعه، اصلها ثابت وظلالها متمددة وفروعها متعدده، يصيب خيرها الأخص والأعم، وترتقي بقدر الأشم وتهوي بصرح المغتر، وحتى تكون كل ذلك يجب أن يُسقها الجميع، وسقياها مزيج من إرادة وعزم وتخطيط بنظم وقول وكَلِم وعرق ودم. بهذه السقيا تنمو الثورة وتبلغ مرامها ويحصد الزارعون ثمارها، إختلال المزيج بزيادة أونقصان يكسبانها ضموراً في النمو ويقودانها إلى فناء محتوم. في الخامس والعشرين من مايو الماضي، أي قبل ثلاثة أسابيع بالتقريب، كتبت مقالاً بعنوان (من جزيرة سرنديب إلى دارفور) وألقيت بعَصَاى وهي ليست بخاصية عصى موسى عليه السلام التي لقفت ما كان يأفك سحرة فرعون ولكنها دون شك تقتبس خاصية الهش، وهي بذلك لا تقذف بأي توجس في نفس متلقفها وهي ملقاة. في ذلك المقال رميت ببعض ما استهوته مشهاتي التحليلية لما آل إليه حال (نمور التاميل إيلام) من هزيمة عسكرية مبينة وهي من نقيض النصر ومنسوخ الإستبانه بعد نضال دام أكثر من ثلاثين عاما، ونوهت إلى أن ما غشيهم وهم ليسوا نياماً وفعل فيهم ما فعل من استنيامهم ابديا وإن بدا لهم إنه لحين وتركت ابصارهم شاخصة من هول ما رأوا وستبقى حتما لبضعة سنين، ذلك الشبح قد يغشىَ ثوار دارفور وهم نيام، فكيف يكون المآل حينئذ للرائي والمُراء. لذلك أردت أن يتلقف ثوار دارفور تلك العصى ليهشّوا بها ليس بالطبع على غنم ولكن على الجوارح والكواسر الكثر والتي باتت قاب قوسين أو أدنى من دارفور المقصعة، ولا أخص بكلمة ثوار دارفور منسوبي الحركات فقط، فقد عَرّفت الثورة وسقياها، وبالتالي مَنْ أعنيهم أعم وأشمل. عندما كنا في الجولة الثالثة من مفاوضات أبوجا في العام 2004 كتبت مقالاً اشتمل على إشارة نوعية حول نَفَس المجتمع الدولي في مرافقة عدالة القضية حتى ينال أهل دارفور حقوقهم كاملة، وكم نبّهت إلى أن تجربتنا في المفاوضات والمستقاة من تجارب آخرين تعزز فهمنا بأن المجتمع الدولي وبقدر تعاطفه مع الأزمة الإنسانية وتفاعله معها فهو له كوابح قويه تفعل افاعيلها متى تجاوزت الأمور خطوطه الحمراء، لذلك قلت كما قال غيري كُثر بأن الركون بالكامل على فيضهم من الدعم المعنوي درقة هشّة لا تصد السهام الدكماء ناهيك عن تلك الحاده. ولأن النخوة الدولية مفتونة وتستهويها الإنتهاكات الإنسانية فقد سارعت إلى رفد صراخ وانين المقهورين وأحالته إلى تنين يقذف بلهيب يلهب لكنه لا يحرق فكان أن قام مقام سوط المروض وصوته اللذان جعلا الحكومة طوع البنان في كثير من الاحيان وإن راعدت وأزبدت لأنها تفعل ذلك استحياءاً يغلّفه استحماء. فرضع المجتمع الدولي دولاً ومنظمات لبناً سائغاً تمثّل في الكثير من العطايا التي غُلّفت بظلام الليل وقدّمت له بسخاء وابتسامات مَن ينشد الرضىَ في تجسيدٍ لفقه الضرورة بلغة متحجّبة وتأكيد للغاية تبرر الوسيلة ببلاغة متبرّجة. لا نُرِق مرقة المجتمع الدولي بعد أن احتسينا بعضه طوال سنوات الأزمة، وهي لم تتجاوز مرقة معنوية، رغم أننا كنا وما زلنا نحذّر من الإفراط من التشبّع به، لأنه إفراط يودي بنا إلى إرجاعه، وهو قطعاً إرجاع يجتر من أكباد القضية وأوصالها ما لا يستساغ مضغاً لنا ولا بلعا. من أقوال (الحكيم الفرعوني ايبيور) قوله (القلم سلاحك الذي وهبك الإله إياه وخصّك به وميّز به مكانتك بين الناس، فاحتفظ به نظيفاً ولا تعره لعدوك ولا تدع يداً تحركه غير ضميرك) ومع فارق القناعات الروحية بيننا وبينه فإن مضامين حكمته تكاد تتجسد عظماً ولحماً وروحاً في قضية دارفور التي هي اليوم في محل القلم بالنسبة لأهلها والتي لم يعرها الثوار لعدوهم فحسب بل أهدوه له، والعداوة هاهنا لا نستقصد بها بشراً يمشي على قدمين ولكن نعني بها ضمائر ومضمور منه ما فاض ومنه ما هو مكنون. لقد استأنست حكومة الإنقاذ بُشرىَ وارخت خِماراً وأبدت زينة واخفضت جناح الذل حينما وجدت أن المجتمع الدولي يُلقي سلاماً ويتحسس طريقه خاطباً ودّها جهراً، أو ربما رغب الإثنان إكمال مراسم لزفاف على النهج الغربي الذي يأتي في أكثر نسخه تتويجاً لمتوّج ما كانت تخفيه إلا سدائل لفظيه يُلقها الناجزون من على ربوة الإنقاذ حيناً وحين، وينشدها الغاوون دهرا. بيد أنها ما كانت لتستر عورتها إلا بقدر ما يراد لرحط بالي أن يستر عورة قامة بدناء. من يقرأ الواح الشرافة السياسية لحركات دارفور يجد أنها وضعت نقاطاً على حروف لا تُنقّط، وأسقطت علامة الشدّة مِن علىَ ما كان ينبغي أن يُشدد. لقد سقطت في مصيدة التعارك بالالفاظ ثم تجاوزت إلى وسم التصريحات بالأغلاظ وسعت إلى حسم المعارك بالسلاح وشقّت بينها جدولاً وملأته بالدماء وسبحت جميعها فيه. ذلك ما كانت تسعى إليه الحكومة فحققته واستخدمت كروتها بحنكه حيث أبدت رغبتها في إطلاق سراح الاسرىَ والمعتقلين بسبب أزمة دارفور من كل لون، ونادت بأنها تنشد التفاوض في الدوحة، واتبعته بكلمة (لكن) من نحاور والحركات كُثر هل تتفقون، افلا تتوحدون أو حتى تُوحّدون، وقبلها لهفت مواقع الحركة التي تواثقت معها جهراً وخانتها سراً عندما انقضّت على مواقعها في مهاجرية وقريضه وغيرها من وراء حجاب، ثم ما لبثت أن أغدغت عليها بما تحتمي بها ولم تستبن هي مِما. وطردت منظمات الإغاثة نهاراً وأعادتهم ليلاً واليل يُغطي الجبال، ثم غازلت الأحزاب نثراً ثم ألقت إليهم بقفاز التحدي في حلبة الإنتخابات ولكن قيّدت أيديهم بقيد القوانين وقالت أنا الخصم والحكم فما استبانوا ومضوا يعدّون العدّة لحتفهم أجمعين، وبدأت بغرز أظافرها في جسد الشريك الذي ضاق ذرعاً وبات قلبه معلّق بما تبقى من شهور لفضّ الشراكة الكبرى، وبدأت تهز النخلة الأمريكية لعلها تساقط عليها رطباً بعد أن أزالت إدارة أوباما الحراشيف الحادة من جذعها نزولاً عند أفاعيل الآفة الإقتصادية التي أجبرتها للإنحياز إلى طغيان المصلحة وفق المنطق الليبرالي المحض، والحقيقة لم يكن ذلك جديداً فالعلاقات تصابحها المصالح اولاً وتسعد قيلولتها المصالح ثانياً وتماسيها المصالح ثالثاً وربما تجد المبادي بين هذا وذاك فسحة للإستنشاق أحياناً حتى لا تختنق، وذلك من حق كل شعب على دولته. لقد بدأ وكأن أفول نجم دارفور هلالاً يتناظره الرآؤون في الافق، وويح القضية حين يتم الجمع بين الأفول والبزوغ في جملة واحدة لمضمون واحد، مشهد اشبه بيوم القيامه. هكذا تكاملت عند الإنقاذ النوايا المبيّتة والشرافة السياسية للحركات والأماني الخاويات للاحزاب والمصالح المشتركة للدول، كلها تكاملت وجبة دسمة أمام الإنقاذ، تتحين أبلغ اللحظات لالتهامها، ثم فاليكن ما يكون إما تُخمة أو مغص وكله دون صداع دارفور يهون. حري بنا أن نتحدث عن إرهاصات الخطر الماثل أمامنا والذي يتهدد القضية رغم عدالتها، تدركون أن نظام إشارات حركة السير للسيارات في الطرقات يبدأ بالأخضر ثم يعقبه تنيبّه بالأصفر قبل أن ينتقل للأحمر معبراً عن خطورة التجاوز، والبركان اول إرهاصاته تبدأ بإطلاق الدخان ثم يقذف بإسقاطات من ملافظ الغليان قبل أن تتدفق حِممه، ما من شيء لك الخيار في التعامل معه إلا وله إرهاصات تكون بمثابة الإنذار حتى لا يقول البعض بأنهم أُخِذوا على حين غره، بيد أن الموت الذي ليس لنا فيه خيار هو الوحيد الذي قد يأتي فجأه. من يقرأ القضية في عيون الحاضر ويقيس ذلك بما كانت عليه بين عامي 2003 و 2005 لا شك يُدرك أن تواتر الإرهاصات ماضٍ وبسرعه، لكن إلى أي مدى يواكب أهل دارفور هذا التسارع بما يوازيه من تحوط، لا يكاد يُرىَ. قال المهاتما غاندي ( ما الذي يعني للميت أو الأيتام أو الذين هم بلا مأوى إن كان الدمار الجنوني قد حدث تحت مًسمّىَ الدكتاتورية أو الإسم المقدّس للحرية أو الديموقراطية) لا فرق عندهم، إنهم يبحثون عن الخروج منه ولا يهمهم تحت أي مسمىَ، تماماً كما يفعل الغريق حين تمتد له يد لانتشاله، لا يبحث في أي يد هذه وإنما في كيف يتشبث بها، بالأمس كانت الحركات قريبة بجسدها وروحها من النازحين واللاجئين، تؤانسهم وتوعدهم وتمنيهم، لم تكن الحركات يوماً حكومة في حد ذاتها ومن ثم فلا ينبغي محاسبتها وفق ذلك الميزان، لكنها قطعاً تتحمل نصيبها من اخفاقات الإنضباط وعجزها من أن تحسن مزيج السقيا لشجرة الثورة، إذ سكبت دلاءاً بعكارتها على قوة الإرادة وألوية العزم وربط النظم ولباقة القول وبلاغة الكَلِم وإدرار العرق وصون إيراق الدم، وهي العوامل المؤطرة لسقيا راوية فأسّنتها، فكان مزيجها كمن يسقي مسكراً فقيهاً. لذا لا غرابة في أن تبدو الحركات اليوم غريبة في مخيلة النازحين وعصية الفهم عند اللاجئين، لم يعد بينها وبينهم ذلك القدر من الود والوقار، باتت معسكراتهم جميعها أكثر إحكاماً تحت نظر وبصر السلطة الحاكمة، السلطة التي أحالتهم إليها وحبستهم فيها، لم تسأل الحركات نفسها كيف حدث ذلك ولماذا آلت الأمور إلى هذا الدرك، لقد كان انشغالها بالتباري في استقطابها قبل أن تحقق لها أهدافها أشغل، وسهرت على استمالتها قبل أن تسهر على آمالها أكثر، والحال كذلك لم يعد يهمها من أي باب يأتيها الخلاص وإنه لمآل عظيم لو تعقلون. وبعد، أليس قول المهاتما غاندي أقرب لحال الحركات من النازحين واللاجئين؟. تسألونني أين دارفور من شبح نمور التاميل إيلام، لنبحث معاً، للشبح خصائص الإخفاء، تماماً كما يقولون دائماً في الإتفاقيات أن الشيطان في التفاصيل، فالنبحث في التفاصيل للقراءات القادمة لمآل الوضع السياسي في السودان، حيث يقال أن السودان يتصدر الدول التي تبيع اراضيها للمستثمرين الاجانب، افراداً كانوا أو شركات أو دول، وقبل ثمانية أشهر كانت الصين قد عقدت إتفاقيات دسمة مع الحكومة السريلانكية للإستثمار في سريلانكا، المناطق الملتهبة لم تكن بمعزل عن التنين الصيني، لذلك كان لزاماً أن تنتهي الحرب بأي شكل حتى يبدأ تدفق التنين إلى هناك، دارفور ومواردها والتدهور الإقتصادي الذي ضرب دولاً كبيره، يجعل منها مسرحاً للمزايدة بين مجرّد لجم الإنفلات الأمني وبين إصرار الثائر الدارفوري في نيل حقوقه كاملة وبين بسط الامن بتجفيف قدرته على البقاء مهما كانت أسنمتة شحماء، الجميع خاض اللعبة بقواعدها، حكومة الإنقاذ والإتحاد الأفريقي والقوى السياسية المحلية والحركة الشعبية والمجتمع الدولي، الوحيدون الذين لم يخوضوا اللعبة كما ينبغي هم حركات دارفور، لذلك ليس غريباً أن يصلوا بالأثر إلى بركة مياه لا أفق لشاطئه المناظر، فقد خلطوا أوراق اللعبة وأعادوا ترتيبها عشوائياً. لكن لا بد لنا من أن نبحث عن مخرج. لقد دعوت في أول مارس الماضي من خلال مقالي بعنوان (الحفاظ على من يحفظون السودان أولاً) إلى ضرورة تشكيل حكومة إنتقاليه محايده لتتولى تنفيذ الإتفاقيات واستكمال السلام في دارفور وتأجيل الإنتخابات وإجرائها في نهاية العام 2010 أملاً في أن تتمكن القوى السياسية من توفيق تواصلها مع القواعد بشكل عادل، فإذا لم يعربد الإغترار والود الذي هلّ على السلطة من خارج الحدود بمساعي تراشدها، وإذا ما ذهبت الغشاوة من عيون الأحزاب ليتمكنوا من رؤية الألوان على حقيقتها، وإذا ما أعاد الثوار ترتيب الأوراق فوضعوا الأول في مكانه، فإنني أحسب أن الحل الناجع للعقدة السودانية ما زال هو في الحكومة القومية الإنتقالية المحايدة وسيبقىَ بلا شك. ولكن بعدم ذلك فالنواكب تنفيذ التصميم الجميل الذي يحافظ على ميدان دارفور خالي من الحركات والعمليات، ونازحين ولاجئين يزدادون حيرة ويحتسبون في كل يوم من منهم مات وكم طفل فاقد تربوي قد (فات)، وأحزاب تسابق السراب وتحسبه انتخاب ديموقراطي شفاف، ومجتمع دولي نام قرير العين حيث تحولت المأساة من إنسانيه إلى سياسيه فصمتت أصوات المجموعات الضاغطه وتبعتها وسائل الإعلام، والصين وقد استرخت متمددة على مساحات شاسعة بطول السودان وعرضه باسم الثورة الزراعيه وما خفي أعظم، وآخرين من المجتمع الدولي يتلاهثون على ما تبقى من فتات اللحم والعظم، والإنقاذ وقد أنقذت نفسها وشرّعت حكمها، وحين يستغيث الشعب تأخذ نفساً وتقول لهم نفسي نفسي، ويظهر شبح نمور التاميل إيلام فيكون مرئياً لكل إنسان بعد أن كان خفياً. عبد الجبار محمود دوسه